السنة 20 العدد 188
2025/04/01

مكتبة غوتا البحثية: ذاكرة المعرفة وكنز المخطوطات الشرقية



 

 

د. خير الدين عبد الهادي - قسم اللغات الأجنبية – شعبة اللغة الألمانية



تعود جذور مكتبة غوتا البحثية إلى عام 1640، حين أرسى إرنست الأول، المعروف بالتقي (1601–1675)، دعائمها الأولى، جالبًا معه إرثًا فكريًا زاخرًا، ليضعه في رحاب دير الأوغسطينيين بمدينة غوتا في شرق ألمانيا. لم تكن هذه المكتبة مجرد مخزن للكتب، بل كانت مرآةً تعكس روح عصرها، إذ احتضنت بين رفوفها مخطوطاتٍ نادرة وكنوزًا فكرية ورثها الدوق عن أسلافه أو اقتناها في حرب الثلاثين عامًا. ومع بناء قصر فريدنشتاين، تَجلَّت رؤية إرنست الأول في تأسيس مكتبة البلاط الغوتية، التي باتت منارةً للعلم ورمزًا للتراث البروتستانتي.

 

وفي عام 1647، اتخذت المكتبة طابعها المؤسسي، عندما تمكن أمينها أندرياس رودولف (1601–1679) من اقتناء مجموعة كبيرة من الكتب، مما جعلها مركزًا فكريًا نابضًا بالحياة. ومع تعاقب الدوقات، ازدادت المكتبة ألقًا واتساعًا، حتى أصبحت في أواخر القرن الثامن عشر من أهم المكتبات البروتستانتية في الإمبراطورية القديمة، وموئلًا لعشاق المعرفة. لم يكن ذلك محض صدفة، فقد كان لكل حاكم بصمته، يوجّه دفة المكتبة على وفق رؤاه واهتماماته، فتراوحت بين كونها أداة للدعاية الدينية والسياسية، إلى مستودع للفكر الفلسفي والأدبي.

 

وفي عهد الدوق إرنست الثاني (1745–1804)، ازدهرت المكتبة، إذ أضيفت إليها مخطوطاتٌ نادرة وكتبٌ قديمة تعكس شغف الدوق بالمعرفة. وكان من أعظم إنجازاتها حصول المكتشف وعالم الطبيعة أولريش جاسبر زيتسن (1767–1811) على نحو 1500 مخطوطة عربية وتركية في أثناء رحلاته إلى الشرق الأوسط، ما جعل المكتبة جسرًا بين الحضارتين الشرقية والغربية، وواحدة من أهم المراكز البحثية للمخطوطات الشرقية في العالم الناطق بالألمانية.

 

وتُعد مكتبة غوتا البحثية اليوم إحدى أبرز المكتبات التاريخيَّة في ألمانيا، إذ تضم أكثر من مليوني مادة علميَّة وثقافيَّة. وتنفرد باحتوائها على مجموعات غنيَّة تسلط الضوء على تاريخ الثقافة والمعرفة في العصرين الحديث والحديث المبكر، وبصفتها مؤسَّسة أكاديميَّة تابعة لجامعة إرفورت، تشكّل مركزًا مهمًّا للمعلومات والخدمات العلميَّة. وتتميز المكتبة بأربع مجموعات رئيسة: مجموعة العصر الحديث المبكر، ومجموعة المخطوطات الشرقيَّة، ومجموعة بيرتيس الجغرافيَّة للخرائط، ومجموعة الرسائل الشخصيَّة التي كتبها المهاجرون الألمان إلى أمريكا.

 

واليوم، تُعيد جامعة نزوى إحياء هذا الإرث الثقافي العريق، إذ تستعد، بالتعاون مع مكتبة غوتا البحثية التابعة لجامعة إرفورت الألمانية، لتنظيم معرض نزوى للمخطوطات العربية، إذ ستُعرض كنوزٌ من المخطوطات النادرة، التي تحمل في طياتها عبق التاريخ وسحر الحروف العربية. وفي سبيل التحضير لهذا الحدث الاستثنائي، زار وفدٌ من الجامعة المكتبة في الخريف الماضي، ضمَّ كلًا من الدكتور خير الدين عبد الهادي، رئيس شعبة اللغة الألمانية، والدكتور مسعود الحديدي، رئيس قسم اللغة العربية، والدكتورة شفيقة وعيل من مركز الخليل للدراسات العربية والإنسانية، لوضع اللمسات الأخيرة على المعرض المرتقب.

 

إن هذا التعاون الثقافي يُعيد رسم خريطة الحوار المعرفي بين الشرق والغرب، حيث تلتقي المخطوطات العربية مع صدى صفحاتها العتيقة في رحاب مكتبة غوتا، ليبقى الكتاب شاهدًا على التاريخ، وجسرًا يعبرُ بنا نحو آفاقٍ من الفهم والتواصل الحضاري.



جانب من المخطوطات الشرقية المحفوظة في مكتبة غوتا

 

 

 

 

 

 

أقدم مخطوط عربي لكتاب "المسالك والممالك للإصطخري، يعود إلى عام ١١٧٣ م. وهي محفوظة في مكتبة غوتا البحثية، وأدرجت ضمن سجل ذاكرة العالم التابع لليونسكو 

 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة