شريعة الفلج: مورد للماء ورمز اجتماعي وثقافي
د.ناصر بن سيف السعدي
أستاذ مساعد
كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج
الشريعة مشتقة من الجذر ش-ر-ع، وتأتي بمعانٍ متعددة، أبرزها مشرعة الماء وهذا ما يعنينا في هذه العجالة، وهو المعنى المرتبط بالماء. وقد جاء ما نصه: "مشرعة الماء هي مورد الشاربة التي يشرعها الناس، فيشربون منها ويستقون، وربما شرعوها دوابهم حتى تشرعها وتشرب منها". كما جاء أيضا: "والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عِدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرا معينا لا يسقى بالرشاء"؛ مما يدل على أن الشريعة لا تعني مجرد وجود الماء، بل تشير إلى وفرة الماء واستدامته. وفي معنى آخر تعني الشريعة نقطة الوصول إلى الماء، كما جاء في النص: "الشريعة والشِّراع والمَشْرَعة: المواضع التي ينحدر إلى الماء منها". وعليه، فإن شريعة الفلج هي الموضع الذي ترده الدواب للشرب، وتمثل بداية ظهور الفلج إلى سطح الأرض إذا كان الفلج عديا، أو بداية القرية إذا كان الفلج عينيا أو غيليا. وفي كتاب الكوكب الدري ورد: "شريعة نهر يرده الواردون"، أي الموضع من النهر الذي يقصده الناس والمواشي للشرب والانتفاع بالماء. (الكوكب الدري، ج10، ص: 65.)
وتكمن أهمية شريعة الفلج في ارتباطها العميق بالمجتمع، إذ لم تكن مجرد مورد مائي، بل جزءا من النسيج الاجتماعي والثقافي، يتجلى حضورها في الأمثال الشعبية والأشعار. فالفلج، بما فيه الشريعة، لم يكن عنصرا زراعيا فقط، بل كان فضاء اجتماعيا يحمل دلالات تتعلق بالتعاون وتقاسم الموارد والتنظيم المجتمعي. لذا، فإن الأمثال الشعبية المرتبطة بشريعة الفلج تعكس العلاقات الاجتماعية، وأساليب إدارة الموارد، والتقاليد التي شكلت حياة المجتمع العماني.
"خلوها شريعة".
هذا المثل من الأمثال السائرة بين الناس، ويستخدم في سياقات ومناسبات متعددة. فقد يقال للإشارة إلى ضرورة التحرر من القيود والالتزامات الرسمية، كما قد يضرب للتعبير عن المشاع الذي يشارك فيه الجميع دون تمييز، وهو المعنى الأرجح لهذا المثل. والشريعة في هذا المثل رمز للمساواة والعدالة في توزيع الموارد المائية، إذ يتقاسم أفراد المجتمع نفس المصدر بطريقة متاحة للجميع دون احتكار. وهذه الدلالة الثقافية والاجتماعية تعكس فكرة التعاون والتكافل، إذ كانت المجتمعات الزراعية، مثل المجتمع العماني، تعتمد على الأفلاج موردا مشتركا يجب أن يكون متاحا للجميع دون تفاضل أو تمييز.
"نخلة الشريعة، والمرأة المطيعة، والناقة الطليعة".
يقال: "عليك بثلاث: نخلة الشريعة، والمرأة المطيعة، والناقة الطليعة". يعكس هذا المثل المقومات الأساسية التي يطمح إليها الإنسان في البيئة العمانية، النخلة، والمرأة، والناقة، إذ يجمع بين الاستقرار والعيش والتنقل. فالإنسان يحتاج إلى مورد مستدام مثل نخلة الشريعة، التي ترمز إلى الاستمرارية والوفرة نظرا لقربها من الفلج، مما يجعلها مصدرا دائما للغذاء والرزق. كما يؤكد أهمية شريك متفهم متمثل في المرأة المطيعة. أما الناقة الطليعة، فهي رمز للتنقل السريع والمرونة في السفر، وهي عنصر حيوي في حياة العربية عامة.
"مثل الهيامى ترى الشريعة".
يستخدم هذا المثل لتشبيه شدة التلهف والرغبة الكبيرة في نيل المراد، تماما كحال الإبل العطشى الهيامى عندما ترى الماء الشريعة. في المجتمعات العربية، وخاصة في البيئة العمانية، كان مشهد الإبل أو الحيوانات العطشى التي تهرع إلى موارد الماء مألوفا، نظرا لندرة المياه وأهميتها في الحياة اليومية. لذلك، استخدمت الإبل والماء مجازا في الأمثال الشعبية للتعبير عن التلهف الشديد والرغبة الجامحة في تحقيق الهدف. وأبرز ما في هذا المثل أن "الشريعة" وردت بمعنى المكان الذي ترده الحيوانات أو الإنسان للشرب.
فلجش(ك) حمضية يوردنه ثلاث ضبا.
في الأبيات الآتية، وإن لم يذكر الشاعر شريعة الفلج صراحة، إلا أنه أشار إلى الجزء الذي يُورد إليه للشرب، إذ يقول:
فلجش(ك) حمضية يوردنه ثلاث ضبا
ثنتيــــن يوردن والثــــــــالثة تربـــــى
تربـــى وتـــربى وتربى الخوخ واللمبا
حميضة اسم بلدة قديمة كانت يوما ما عامرة، وتقع في ولاية الكامل. أما "تربى" فتعني الاستمتاع بالمشهد والتأمل والنظر فيه بإعجاب، بينما الضبا جمع ضبية، وهو تشبيه شائع في الشعر العربي، إذ يُقصد به النساء الجميلات أو الظباء الرشيقة، مما يضفي على المشهد طابعا جماليا ورومانسيا. لم يكن اختيار الشاعر الفلج موقعا للمشهد عشوائيا، بل جاء مقصودا بعناية، فهو مصدر الحياة والماء في البيئة العمانية، لكنه لا يستخدم هنا فقط موردا للبقاء، بل يتحول إلى عنصر جمالي يضفي على المشهد أبعادا تتجاوز وظيفته المادية. كما أن اختيار الضباء في المشهد يتماشى مع الجو الجمالي، فهي ترمز إلى الرشاقة والجمال. فالضباء لا تندفع مباشرة نحو الماء كما تفعل الإبل، بل تتسم بالتردد والمراقبة قبل أن تقترب، مما يجعل المشهد أكثر شاعرية وانسجاما مع الطبيعة.
إذن، الفلج أو شريعة الفلج ليست مجرد عنصر مادي لتلبية الاحتياجات الأساسية من الماء، بل قد يتحول إلى عنصر معنوي وجمالي، إذ يصبح فضاء للاستمتاع، ومركزا للقاءات الاجتماعية والسياسية والعسكرية. فقد كان الناس يلتقون عند الفلج أو شريعته، يتبادلون الأحاديث، ويتواصلون اجتماعيا، وكان أيضا نقطة تجمع مهمة في الأحداث التاريخية. فقد ورد ذكر شريعة الفلج في سياقات تاريخية عدة، منها: في فتوى للإمام السالمي، إذ أشار إلى أن تجمع البادية على الشريعة لإرواء إبلهم ودوابهم كان يؤدي إلى انقطاع الماء عن أهل الفلج بسبب ضعفه، مما استدعى تنظيم استخدامه. (السالمي، ج4، ص: 563).
وفي الاستخدام العسكري، ورد ذكر شريعة فلج المحيدث من البطحاء موقعا استراتيجيا استخدمه محمد بن ناصر الغافري (القرن 18م) في تحركاته العسكرية، إذ نزل بها وأقام بعد معركة مع بني علي، محاصرا خصومه.( الأزكوي، ص: 167).
يظهر من هذه الدلالات أن شريعة الفلج ليست مجرد نقطة مائية، بل فضاء في الحياة العمانية، حيث تلتقي الحاجة للماء بالمكانة الجمالية والاجتماعية والسياسية.