السنة 20 العدد 188
2025/04/01

من الوقود الأحفوري إلى وقود المستقبل

انطلاق تحول عُمان نحو الهيدروجين الأخضر

 

 

د. راشد بن سعيد العبري

عميد كلية الهندسة و العمارة  ـ جامعة نزوى ـ

 

 

تقف سلطنة عُمان، الدولة ذات التاريخ الطويل والغني في قطاع الطاقة، عند مفترق طرق حاسمة لأكثر من 4 عقود، إذبنت السلطنة ازدهارها على احتياطات النفط والغاز الطبيعي، وهي موارد غذت نموها الاقتصادي ومكنتها من أن تصبح لاعباً مهماً في سوق الطاقة العالمي.

 

ومع ذلك، وإدراكاً للحاجة العالمية الملحة إلى حلول الطاقة المستدامة، وبدافع من قيادة صاحب الجلالة السلطان هيثمبن طارق بأن تكون عمان ذات رؤية مستقبلية في قطاع الطاقة، شرعت عُمان في رحلة طموحة لتنويع محفظتها للطاقة والانتقال من اعتمادها على الوقود الأحفوري نحو مستقبل مدعوم بالهيدروجين الأخضر. هذا التحول الاستراتيجي، الذي يتجسد في التزام الدولة بتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، ليس مجرد لفتة رمزية، بل خطة ملموسة ذات أهداف واضحة ومؤسسات مخصصة وتقدم ملموس؛ مما يشير إلى أن تحول عُمان نحو الهيدروجين الأخضر قد انطلق بالفعل.

 

لقد ارتبط اقتصاد عُمان ارتباطاً وثيقاً باعتمادها التاريخي على الوقود الأحفوري؛ منذ اكتشاف النفط في ستينيات القرن الماضي، إذ لعبت الهيدروكربونات دوراً مهيمناً، فأسهمت باستمرار في جزء كبير من دخل الصادرات والناتج المحلي الإجمالي للدولة. على سبيل المثال، في عام 2020، شكل النفط والغاز حوالي 60% من إجمالي دخل الصادرات العُمانية و 25% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الاعتماد شكل البنية التحتية والصناعات والمكانة الدولية للسلطنة، مما جعل عُمان منتجاً رئيساً في منطقة الشرق الأوسط، بل وحملت أكبر إنتاج للنفط والغاز الطبيعي خارج أوبك. وكانت الإيرادات المتولدة من هذه الموارد أساسية في تمويل برامج التنمية الوطنية ومشاريع البنية التحتية.

 

وإدراكاً للطبيعة المحدودة للوقود الأحفوري وضرورة معالجة تغيرالمناخ، تحوّلت عُمان استراتيجيا نحو الهيدروجين الأخضر، وأُضفى الطابع الرسمي على هذا الالتزام في عام 2022 بإعلان هدف تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، لتنضم إلى صفوف الدول ذات التفكير المستقبلي في المنطقة. وهذا الطموح مدعوم باستراتيجية عُمان الوطنية للانتقال المنظم إلى صافي الانبعاث الصفري، وهو التزام شامل يحدد مسار إزالة الكربون في قطاع الطاقة وتحديد المصادر الرئيسة للانبعاثات. وبالإضافة إلى المخاوف البيئية، فإن هذا التحول مدفوع بعوامل مثل: النظرة طويلة المدى لاحتياطيات الغاز، وإمكانات التنويع الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وتعزيز أمن الطاقة.

 

ومن هذا المنطلق وضعت عُمان أهدافاً طموحة لتصبح منتجاً ومصدراً عالمياً رئيساً للهيدروجين الأخضر، وهدفها الأولي إنتاج ما لا يقل عن مليون طن سنوياً من الهيدروجين الأخضربحلول عام 2030. ويتصاعد هذا الطموح إلى 3.75 مليون طن سنوياً بحلول عام 2040، وإلى 8.5 مليون طن سنوياً بحلول عام 2050. وحجم هذه الأهداف كبير، إذ تشير التوقعات إلى أن تحقيق هدف الهيدروجين لعام 2040 سيمثل 80% من صادرات الغاز الطبيعي المسال اليوم من حيث مكافئ الطاقة، ويمكن أن يضاعف هدف عام 2050 هذه الصادرات تقريباً. هذه الرؤية الجريئة تجعل الهيدروجينالأخضر ركيزة جديدة محتملة للاقتصاد العُماني، متجاوزة الهيمنة التقليدية للنفط والغاز.

 

يقع تنظيم هذا التحول الطموح تحت إشراف هيدروم (هيدروجين عُمان)، وهي كيان مستقل أنشأته الحكومة في عام 2022. تعمل هيدروم منظما للهيدروجين الأخضر في السلطنة، مكلفة بقيادة وإدارة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين. ومسؤولياتها متعددة الأوجه، وتشمل هيكلة مشاريع الهيدروجين الأخضر واسعة النطاق، وإدارة عملية المزاد لتخصيص الأراضي المملوكة للحكومة، والمساعدة في تطوير البنية التحتية المشتركة والصناعات المرتبطة بالنظام البيئي، والإشراف على تنفيذ مشاريع الهيدروجين. ويشيرالدور النشط لهيدروم إلى التزام الحكومة بتوفير إطار عمل مخصص لتطوير هذا القطاع الناشئ.

 

وأحرز تقدم كبير في تخصيص الأراضي وتطوير المشاريع، إذ حددت عُمان مساحات شاسعة من الأراضي، تبلغ حوالي 50,000 كيلومتر مربع (مساحة بحجم سلوفاكيا أو أكبر من مساحة اربع دول عربية مجتمعة وهي قطر والكويت والبحرين ولبنان)، على أنها مناسبة لتطوير مشاريع الهيدروجين المتجدد طويلة الأجل. هذا التوفر للأراضي، إلى جانب الظروف المواتية، يمثل ميزة كبيرة. وأجرت هيدروم بالفعلجولات ناجحة من المزادات العامة لتخصيص الأراضي: أسفرت الجولة الأولى عن منح ستة مشاريع للهيدروجين الأخضر. وانتهت الجولة الثانية من المزادات، مما أدى إلى توقيع مشروعين جديدين للهيدروجين الأخضر في ظفار بقيمة 11 مليار دولار أمريكي. ومن المتوقع أن ترفع هذه المشاريع، التي تقع في مناطق رئيسة مثل الدقم وظفار، إجمالي إنتاج الهيدروجين في عُمان إلى 1.38 مليون طن سنوياً بحلول عام 2030. تغطي المنطقة المخصصة لهذه المشاريع الأولية أكثر من 1,500 كيلومتر مربع، مع قدرة إنتاج سنوية إجمالية متوقعة تسلط الضوء على الخطوات الملموسة التي اتخذتلتحقيق الأهداف الوطنية.

 

وتمتلك عُمان العديد من المزايا الطبيعية التي تجعلها لاعباً تنافسياً في سوق الهيدروجين الأخضر العالمي، إذ تتمتع البلاد بموارد متجددة عالية الجودة، خاصة الطاقة الشمسية الكهروضوئية وطاقة الرياح، مع كثافة الإشعاع الشمسيالتي تعد من بين الأعلى عالمياً. بالإضافة إلى ذلك، توجد إمكانات كبيرة لطاقة الرياح على طول السواحل الجنوبيةوالجنوبية الشرقية. إلى جانب الكميات الهائلة من الأراضي المتاحة المناسبة للطاقة المتجددة واسعة النطاق وإنتاج الهيدروجين، إذ توفر هذه المزايا الطبيعية أساساً قوياً لإنتاج الهيدروجين الأخضرالتنافسي من حيث التكلفة. علاوة على ذلك، يوفر موقع عُمان الجغرافي الاستراتيجي، عند مفترق طرق أفريقيا وأوروبا والهند، وصولاً مريحاً إلى أسواق الاستيراد الرئيسة في أوروبا وآسيا؛ مماي عزز إمكاناتها مركزا تجاريا عالميا للهيدروجين.

 

وتستفيد عُمان بشكل استراتيجي من بنيتها التحتية الحالية وخبرتها من قطاع النفط والغاز الراسخ لتسهيل التحول إلى الهيدروجين الأخضر. وتتمتع البلاد بخبرة واسعة في التعامل مع الغاز الطبيعي المسال والأمونيا وتصديرهما، وهي مهارات قابلة للتطبيق مباشرة على اقتصاد الهيدروجين الجديد. تشتمل البنية التحتية للموانئ الحالية، وخاصة في صلالة وصحار وصور، بالفعل على محطات مناولة الأمونيا، التي يمكن تكييفها وتوسيعها لمشتقات الهيدروجين الأخضر. ويمكن أيضاً إعادة تدريب القوى العاملة الماهرة في قطاعالطاقة وإعادة نشرها؛ مما يضمن انتقالاً أكثر سلاسة وتعظيم القدرات المحلية. كما أن إمكانية إعادة استخدام البنية التحتية الحالية للوقود الأحفوري للوقود منخفض الانبعاثات تبسط عملية التطوير.

 

بالنظر إلى الحالة الحالية للتكنولوجيا والبنية التحتية، من المتوقع أن تكون الأمونيا الناقل الرئيس لصادرات الهيدروجين في المرحلة الأولية؛ لذا تمتلك عُمان بالفعل قدرة إنتاج الأمونيا وبنية تحتية للتصدير. ومع ذلك، لتلبية أهداف تصدير الهيدروجين الأخضرالطموحة، سيكون من الضروري توسيع قدرة تصدير الأمونيا، ربما بنسبة 20-30 ضعف القدرة الحالية بحلول عام 2030. ويتطلب ذلك استثمارات كبيرة في بنية تحتية جديدة، بما في ذلك خزانات تخزين الأمونيا وأرصفة المياه العميقة المخصصة في شكل خاص في موانئ مثل الدقم وصلالة.

 

بالإضافة إلى الصادرات، تدرك عُمان أهمية تنمية الفرص المحلية للهيدروجين الأخضر. وأحد المجالات الواعدة استبدال الهيدروجين القائم على الوقود الأحفوري الحالي في قطاع التكرير. وتستخدم عُمان حالياً كميات كبيرة من الهيدروجين المشتق من الغاز الطبيعي في عمليات تكرير النفط. ويقدم استبدال ذلك بالهيدروجين الأخضرالتنافسي من حيث التكلفة والمنتج محلياً مساراً مهمًا لخفض الانبعاثات. علاوة على ذلك، هناك إمكانية لاستخدام الهيدروجين الأخضر في العمليات الصناعية الأخرى التي تتطلب حرارة عالية. ويمكن أن يوفر تطوير سوق محلي قوي قاعدة طلب مستقرة ويعزز مكانة عُمان بشكل عام في سلسلة قيمة الهيدروجين الأخضر معنضوج الأسواق الدولية.

 

ويصنع توفير الهيدروجين الأخضر الوفير والمحتمل منخفض التكلفة أيضاً فرصة لعُمان لجذب الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة التي تسعى إلى إزالة الكربون من عملياتها. وتتطلب صناعات مثل الصلب الأخضر والألمنيوم والبولي سيليكون مدخلات طاقة كبيرة، وتبحث بشكل متزايد عن مواقع تتمتع بإمكانية الوصول إلى مصادر طاقة نظيفة وبأسعار معقولة؛ بوضع نفسها مركزا لإنتاج الهيدروجين الأخضر، ويمكن لعُمان جذب الاستثمار الأجنبي المباشروتعزيز تطوير قطاعات صناعية جديدة، مما يزيد من تنويعاقتصادها.

 

ويعد التحول إلى اقتصاد الهيدروجين الأخضر بفوائد اقتصادية كبيرة تتجاوز الصادرات، وسيتطلب التطوير واسع النطاق لمشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين استثمارات كبيرة، تقدر بـ 49 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030 لتوليد الطاقة المتجددة الأسيرة المخصصة لإنتاج الهيدروجين والتحليل الكهربائي، مع استثمارات إضافية في تحويل الأمونيا والطاقة المتجددة للشبكة. وستحفز هذه الاستثمارات النشاط الاقتصادي وتخلق فرص عمل جديدة عبر سلسلة القيمة، من بناء محطات الطاقة المتجددة وتشغيلها، إلى إنتاج الهيدروجين ونقله واستخدامه. علاوة على ذلك، فإن تطوير سلاسل التوريد المحلية والصناعات ذات الصلة، مع التركيز القوي على القيمة المحلية المضافة (ICV) مثلمايتضح من برنامج "مجد"، سيزيد من تعزيز الأثر الاقتصادي ويضمن توزيع فوائد هذا التحول على نطاق واسع داخل الاقتصاد العُماني.

 

ويعد وجود إطار سياسي وتنظيمي داعم أمراً بالغ الأهمية لتعزيز نمو قطاع الهيدروجين الأخضر. وقد اتخذت الحكومة العُمانية بالفعل خطوات في هذا الاتجاه بتخصيص الأراضي لمشاريع الهيدروجين المتجدد بأسعار تأجير مفيدة وفترات طويلة، التي من المتوقع أن تقلل من مخاطر المشروع وتجذب التمويل. إذ ستكون الجهود المستمرة لتطوير لوائح واضحة وتبسيط الإجراءات الإدارية وتوفير رؤية طويلة الأجل عن خطط الدعم ضرورية لجذب المزيد من الاستثمار وضمان التنفيذ الناجح للاستراتيجية الوطنية للهيدروجين.

 

أخيراً، يلعب التعاون الدولي ومذكرات التفاهم دوراً حيوياً فيالنهوض بطموحات عُمان في مجال الهيدروجين الأخضر. وقد شاركت عُمان بنشاط مع الشركاء الدوليين لاستكشاف فرص التعاون عبر سلسلة قيمة الهيدروجين. على سبيل المثال، وقعت مذكرة تفاهم بين هيدروم وشركة VNG   AG الألمانية لتقييم الإمكانات الاقتصادية لبناء سلسلة قيمة الهيدروجين الأخضر والأمونيا العُمانية الألمانية، بما في ذلك استكشاف اتفاقيات الشراء طويلة الأجل. بالإضافة إلى ذلك، وقعتاتفاقية دراسة مشتركة مع ميناء أمستردام ومحطات زينيث للطاقة وغازلوغ للتعاون في تطوير مسار الهيدروجين السائل إلى السوق للهيدروجين الأخضر المنتج في عُمان. وتسهل هذه التعاونات تبادل المعرفة ونقل التكنولوجيا وإقامة الشراكات الدولية اللازمة لتطوير سوق عالمي للهيدروجين الأخضر.

 

في الختام، فإن رحلة عُمان من دولة تعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري إلى قائد محتمل في اقتصاد الهيدروجين الأخضر تسير على قدم وساق، مع وجود أهداف طموحة وكيان وطني مخصص في هيدروم وتخصيص استراتيجي للأراضي ومزايا طبيعية والتزام بالاستفادة من البنية التحتية الحالية وتعزيز التعاون الدولي، لتحقق السلطنة خطوات كبيرة. والتركيز على الأمونيا كناقل تصدير أولي، إلى جانب تطوير فرص الاستخدام المحلي وإمكانات جذب الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، يرسم صورة واعدة للتنويعالاقتصادي في عُمان وإسهاماتها في مستقبل الطاقة العالمي المستدام. والتحول إلى الهيدروجين الأخضر في عُمان ليس مجرد رؤية؛ بل واقع ملموس ينطلق بسرعة، مما يجعل الدولة لاعباً رئيساً في مستقبل الوقود الناشئ.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة