مكتبات زرتها (2)
محمد الإسماعيلي
بعض المكتبات تُلهمك في روعة بنائها العمراني والفني والمعرفي في آنٍ واحد، تدفعك دفعًا إلى تدوين عبارات تلقي بظلالها على بوتقة ذلك السحر الطاغي على أروقة جمال رفوف الكتب وتقاسيم الأعمدة الكبرى أو كلِّ ما قد يرسم ملامح دافئة تحتضن تقاسيم العلم وتراتيل المتعلمين.
هذه المكتبة، التي زرتها منذ أيام للمرة الثالثة ولم أجدني أوفيت بحقّها، متنوّعة العلوم والمعارف، تضمُّ أمهات المصادر وجديد المراجع تحت سقف لامع مائل، إذ تتفرّد بتصميمها الخارجي الذي يوحي بقرص شمس يطلُّ نورا على ضفاف البحر. إنّها مكتبة الإسكندرية التي تتوسّد شاطئ البحر الأبيض المتوسط في محافظة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية، بل تُعد رمزا ثقافيا ومعلما حضاريا لهذه المدينة، التي لطالما أثارت خيالات المستشرقين والأدباء والفنانين، وأسالت حبر مدادهم، ووجهت مآلاهم نحو التأريخ والتوثيق منذ ما يزيد على 2300 عام من تأسيسها الأول.
كم تزدان هذه المكتبة جمالا باستقطابها سنويًا عدد ضخم من طلبة العلم من شتى بقاع العالم، يأتون للدراسة والبحث والتحقيق والتدوين والمطالعة، بل تتزيّن بهم حلقات المذاكرة وكراسيها وطاولاتها المتربعّة على عرش أفنيتها الخاصة بين أقسام المكتبة حسب تخصصاتها التي تحظى بعناية خاصة ... الجميع في خدمة العلم يرعون شؤونها ومصالحها؛ إلّا أن جمال هذا المشهد لن تقترب منك ذائقته دون سيرك بين شرايينها (أعني ممراتها) وأنت تستمع إلى ذلك الصمت الرهيب الذي تتجاذب عبرات المساءلة وهمسات المذاكرة وأزيز الاسترجاع والحفظ.
تتجوّل فيها وتشعر أنّك منطوٍ بين عالم أكبر يجمع دور الثقافة والفكر، والدراسات الاستراتيجية والاستشرافية، ومتاحف قومية تحتضن التراث والحضارة والطبيعة، ومراكز لصون المخطوطات والوثائق الأصيلة ونوادر الطبعات، وجداريات تعرض فنونا تشكيلية ووسائل بصرية متعددة الأغراض، وأنماطا إبداعية متنوعة، إلى جانب جملة من الأنشطة الترفيهية والثقافية الهادفة.
لا ريب أنّها تحفة جمالية في داخلها وخارجها على حد سواء، فقد تشرّفت بزيارة كبار العلماء والمفكرين، وقادات ورؤساء من مختلف دول العالم؛ بل يكفي أنها مخزون استراتيجي منظّم يزخر بمرجعيات علمية ضخمة بلغات عدّة وممكّنات هائلة ورقيا ورقميا.