أثر وتأثر 5
"شذرات من حياة الشيخ الفقيه عمرو بن عمرو بن عيسى بن عبد الله بن داود التندميرتي"*
بقلم خالد علي إبراهيم
باحث في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية
يسوق القدر القارئ في التاريخ الحديث إلى دهاليز لم تخطر في باله أنْ يفتح بابها؛ أو أن يكشف عنها الغطاء؛ نتيجة عدم التوثيق والتدوين والحفظ؛ على الرغم من وجود الأدوات البحثية التي تؤهل لتوثيق ما يقدر على حفظه وصونه من الضياع؛ لا سيما الذاكرة البشرية التي لا تزال تعيش بين أظهرنا وتسهم في عطائها وبذلها.
وأنا أبحث في حياة شيخنا القدوة عبد الله بن عمرو بن عمرو بن عيسى التندميرتي؛ استوقفتني مسيرة والده وغمار تجربته في الغربة وأرض المهجر؛ فسعيتُ جاهدًا أنْ أوثق شذرات من حياته للقارئ الكريم تعريفًا به وإجلائه للناس.
هو الشيخ الفقيه عمرو بن عمرو بن عيسى بن عبد الله بن داود، يعدّ من أعلام جبل نفوسة، ومن مشايخ وفقهاء تندميرة المصلحين، ووجه من وجاهات البلدة في عصرنا الحديث، الشيخ عمرو من مواليد 1321هـ، الموافق 1904م، نشأ في تندميرة وترعرع فيها، توفي عنه والده وهو في بطن أمه؛ فحمل اسمه وتوسم به تخليدًا لذكره وسيرًا على سيرته ونهجه، واقتفاء لأثر خاله الشيخ العالم عمرو بن عيسى التندميرتي رحمهم الله أجمعين.
تلقى تعليمه الأول في كُتّاب القرية في تندميرة بمسجد أبي قشقاش؛ على يدي الشيخ الفقيه امحمد مسعود المعلول والفقيه أحمد الرشاح والشيخ أيوب الباروني، وغيرهم من الأساتذة والفقهاء في تندميرة وقتذاك.
وبعد أنْ أمضى سنواته في طلب العلم واشتد عوده في تخصصه وتمكن في درسه، أصبح مدرّسًا في تندميرة، وانتقل من بعد ذلك إلى نالوت ودرّس فيها.
تعرّض للظلم والاضطهاد من الاحتلال الإيطالي؛ لأنه كان يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم؛ فسجن على إثر ذلك لشهرين كاملين.
ضاقت به الدنيا فشدّ الرحال سنة 1948م إلى تونس الخضراء فرارًا من الجور والظلم لا سيما بعد أنْ أصاب نفوسة قحط جادب وجفاف طال قيظه في تلكم السنين العجاف، إضافة إلى ظلم الطغاة وجبروت جُباة الضرائب، فنزل به المقام في جزيرة العلم والعلماء جربة العصماء، التي حوت أخبار السلف وفتحت للخلف الآفاق لينهلوا من معينها ويغترفوا من علمها، فكان مقامه في قرية (فاتو) في جامع (تاجديت) عمل فيها معلمًا ومدرسًا ومصلحًا ردحًا من الزمن، إلى أنْ عادت به أقدار الله وألطافه لمسقط رأسه تندميرة سنة عام 1963م. مشبّعًا بالمعرفة والعلم بعد أنْ خالط أعلام جربة والوافدين إليها في ذلكم الوقت، أمثال الشيخ سالم بن يعقوب والشيخ عمرو بن مرزوق ، فحين عودته إلى تندميرة عُيين فيها إمامًا لفصاحته وبلاغته في القول ولمكنته في الفقه وأحكامه.
عُرف الشيخ عمرو بن عمرو بأخلاقه السامية؛ وسلوكه المنضبط وخصاله السامقة؛ حفظتْ لنا الذاكرة البشرية في تاريخها الشفوي شذارات من حياته ومواقفه؛ أهمها أنه امتهن التعليم والتدريس في نالوت فكان من بين أولئك الذين علمهم الشيخ العلامة علي يحيى معمر حتى أنه ترك أثرًا طيبًا في نفس الشيخ علي ـــ رحمه الله ـــ فكان كلّما لقيه أظهر له الإجلال والتقدير والاحترام، ومن وفائه بشيخه جاء بعد وفاة الشيخ عمرو بن عمرو سنة 1977م إلى تندميرة مع بعض المشايخ والأعيان من بينهم الشيخ سليمان عون الله والشيخ عبدالله حنبولة والشيخ عيسى زغدود، وأدى واجب العزاء وواسى زميله الشيخ عبدالله وإخوته في وفاته شيخه عمرو بن عمرو.
وأقام ختمًا وأعطى كلمة وعظ فيها الناس وذكر شمايل الشيخ ومناقبه إبَّان دراستهم على يديه في نالوت ووجوده في تندميرة وتونس.
أسهم الشيخ عمرو بن عمرو ـــ رحمه الله ــــ في إصلاح ذات البين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما حلّ وارتحل، إذ ترك بصمة طيبة عُرفت بالتجديد والتغيير والإصلاح في تندميرة وإن لم تكتمل تلك المسيرة، إذ كان مشهودًا له بالخشية والورع، والتدين والالتزام، والجدية والحزم، يُقدم النصح لمن سأله، يوجه الشباب لمحاسن الأخلاق وأكرمها، يشرف على تربيتهم ويسعى لتلبية حاجاتهم، ومن المحاسن التي تُذكر في تاريخه أنه أشرف على تزويج جملة من شباب تندميرة من شابات تندميرتيات إبان وجودهم في جربة، وهجرتهم إليها أيام الجدب والقحط، حرصًا منه على العفة وصون الشباب والبنات في دار الغربة، أسهم في ذلك في زمن قلّ فيه الدرهم والدينار، حتى أنّ بعضهم لا يجد ما يأكل نتيجة العوز والحاجة، وهذا التكافل الاجتماعي ظهر مبكرًا في حياة الشيخ عمرو ــــ رحمه الله ـــ وجُعل من ضمن خصائصه القياديّة والإصلاحيّة التي أجلاها لشباب بلده والمسلمين لصون الشباب وإعفافهم والحفاظ على خصوصيتهم في دار الغربة.
بعد عودته ــــ رحمه الله ـــ إلى مسقط رأسه تندميرة، صار من كبار أعيانها ووجهائها الذين يبذلون جهدهم واجتهادهم في جمع الكلمة وتوحيد الصف، قام بمهمة التوعية الاجتماعية، والنصح والإصلاح، كما كان ــ رحمه الله ـــ يتمتع بصوت رخيم ندي أهلّه لإحياء مناسبات المولد الشريف والمآتم التي كانت تنشد فيها قصائد الوعظ والرقائق. إضافة إلى أنّه كان خطاطًا ينسخ كتب الأصحاب لا سيما تتعلق بالفقه وأصوله؛ ويحتفظ بها للرجوع عليها عند الحاجة؛ وهذا أيام شحّ الكتاب وقلّته.
توفى رحمه الله في 20 من شوال لعام 1397هـ، الموافق 3 من أكتوبر لعام 1977م¹.
وهذا تعريف موجز عن حياته ــ رحمه الله ـــ وكُلنا أمل أن ينبري أحد الباحثين للبحث والتنقيب عن شمائله ومكارمه التي توسمت بالخير والصلاح في حياته، فإن هذه السيرة وأمثالها حُقَّ لها أنْ تحفظ وتلقن لأجيال نفوسة والعالم الإسلامي أجمع.
كتبته: 2 شعبان 1446 هجري.
1 فراير 2025. ميلادي.
* المقال جزء من بحثي عن الشيخ عبدالله عمرو عمرو التندميرتي رحمة الله عليه.
¹: جلّ المعلومات الواردة في المقال نقلتها عن شخصيات من تندميرة أدركت جزءًا من تاريخ الشيخ عمرو -- رحمه الله --- وأوردتُ ذلك في البحث موثّقًا بالتاريخ والشهر واليوم.