السنة 20 العدد 187
2025/03/01

 

أصالة المكان

 

 

أشلي كراوسي

ترجمته: سامية بنت أحمد السليمانية

 

من متاجر الكتب المحلية إلى مقاهي القهوة المختصة، قضاء الوقت في أماكن متفردة ذات طابع خاص بإمكانه أن يثري إحساسك بذاتك.

تخيل أن تزور متجر كتب قديم يقبع في زاوية هادئة في ميدان البلدة. رائحة الورق العتيق، وصرير الأرضية الخشبية، والتوصيات الشخصية من صاحب المتجر، جميعها تخلق جواً حميماً وحقيقياً. يبدو هذا المتجر مكانا أصيلاً وشخصياً إذا ما قارنته بسلسلة متاجر كتب مملة في مجمع تجاري، بتصميمها الموحد ومعروضاتها المتوفرة بكميات كبيرة.

 

نطلق أنا وزميلتي على هذه التجربة التي استلهمناها في متجر كتب محلي: أصالة المكان، فهو ذاك الجوهر المتفرد الذي يجعل المكان أصيلاً ونابضاً بالحياة، ونعتقد أنه جزء مهم في حياتنا لكن غالباً ما يتم تناسيه.   

في العقود الثلاثة الماضية، أجمع علماء البيئة ومصممو المدن الحضرية أن أصالة المكان تبنى على التجربة الحسية. وبناءً على هذا التوجه، فَالأماكن الغنية بالمحفزات الحسية كالمناظر والأصوات والروائح هي الأماكن التي تعزز إحساسنا بالأصالة عبر استثارة حواسنا؛ لذا نجدها تخلق تجارب لا تنسى. إلا أن أبحاثنا تتحدى هذه الفكرة التقليدية، لتظهر أن تجربة أصالة المكان أكثر تعقيداً من ذلك. وقد تسهم التجارب الحسية في خلق إحساسنا بأصالة المكان؛ إلا أنها أبعد ما تكون عن كونها المحدد الوحيد. 

 

تعود أصالة المكان أيضاً إلى جوهره وشخصيته المتفردة، والطريقة التي يرتبط بها بجذوره الثقافية والتاريخية وأبعاده الروحية والواقعية. عندما طلب من المشاركين في دراستنا أن يسترجعوا ويكتبوا عن تجربة شعروا فيها أنهم أقرب إلى ذواتهم ومع المكان الذي كانوا فيه، أفادوا بإحساس عالٍ بأصالة المكان وتفرد التجربة الشخصية في التجربة التي كتبوا عنها. بمعنى آخر، تسهم الرابطة العاطفية والنفسية التي يكونها الناس مع الأماكن في إحساسهم بتفرد المكان وأصالته. كما هو الحال مع الطوب المكشوف، والأرضيات الخشبية، فارتباطها بالمجتمع وأجواء المكان بطابعها الخاص هو ما يجعل حانة عمرها قرون في لندن تبدو أكثر أصالة من حانة تجارية في الولايات المتحدة، أو لماذا يمكن لمتجر كتب محلي بأجوائه الخاصة، وارتباطه العميق بالمجتمع أن يستحضر إحساساً أقوى بالمكان مقارنة بسلسلة متاجر كتب.

 

إنّ مفهوم أصالة المكان ليس مجرد مجال بحث أكاديمي غامض، فالأماكن الأصيلة التي ما تزال تحافظ على هويتها التاريخية والثقافية ما هي إلا ركائز للهوية تمدنا بالإحساس بالانتماء والاستقرار والاستمرارية، وتمثل ملاذاً آمناً في ظل شيوع البيئات التجارية الموحدة في المجتمع المعاصر، إذ تعد مهرباً وكذلك تذكيراً بالفردانية والفرادة وسط رتابة الحياة اليومية. علاوة على ذلك، ترتبط أصالة المكان بإحساس الشخص بالتفرد، فإحساس الشخص بأنه صادق مع نفسه هدف يسعى إليه الجميع وسط الديناميكيات المتغيرة للحياة المعاصرة. 

 

وحسب البحث الذي أجريناه، عندما طلبنا من المشاركين أن يكتبوا عن مرة شعروا فيها بالارتباط بمكان معين، وجدنا أنهم لم يشعروا فقط في ذكراهم أن المكان أصيل فحسب، بل أحسوا بقدر عالٍ من التميز وإن كان بدرجة أقل. فكأن الشعور الإيجابي الذي يمنحه الارتباط بمكان معين انسكب في الكيفية التي يرى بها المشاركون أنفسهم. والعكس أيضا صحيح، فعندما طلبنا من المشاركين أن يسترجعوا وقتاً شعروا فيه أنهم أقرب إلى أنفسهم وصفوا شعوراً شخصيا أصيلاً وبالمقابل ارتفع تقييمهم لأصالة المكان الذي كانوا فيه وقتها. 

 

هذه العلاقة ثنائية الاتجاه بين الأصالة الشخصية والمكان لا تدعمها نتائج بحثنا فحسب؛ بل تؤيدها أفكار فلسفية وتجارب يومية. ويرى الفيلسوف مارتين هيديجر أن السكن لا يقتصر على الإقامة المادية، بل يتطلب ارتباطاً معنوياً بمحيطنا يعزز شعورنا بانتمائنا لوطن ما في هذا العالم. وبالمثل، يشير مفهوم "التو بوفيليا" الذي اقترحه الجغرافي يي-فو توان إلى العلاقة العاطفية بين الناس والأماكن، إذ يرى أن البيئات الغنية بالتاريخ والثقافة والتجارب الحسية تعزز الرفاه الشخصي والهوية. ويتجلى هذا الترابط أيضًا في التوجهات المعاصرة، إذ يفضل العديد من الأشخاص تجارب أصيلة تتناغم مع قيمهم العميقة وعواطفهم، مثل زيارة المتاجر المحلية المملوكة لأفراد أو الأحياء التاريخية بدلاً من المساحات التجارية الموحدة والمفرطة في الطابع التجاري.

 

وقد تساعد نتائج بحثنا المصممين المعماريين ومخططي المدن الحضرية الذين يعملون على خلق مساحات يتفاعل معها الناس على مستوى أعمق. وندعو أنا وزملائي لإعادة تقييم مبادئ التصميم، فنحن نشجع على التوجه نحو بيئات تعزز الروابط المعنوية والشعور بالانتماء عوضاً عن التركيز على الجاذبية الجمالية وحدها.

إن تبني هذا النهج يعد بتحقيق فوائد على مستوى الرفاه الشخصي والمجتمعي، وذلك بمساعدة الأفراد على الشعور بأنهم أكثر ارتباطًا وأصالة في بيئاتهم.

 

ويمكن لمصممي ومخططي المدن الحضرية أن يستحدثوا بيئات تُعزز حس الانتماء بإدخال عناصر تتماشى مع الثقافة المحلية وقيم المجتمع وتاريخه. على سبيل المثال، استلهم مصممو ممشى نهر سان أنطونيو في تكساس من تاريخ المنطقة وتراثها الثقافي الغني عبر إدخال عناصر تنتمي للجذور الإسبانية الاستعمارية، مثل: استخدام الحجر الجيري والبلاط الذي ينسب لهذه الجذور في التصاميم المعمارية. كما تضم المماشي والجسور والمساحات الطبيعية الفنون الشعبية المكسيكية والمنحوتات التقليدية، التي ترسخ الإحساس باستمرارية الماضي. ويوفر ذلك مساحة عامة تحفز التفاعل المجتمعي وتحتفي بالتقاليد المحلية. 

 

من المواقع التي تحاكي هذه التجربة حديقة "هاي لاين" في مدينة نيويورك بتحويل خط سكة حديد مرتفع سابق إلى حديقة تعكس الماضي الصناعي للمدينة مع تأكيد التجديد الحضري. ويأتي ذلك بالحفاظ على مسارات السكك الحديدية الأصلية ودمجها في تصميم الحديقة، إلى جانب زراعة نباتات محلية تحاكي الزهور البرية والأعشاب التي نمت طبيعيًا على طول المسارات المهجورة. كما يضم المكان تركيبات فنية ومساحات للعروض تعكس الثقافة النابضة بالحياة للمدينة؛ مما يشجع على التفاعل الاجتماعي ويمتن الإحساس بالمكان بين الزوار. 

 

وينطبق مفهوم أصالة المكان أيضاً على الطريقة التي نحيا بها كوننا أفرادا، فكما يؤكد الفيلسوف توان في مفهوم "التو بوفيليا" أن حبك لجوانب معينة في البيئة التي تعيش فيها يمنحك إحساساً قوياً بالانتماء والهوية. قس على ذلك حبك للمكان الذي تعيش فيه وتعمل وتلعب، ويؤثر بشكل كبير على وضعك النفسي والعاطفي. ففي بحثك لأماكن أصيلة إثراء لحياتك بمشاعر الانتماء والارتباط الوثيق.

 

لذا اخرج وابحث عن بيئة لها روابط وثيقة ومستمرة بالتاريخ والمجتمع. زر المقاهي ومتاجر الكتب المحلية، والأحياء التاريخية حيث يحتفى ويحتفظ بجوهر المكان. كن في الأماكن ذات القيمة الثقافية والمجتمعية العالية. ولا أظن أنه من المبالغة القول إن قضاء وقت في الأماكن التي تتناغم مع قيمك ومشاعرك يمنحك حياة أكثر معنى وإشباعاً. 

 

لقد اختبرتُ بنفسي التأثير القوي لأصالة المكان، فأنا غالبًا ما أنجذب إلى مقهى صغير مستقل بالقرب من منزلي، حيث تفوح رائحة القهوة الطازجة في أرجائه، ويوفر لي مساحة هادئة للعمل، إلى جانب فرصة شراء منتجات من الحرفيين والبائعين المحليين. إنه مكان يعرف فيه الباريستا اسمي، وتسير فيه المحادثات بسلاسة بين مرتادي المكان. هذا المكان يشعرني بالأصالة بطريقة لا يمكن أن يوفرها أي مقهى تابع لسلسلة تجارية؛ فهو ينبض بشخصية فريدة وإحساس بمجتمع يتماشى مع قيمي في التواصل والإبداع.

 

لقد أصبح قضاء الوقت هناك طقسًا يوميًا يجعلني راسخة في تلك اللحظة، ويساعدني على الشعور بالاتزان، مذكرًا إياي بمن أنا عليه، بعيدًا عن صخب الحياة اليومية.

 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة