القدس مهد الحضارات وهوية الحكايات
بقلم: عزا الحبسية
بينما كنتُ أستمع إلى قصيدة "في القدس" لتميم البرغوثي وأستشعرها، وإذا بي أرى يديّ تكتب عن القدس، كما لو أنني أتنفس هواءها، وأشعر بعبق تاريخها وأصالة شعبها. تتدفق الكلمات من قلبي كما تتدفق الأنهار نحو بحرها، تحمل معها مشاعر الحزن والأمل، الشوق والحنين.
أخطُّ على الورق صورًا للأزقة الضيقة، والبيوت القديمة التي تروي قصصًا عن الصمود والمقاومة. أستعيد ذكريات الأجداد الذين تماسكوا رغم الاحتلال، وسعيهم الدائم للحفاظ على هويتهم. أرى في ذهني أسواق القدس المليئة بالحياة، روائح التوابل والزيتون، وضحكات الأطفال الذين يلعبون تحت شجرة السرو القديمة.
كل كلمة أكتبها نداء لكل من غادر المدينة، وكل من يتوق للعودة. أشعر كأنني أنير شعلة الأمل في قلوب المشتاقين، وأرسم بأصابعي آفاقًا من الحرية والعدالة ... القدس ليست مجرد مكان، بل روح تتجذر في أعماقنا، تنادينا دوماً، وتُذكرنا بأن النضال مستمر، وأن الحق لا يموت.
القدس: مهد الحضارات وبداية الحكاية
عاصمة الروح والمدينة التي تتلألأ في سماء التاريخ كنجمة لا تغيب، تجمع بين الماضي وحاضر الحيّ. هي بستان من الذكريات والأحلام، تجسد آلام شعب وتطلعات أمة، وتُعبر عن صراع الهوية والوجود بألوان من الأمل والأسى.
تاريخ القدس يشبه رواية طويلة، كل صفحة فيها كُتبت بحبر من دماء الشهداء وعذابات السجناء، لكن أركانها متينة كالجبال، أُسست على إيمان ثابت منذ آلاف السنين. يروي الحجر في شوارعها القديمة قصص أنبياء ورجال عظماء، ويتحدث عن زيارة ملوك ورحالة جاوا من بلدان بعيدة ليشهدوا على جمالها ويجلبوا معها حكاياتهم.
هناك، في أزقة البلدة القديمة، تصطدم حواسك بعطر البهارات، وصوت المآذن، وضجيج الأسواق. تكتمل اللوحة ببائع المناقيش، وصوت الدفوف في الأعياد. إنما روح المدينة الأسمى تسكن في قبة الصخرة، حيث يلتقي السماء بالأرض، ويُشاهد الزائرون عظمة الفن الإسلامي في أبهى صورة.
القدس ليست مجرد موقع جغرافي يلتف حوله التاريخ؛ إنها رمزية عميقة تتجلى في قلوب أبناء الشعب الفلسطيني. هي المكان الذي يلتقي فيه الحلم بالواقع، وأغنية الفراق والوحدة. فلا تزال آمال العودة تُوقِد شغف الملايين، وما زالت قلوبهم تنبض بتفاصيلها، حتى لو تباعدت الأجساد.
في كل زاوية من زوايا المدينة حكاية تسرد تفاصيل الشتات والشوق. تغرد الحمائم فوق أسطح المنازل، وتُبصر الشجرة العتيقة في ساحة المسجد الأقصى قصص الماضي السحيق، حيث كانت تُزرع أحلام السلام والأمان. وعندما تتساقط الأمطار، تكتسي الأرض بلون الغيم، كأنها تبكي على ما صار ويصير، وتدعو السماء أن تتحقق الآمال.
القدس هي التحدي، هي التعبير عن وجود إنسانية لا تقبل الانكسار. هي الشهادة بأن الأرض تُزرع بالأمل، وأن الهوية تُصان بالحب. فكلما حاولت الأنواء تشويه صورتها، تجلت في قلوب محبيها أكثر من أي وقت مضى. تظل عاصمتنا الأبدية، وستبقى رمزا لكل ما هو كريم ونبيل ... فلنحافظ على حكايتها، ولنحلم بعودتها إلى حضن العدالة والسلام، لتظل القدس دائماً، عاصمة الروح.
القدس: عاصمة الروح وتاريخ القضية الفلسطينية
تُعد القدس، تلك البقعة المقدسة، محوراً للعقائد والأديان، رمزاً للصمود والمعاناة، وتاريخاً يمتد لعصور طويلة متراكمة، حيث تندمج فيها حكايات الأمل والأسى. يروي تاريخ القدس كيف أصبحت المدينة ملاذاً للأنبياء وهدفاً للغزاة، وكيف شكّلت مركزاً للتفاعل الثقافي والديني عبر التاريخ.
تأسست القدس منذ أكثر من خمسة آلاف عام، وشهدت العديد من الحضارات التي تعاقبت عليها، بدءًا من الكنعانيين، مروراً بالإمبراطورية الرومانية، وصولاً إلى الفتوحات الإسلامية. ولكنها لم تكن دوماً مكاناً للسلام، فقد شهدت صراعات وصدامات نتيجة لاختلاف العقائد والمعتقدات. ومع كل فترة تاريخية، كانت القدس تنسج قماشة جديدة من الذكريات، تحمل بين خيوطها قصص التضحية والرغبة في التحرر.
القدس في العصر الحديث: صراع الهوية وآمال التحرر
في العصر الحديث، اكتسبت قضية القدس بُعداً جديداً بعد الانتداب البريطاني على فلسطين وما تبعه من أحداث. في عام 1948، شهدت المدينة تقسيمًا قاسيًا، إذ أدت النكبة إلى تشتت الآلاف من الفلسطينيين وانقطاعهم عن مدينتهم. وبرزت قضية القدس رمزا لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه. إذ كان الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 حجر الزاوية في بداية صراع ممتد لتحديد هوية المدينة، وتجديد المطالب لتحقيق السلام العادل.
جاءت الانتفاضة الأولى في الثمانينات رد فعل شعبي على الاحتلال، معلنةً أن الفلسطينيين لن يستسلموا لعزلة القدس، بينما كانت الانتفاضة الثانية في بداية الألفية تعكس الغضب والإرادة الوطنية للشعب الفلسطيني. لكن مع كل جيل جديد، تظل إسرائيل مستمرة في استراتيجيات الاستيطان؛ مما يزيد من تعقيد القضية ونسج مآسي جديدة.
القدس، برمزيتها الكبيرة، ليست مجرد مدينة، بل تجسيد للنضال الفلسطيني. الشوارع التي تكتظ بالمحتجين والحجارة، تُحكى فيها قصص البطولات والمآسي. تشهد الأقصى والجلجلة على عصرٍ مضى، ولتظل معالمها التاريخية شاهدةً على صراعٍ لن يزول.