السنة 20 العدد 187
2025/03/01

 

 

النظرية الإنسانية لماسلو … بين علم النفس الحديث ونظرة الشريعة الإسلامية للحاجات

 

 

داود بن سليمان بن سعيد السليمي

ماجستير في التربية في الإرشاد والتوجيه

 

اهتم علماء النفس بدراسة الحاجات الإنسانية، وتعددت النظريات التي هدفت للوصول إلى تعريف شامل يصف ويرتب الحاجات لدى الكائن البشري حسب أهميتها لدى الفرد، وبتعدد النظريات اختلفت التعريفات لها.

 

عرف "Murphy" الحاجات بأنها: "حالة من الافتقار إلى شيء ما وإذا وجد يتحقق الإشباع والرضا لدى الإنسان أو الكائن الحي عامة، وتعود حالة الاتزان إلى الكيان العضوي والنفسي لديه".

 

  في عام 1943م ظهرت نظرية التدرج الهرمي للعالم الأمريكي "إبراهام ماسلو"، التي من أهم مبادئها:

أ- شعور الإنسان المستمر بالاحتياج؛ لذا خلق التوتر لديه، ومن خلال إشباع الحاجة يتم إنهاء حالة التوتر تلك.

ب- إن ترتيب الحاجات يبدأ بالحاجات الأساسية اللازمة لبقاء الإنسان، ثم تتدرج حسب أهميتها أو ضرورتها.

ج- إن عدم إشباع الحاجات مدة طويلة يؤدي إلى توتر وآلام نفسية لدى الإنسان.

 

تعد نظرية "ماسلو" رائدةً في تفسير الحاجات، ونقل الإنسان إلى مرحلة الإبداع وحل المشكلات، وتمثل نقطة البداية في تفسير الدوافع، ويمكن تطبيق هذه النظرية على مستوى فرد بذاته أو المجتمع، أو على بلد معين، ورتّب ماسلو الحاجات على وفق سلم هرمي حسب أولويتها، بحيث تتوقف على الدافعية لدى الأفراد للسعي لتحقيق الحاجات في المستوى الأعلى على مدى إشباع الحاجات في المستوى الأدنى، ومؤكداً أن الإرادة الحرة والحرية الشخصية للأفراد في اتخاذ قراراتهم في سبيل تحقيق نموهم الشخصي وإشباع احتياجاتهم، وترتيب الحاجات في السلم الهرمي كالآتي: 

1- الحاجات الأولية الفسيولوجية اللازمة للبقاء مثل الأكل والشرب، وتمثل قاعدة الهرم.

2- الحاجة للأمن، في الأسرة والمجتمع والدولة بشكل عام، باستمرار الدخل والحماية من الأخطار.

3- الحاجات الاجتماعية بالتعايش مع الآخرين، مثل الحب والصداقة والانتماء.

4- الحاجة إلى التقدير والاحترام والثقة من الآخرين.

5- حاجات تحقيق الذات وهي ما يميز الإنسان عن غيره وتجعله يبدع في التطوير وحل المشكلات، وتمثل قمة الهرم.

 

تبدو العلاقة جلية بين ما أورده "ماسلو" في نظريته وسبق الشريعة الإسلامية إلى تنظيم مصالح الناس، والجمع بينهما بما يحقق فوائد أفضل بتطبيق هذا الهرم خاصة في مجال التشريعات والأحكام التي تحقق مصالح الناس والترقي في مستوى تطويرهم وإبداعهم، كون الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان على الرغم من ثبات أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية.


 

تحدث العلماء المسلمون عن المصالح التي جاء الإسلام لتحقيقها، وقسموها على ثلاثة أنواع، واستقرؤوها من النصوص الشرعية، وأسموها المصالح الشرعية، ورتبوها حسب أهميتها كالآتي:

  • المصالح الضرورية، وهذه تتوقف عليها حياة الإنسان الدينية والدنيوية، ويندرج تحتها عدد من الضروريات وهي: 1- حفظ الدين.  2- حفظ النفس.  3- حفظ العقل.  4- حفظ النسل.  5- حفظ المال.  6- العدل والمساواة، أضافها الإمام الغزالي.  7- الحرية، أضافها الشيخ ابن عاشور.  8- حفظ أمن المجتمع والوطن، أضافها الشيخ القرة داغي.

  • المصالح الحاجية، وهي الافتقار إلى الشيء الذي إذا توفر لدى الإنسان رفع عنه الحرج والمشقة، وإذا لم يتحقق لم يحصل له موت أو فساد عظيم ولكن يصيبه حرج وضيق، وهي دون الضروريات.

  • المصالح التحسينية، وهي ما تقتضيه المروءة والآداب لسير الأمور على أقوم منهاج، وإذا فقدت لا يختل نظام الحياة دينيا ولا دنيويا، ومثالها الأخذ بمحاسن العادات مثل: لبس أحسن الثياب والمحافظة على النظافة واتخاذ الزينة.

 

إن الشريعة الإسلامية سبقت نظرية ماسلو في معالجة الحاجات البشرية؛ بتطبيق السياسة الشرعية بقواعدها العامة والمجردة، ومراعاة المقاصد والمصالح من خلال ضبط الحاجات حسب الأعراف التي تناسب البشر وطبيعة حياتهم؛ ولذا فإنه على من يسن القوانين الاستفادة من نظرية ماسلو لتسلسل الحاجات في مراعاة مصالح الناس وإشباع حاجاتهم التي تصعد بهم إلى تحقيق الذات والإبداع وحل المشكلات، مع ربط النظريات الإدارية الحديثة بالسياسة الشرعية ومقاصد الشريعة وضبطها بالضوابط الشرعية.

 

استفاد علم الاقتصاد من تطبيقات نظرية ماسلو؛ كون الاقتصاد فرع من العلوم التي تلبي الاحتياجات البشرية وتجلى ذلك في قطاعي التسويق والاستهلاك، فتعريف الاستهلاك في علم الاقتصاد هو: "كل عملية يراد منها إشباع الحاجات المتوالية والمتجددة للإنسان" وذلك بغض النظر عن نوع الاشباع أو كان حراما أم حلالاً، وهو ما يتوافق تماما مع المبدأ الذي أكده ماسلو في نظريته عن الإرادة الحرة والحرية الشخصية في إشباع الحاجات،وهذا الأمر لا تقره الشريعة؛ لأن إطلاق العنان لإشباع الحاجات دون ضوابط وقوانين سيؤدي في النهاية إلى الإضرار بالفرد والمجتمع معاً.

 

إن علم الاقتصاد الإسلامي ينظر إلى إشباع الحاجات بشكل عام من منظور شرعي وأخلاقي، ويرتكز على مبدأ استخلاف الله للإنسان في الأرض، وهذا المبدأ يقوم على أمرين في فلسفته وجوهره، هما التفويض الذي يعني أن استخدام الطيبات يجب أن يتم في إطار شرع الله وما أحله، والأمر الآخر هو التكليف الذي يعني أن الله تعالى فوض الإنسان بالاستمتاع بالطيبات على شرط التكليف بالاستخلاف في الأرض وإعمارها لقوله تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" بمعنى طلب منكم إعمار الأرض، وبما يصلحا ولا يفسدها حسب أوامره ونواهيه سبحانه وتعالى.

 

وأكد الإسلام عدم استغلال الإشباع للحاجات الإنسانية بما يضر الفرد أو المجتمع أو البيئة، فتعريف الاستهلاك من منظور الاقتصاد الإسلامي: "الوفاء بحاجة إنسانية مباشرة مشروعة إسلاميا" ويعبر بعض علماء الاقتصاد الإسلامي عن ذلك بقولهم: "إن الحاجة يجب أن تكون من الطيبات المضبوطة بضابط أن تكون حلالاً، ويتوصل إليها بوسيلة حلال".

 

إن جزئية الإرادة الحرة والحرية الشخصية في إشباع الحاجات في نظرية ماسلو، تتناقض مع المبادئ الشرعية للاستخلاف في الأرض وكيفية الإشباع  وطرق الاستهلاك، فالشريعة تحث على الاعتدال وعدم الإسراف، وبما لا يضر بالفرد والمجتمع والبيئة، وهي تراعي الحاجات الشخصية كما تراعي حاجات المجتمع والبيئة، وتبني ذلك على قواعد شرعية أصيلة وهي "لا ضرر ولا ضرار" و "الضرر يزال"، ومن هذا المبدأ علينا أن نأخذ من النظريات الحديثة ما يتوافق مع قواعد الشريعة السمحاء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" مع عدم الانغلاق على معطيات العصر وعلومه، والاستفادة منها بما يخدم نهضة الأمة الإسلامية.

 

إن عمليات البحث في التراث الإسلامي ودراسته، تمثل مجالاً مهما وخصباً لربط العلوم الإسلامية بمستجدات العلوم الحديثة، وإلقاء الضوء على ما سبق به علماء الشريعة وغيرهم من العلماء المسلمين من نظريات في مجالات عديدة، وتأتي أهمية الدراسات البحثية لتؤكد أن علوم الشريعة الإسلامية توسعت - وربما سبقت - في دراسة كثير من جوانب الحياة البشرية بما يصلحها ويعمر الأرض بعيدا عن الفساد والأنانية الشخصية.

 


 

 

:المراجع

الجهضمي، علي. (2020). مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي. مركز التعليم عن بعد، كلية العلوم الشرعية.

الهادي، سيف. (2020). مقاصد الشريعة. مركز التعليم عن بعد، كلية العلوم الشرعية.

الصغير، صغير. (2023). نظرية إبراهام ماسلو: التدرج في الحاجات الإنسانية، وعلاقتها بالسياسة الشرعية، وسن الأنظمة. المجلة العلمية للدراسات التجارية والبيئية، 14 (4)، (ص6-7)   dio 10.21608/jces.2023.345262

زهير، بغول. (2017). الدافعية والسلوك بين نظرية التدرج الهرمي لأبراهام ماسلو ونظرية العقل الثلاثي لبول مكلين. مجلة أبحاث نفسية وتربوية، 1 (10)، (12-13)  https://asjp.cerist.dz/en/article/27632 

عبدالقادر، شعشوع. (2016). الحاجات والسلوك الإنساني.المستودع الرقمي لجامعة ابن خلدون،9 (1)، (ص539)http://dspace.univ-tiaret.dz:80/handle/123456789/10789












 

إرسال تعليق عن هذه المقالة