السنة 20 العدد 186
2025/02/01

أثر وتأثر (4)

الشيخ سليمان عون الله؛ العالم المغمور!


 

 

خالد علي إبراهيم

باحث في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية

 

تعصف بي اللحظات حينما أتذكرُ صورة الشيخ سليمان عون الله، رحمه الله، بوقفته المهيبة؛ ونظرته الثاقبة؛ دون الغوص في دهاليز حياته، والتشرّب من سيرته، رغم قرب عهده وحداثة عصره إلا أنّ سيرته لم تنل حظًا من التدوين والحفظ والنشر؛ سمعتُ سماعًا عن حرصه ومتابعته لمستجدات الجبل وأحواله، وصحبته الدائمة لشيخنا الأستاذ علي يحيى معمر، عليه رحمة الله، فمنذ بدايات دراستي في كلية العلوم الشرعية يلفت نظري اسم (سليمان عون الله) الذي يعتلي اسمه بعض الكتب الأصحاب التي اشتغل عليها مع الشيخ علي يحيى معمر والأستاذ محمد ساسي زغدود؛ مثل كتاب النكاح للجناوني على سبيل المثال، وبعض الرسائل التي يرسلها أو يستلمها الشيخ علي يحيى معمر لا بدّ من ذكر اسمه أو سلام له من المتلقين أو المرسل إليهم.

 

 

وعلى مكانته المرموقة قاضٍ وصاحب فقه وعلم ودين؛ إلا أنه بقي مغمورًا في الأوساط العلميّة والأدبيّة؛ خارج نالوت وطرابلس؛ وتأسفتُ حقيقة ألا يكون لعالم مثله ترجمة في معجم أعلام الإباضيّة، الذي ضم مئات العلماء والأعلام من المشرق العربي إلى مغربنا الكبير؛ فأسعى جاهدًا في هذه المقالة أنْ أضع ترجمة¹ مبسطة للشيخ سليمان عون الله، عليه رحمة الله؛ على أنْ أتم ذلك إنْ بارك الله لي في الوقت والعمر بحثًا مفصلا أتتبع فيه نشأته وحياته وآثاره بين أبنائه وخلانه وممن كان له بهم صلة.

 

فاسمه الشيخ: سليمان بن أحمد بن سليمان بن يحيى بن أحمد بن يحيى عون الله؛ من مواليد نالوت شهر ديسمبر سنة1911م؛ عُقب دخول إيطاليا إلى ليبيا بشهرين. نشأ وتعلم مبادئ العربية وبعض سور القرآن الكريم على يد والده الشيخ أحمد عون الله² بداية؛ ثم انتقل إلى الكُتّاب كغيره من أقرانه، فتعلّم من فقهاء نالوت ومُعلميها وقتذاك؛ أمثال الشيخ عيسى يحيى الباروني وغيره من أعلام نالوت.

في سنة 1925م التحق بالمرحلة الابتدائية في نالوت، وأتم فيها الصفوف الثلاثة الأولى؛ حتى انتقل بعدها إلى طرابلس فأكمل بها الصف الرابع على يد الشيخ أحمد البكباك كما يروي ذلك بنفسه.


التحق الشيخ مثل غيره من عاشقي العلم والمعرفة بحلق الذكر والعلم في مساجد طرابلس أمثال حلقات الشيخ محمود إدريس في جامع أبي الخير؛ كما أشار عن مواظبته في الإجازات الصيفية على دروس الفقه والنحو التي يلقيها الشيخ رمضان الليني الجربي، عليه رحمة الله.


عُيّن بعد ذلك مدرّسًا بنالوت، ثَمّ بمدرسة سيناون الابتدائيّة، وبعدها فُصل من التعليم لتخلّفه عن الامتحان الذي أقيم في ذلكم الوقت بطرابلس؛ وكأنه في اختبار من الله تعالى على صبره ورضاه بقدر الله، فما أن فُصل من عمله حتى طُلب للتجنيد الإجباري سنة 1929م وهي دورة تدريبية مدتها ثلاثة أشهر تخرج فيها برتبة عريف؛ وما أن قامت الحرب العالمية الثانية حتى اشتد عليه الكرب والبلاء فتلقاه صابرًا محتسبًا. فتمّ ضمه بعد ذلك بموجب التعبئة العامة ليقضي ثمانية عشر شهرًا في طرابلس، إذ أسندت إليه رئاسة فرقة عسكرية تضم 150 نفرًا. ويصف الشيخ هذه المرحلة بقوله: "ومن نعم الله عليّ أنّ المدة التي قضيتها كانت كلها محل احترام وتقدير من جميع ضباط الجيش والجنود على سواء؛ كما لم أتسبب في إيذاء جنديّا واحدًا لا في ذاته ولا في معاشه."


سُرّح الشيخ من الجندية سنة 1942م فاشتغل بعدها بالتجارة حتى سنة 1944م حتى عُيّن مدرّسًا بمدرسة كاباو من قبل الإدارة البريطانيّة وقتذاك، ثم انتقل إلى مدرسة نالوت سنة 1947م وفيها توفي والده الشيخ أحمد عون الله، رحمه الله، الذي كان يشغل منصب القضاء؛ فبقي منصبه شاغرًا فعرض المتصرف الإنجليزي على الشيخ سليمان عون الله الانتقال إلى وظيفة والده ليكون قاضيًا؛ فقَبِلَ ذلك وكان له منصب القاضي بعد مجيء الموافقة من مجلس القضاء والتدريب في محكمة سوق الجمعة بطرابلس.

 

تمرّس في مهنته وتدرج فيها بين مدن ليبيا وقراها من وازن وتيجي وجادو وزوارة وسبها والخمس والبيضاء وغريان وطرابلس قاضيًا يحكم بما أنزل الله؛ ويقول الشيخ سليمان بعد سرده المدن التي اشتغل فيها قاضيًا: "ويعلم الله كم عدد الأحكام التي في هذه المحاكم بداية واستئنافًا؛ لم يُنقَضْ لي إلا حُكمين في الاستئناف وواحد في المحكمة العليا..." وله فضل السبق في تأسيس جامع الفتح بطرابلس، فهو من عرض على الأفاضل الأخيار المقترح وسعى سعيا حثيثا لتحقيقه وتنفيذه؛ مع من معه من أشياخ الجبل وأعيانه المقيمين في طرابلس. توفي رحمه الله يوم الجمعة 23 محرم 1413 ه‍جري؛
الموافق 24 يوليو 1992م.

 

هذا ما تيسّر لي تلخيصه ونشره في هذا المقال؛ وأدعو الله أن يبارك لي في الوقت والعمر حتى أنجز عنه بحثًا مفصّلًا؛ أضم فيه مناقبه وآثاره؛ إذ مثل هذا العَلَم الفذّ يُعرّف به للعالم لما بذله من عطاء وجهد تجاه العلم والقضاء والدين؛ رحمه الله رحمة واسعة؛ وجعله مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وحسن أولئك رفيقا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________
¹ توجد ترجمة مبسطة خطها الشيخ بيده في صفحتين ونصف؛ وهي مخطوطة غير مرقونة ولا مطبوعة؛ هي التي استقيت منها هذه المعلومات؛ حصلت عليها من حفيده الشيخ: طه خالد المقدمي.

² الشيخ أحمد سليمان عون الله من أعيان نالوت وقضاتها؛ اشتغل مفتيا وقاضيا؛ ترجم له أبو اليقظان في كتابه ملحق السير؛ غير أنّ الكتاب لا يزال مخطوطا ولم ير النور بعد.



إرسال تعليق عن هذه المقالة