"تقييم الجودة والمخاطر الصحية في أثناء العواصف الترابية في الشرق الأوسط"
الدكتور خليفة بن محمد بن ساعد الكندي
أستاذ مساعد في كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج
نشر فريق بحثي من هيئة البيئة وجامعة نزوى بسلطنة عمان دراسة
عنوانها:
"تقييم الجودة والمخاطر الصحية في أثناء العواصف الترابية في الشرق الأوسط"
في قلب الشرق الأوسط، حيث تلتقي الصحراء بالسماء في لوحة من الغبار والرياح، تبرز العواصف الترابية واحدة من أخطر التحديات البيئية التي تواجه المنطقة. هذه الظاهرة الطبيعية، التي كانت في الماضي مجرد حدث موسمي عابر، تحولت اليوم إلى أزمة متكررة تهدد جودة الهواء وصحة الإنسان، خاصة في المناطق الصحراوية وشبه القاحلة. ومع تزايد وتيرة هذه العواصف بسبب التغيرات المناخية، أصبح فهم أسبابها وتأثيراتها أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
الشكل 1 : (أ) منطقة الدراسة توضح ارتفاع مستوى سطح الأرض في المدن الرئيسة (مسقط، صور، الدقم، وصلالة) و (ب) صورة توضح صحاري الربع الخالي، النفود، والدهناء.
هذه الدراسة، التي تعتمد على تقنيات متطورة وبيانات دقيقة، تسلط الضوء على ديناميكيات تكوين العواصف الترابية وتأثيراتها المدمرة. باستخدام بيانات القمر الصناعي الأوروبي (ERA5)، وهو أحدث نموذج لإعادة التحليل المناخي طوره المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى، تمكنا من تحليل الظروف الجوية التي تؤدي إلى نشوء هذه العواصف. كما استُخدم نموذج (Hybrid Single-Particle Lagrangian Integrated Trajectory) لتتبع مسارات انتقال الغبار من منطقة نهري دجلة والفرات في العراق إلى سلطنة عمان؛ مما كشف عن دور هذه المناطق كونها مصادر رئيسة للغبار في المنطقة. ولم يقتصر التحليل على البيانات الفضائية، بل شمل أيضًا معلومات من محطات مراقبة جودة الهواء؛ مما وفر رؤية شاملة لتأثير العواصف الترابية على تركيزات الجسيمات الدقيقة PM2.5) و .(PM10 ورُكِّز على أربع مدن عمانية، هي: مسقط، صلالة، صور، والدقم.
كشفت النتائج أن العواصف الترابية كانت ناجمة عن تكون حاجز ضغط مرتفع فوق المملكة العربية السعودية، يفصل بين منخفضين جويين عميقين بين شمال إفريقيا وغرب إيران، مرتبطًا بمنخفض مقطوع من خطوط العرض المتوسطة مدعومًا بتدفقات الأنهار الجوية الاستوائية القادمة من إفريقيا؛ مما عزز من الأحوال الجوية غير المستقرة فوق شمال شبه الجزيرة العربية. كما كشفت النتائج أن منطقة نهري دجلة والفرات في العراق تُعد المصدر الرئيس للغبار الذي ينتقل إلى شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك سلطنة عمان. إذ أظهرت المسارات الجوية أن الغبار ينتقل عبر الصحاري الجنوبية للعراق والربع الخالي إلى المناطق الجنوبية من عمان. كما كشفت الدراسة أن الغبار المعدني المنقول بواسطة العواصف الترابية يُعد المصدر الأساس لتلوثِ الهواء بالجسيمات الدقيقة في الشرق الأوسط، إذ تُسهم المنطقة بنسبة 24% من انبعاثات الغبار العالمية.
الشكل 2. التغير المكاني والزماني لتركيزات الجسيمات الدقيقة (PM2.5) للعامين (أ) 1998 و(ب) 2021. مقارنة (ج) المتوسط السنوي لتركيزات PM2.5 لجميع المكونات ، و(د) تركيزات PM2.5 بعد إزالة الغبار لعام 2019. بالإضافة إلى ذلك، (هـ) الفرق في التوزيع المكاني لتركيزات PM2.5 مع الغبار ودونه في عام 2019، و(و) النسبة بين مستويات PM2.5 مع الغبار ودونه في عام 2019.
كما أظهرت بيانات الأقمار الصناعية أن تركيزات PM2.5 و PM10 تتزايد بشكل ملحوظ في أثناء العواصف الترابية، خاصة في المناطق الجنوبية والوسطى من شبه الجزيرة العربية. إذ سجلت مدينة صلالة وصور، مستويات مرتفعة من الجسيمات الدقيقة (PM2.5) مقارنة بمسقط؛ بسبب طبيعة التضاريس المفتوحة ومسارات الغبار. كما أظهرت الدراسة زيادة ملحوظة في معدلات الإصابة بالربو وأمراض الجهاز التنفسي، خاصة في صلالة وصور؛ بسبب التركيزات المرتفعة للجسيمات الدقيقة والغبار المنقول.
أوضحت الدراسة أن العواصف الترابية ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل تُسهم بشكل كبير في تدهور جودة الهواء وزيادة الأمراض التنفسية، خاصة في المناطق المفتوحة والمسطحة. كما أن التغير المناخي يُعد عاملًا رئيسا في زيادة تواتر هذه العواصف وتأثيراتها البيئية والصحية. وفي المقابل تُظهر هذه الدراسة أن جزءًا كبيرًا من تلوث الهواء في الشرق الأوسط مرتبط بالعواصف الترابية والظروف الطبيعية، وليس فقط بالأنشطة البشرية هي المسبب الرئيس لارتفاع تلوث الهواء في الغبار. وعليه يمكن للمنظمات الدولية استخدام هذه النتائج لإعادة النظر في المعلومات والبيانات المغلوطة في هذا الموضوع، إذ يجب أن تأخذ المنظمات في الاعتبار أن الشرق الأوسط يواجه تحديات فريدة تتعلق بالتلوث الطبيعي بسبب بيئته الصحراوية. كم أن التوصيات الدولية بشأن التلوث الهوائي يجب أن تُفرق بين الإسهامات الطبيعية والبشرية؛ مما يُسهم في صياغة سياسات أكثر عدالة وفعالية.
الشكل 2 : (أ) نهر جوي نادر (مُشار إليه باللون الأزرق) يتسبب في حدوث عواصف ترابية عبر الشرق الأوسط في مايو 2022. (ب) الهواء البارد الهابط إلى منطقة دافئة يُنتج تيارات كثافة مع اضطرابات قوية عند الحواف الأمامية للعاصفة الترابية. (ج) عاصفة ترابية ورمال في العراق. لاحظ ارتفاع العاصفة الترابية، الذي يتجاوز ارتفاع مباني المنازل.
وتوصي هذه الدراسة بضرورة الاستثمار في أنظمة المراقبة والسياسات البيئية للحد من تأثيرات العواصف الترابية. كما أن اتخاذ تدابير استباقية مثل تطوير أنظمة الإنذار المبكر وتحسين إدارة جودة الهواء سيُسهم في حماية السكان وتقليل الأعباء الصحية والاقتصادية في المستقبل.
تشير نتائج الدراسة إلى الحاجة الملحّة لإجراء مزيد من الأبحاث والمشاريع العلمية على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي. كما تجدر الإشارة إلى أن معايير منظمة الصحة العالمية المتعلقة بجودة الهواء، وخصوصاً فيما يتعلق بالغبار، لا تتوافق مع المعايير الوطنية المعتمدة في دول مجلس التعاون الخليجي. وعليه، يتطلب الأمر إعادة النظر في هذه المعايير لضمان توافقها مع الظروف البيئية والصحية الإقليمية.
والجدير بالذكر أن سلطنة عمان ممثلة في هيئة البيئة نفّذت عددا من المشاريع في تطوير وتعزيز البرنامج الوطني المتكامل للرصد والرقابة البيئية لشبكة محطات جودة الهواء المحيط في سلطنة عُمان من ضمن المشاريع الاستراتيجية لخطة التنمية الخمسية العاشرة (2021 - 2025)، أحد أهم الأولويات لتحقيق الهدف الاستراتيجي "أوساط بيئية ذات جودة عالية وخالية من التلوث"، إذ يهدف البرنامج إلى حماية البيئة وصحة الإنسان دعماً لأهداف التنمية المستدامة، وتعزيز مركز سلطنة عمان في المؤشرات والبيانات البيئية الدولية ضمن مؤشرات أهداف التنمية المستدامة 2030 ومؤشر الأداء البيئي وتقارير التنافسية الاقتصادية العالمية، ودعم الأولويات الأخرى في رؤية عُمان 2040 كأولوية الصحة، وتنمية المحافظات، والبحث العلمي والابتكار، والإيفاء بالتزامات ومتطلبات الاتفاقيات البيئية الإقليمية والدولية ومتطلبات منظمات الأمم المتحدة المتعلقة بالصحة والبيئة والمجتمع.
كما يأتي اهتمام سلطنة عمان بالمحافظة على البيئة ومكافحة التلوث، من ضمنها التحكم في ملوثات الهواء، من حيث سنها العديد من القوانين واللوائح البيئية التي تنظم الحد من الانبعاثات الضارة في الغلاف الجوي، ومن ضمنها قانون حماية البيئة ومكافحة التلوث الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (114/2001)، وإصدار لائحة التحكم في ملوثات الهواء من مصادر ثابتة رقم ( 118/2004)، وإصدار لائحة جودة الهواء المحيط رقم (41/2017)، التي تحدد نسب جودة الهواء للغازات التي لها تأثير مباشر على البيئة وصحة الإنسان.
رابط الدراسة باللغة الانجليزية بالتفصيل:
Air Quality, Atmosphere & Health
https://doi.org/10.1007/s11869-024-01662-8