أسياد الحرف والكلمة ... اللغة العربية تحتفي بيومها العالمي:
بين دفء العامية وجمال الفصحى، ومع زخم التكنولوجيا وحداثتها، أين تجد لغتنا العربية مكانها وسط هذا العالم المتسارع؟
تقرير: ثويبة السليمية
في قلب الأمة العربية، تشرق لغة الضاد كنجمةٍ تتلألأ في سماء الحضارات. هي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل وعاءٌ للثقافة وناقلٌ للتراث، تحمل في ثناياها عبق الماضي وجمال الحاضر. تحتضن لغة الضاد تنوعًا لغويًا فريدًا، يعكس تنوع المجتمعات العربية واختلاف لهجاتها؛ لكنها تظل موحدةً في روحها ومعانيها العميقة.
تتجلى في اللغة العربية موسيقى الكلمات وسحر البلاغة، إذ تمزج بين الألفاظ وتعبر عن المشاعر والأفكار بأجمل الصور، فهي بتراكيبها الساحرة، تمنح الشعراء والفنانين أرضًا خصبة للإبداع، وتمكنهم من التعبير عن أعمق المشاعر وأصدقها. كل حرفٍ فيها يحمل قصة وكل كلمة تروي تجربة؛ مما يجعلها لغةً حيةً تتنفس بين صفحات الكتب ونبضات القلوب.
عندما نتحدث عن لغة الضاد، نتحدث عن هويةٍ تتشكل من حروفها وأصواتها، عن انتماءٍ وتجذرٍ في الأرض والتاريخ. إنها لغة العلم والفكر، مدينة إلى كافة الحضارات بإسهاماتها وتنوعها. فلنحتفل بلغة الضاد، ولندرك أنها ليست فقط أداة للتواصل، بل مرآة تعكس جمال الروح العربية وإبداعاتها التي لا تنتهي.
احتفاءً بجمال لغة الضاد ومكانتها الرفيعة، ناقشت صحيفة "إشراقة" كوكبة مميزة شاركت في فعاليات اليوم العالمي للغة العربية في كلية العلوم والآداب. استهدف الموضوع استكشاف آراء الحضور عن أهمية هذا اليوم ودوره في إبراز عظمة اللغة العربية حاضنة للثقافة والإبداع، ومصدر فخر يجمع بين عبق التراث وروح العصر.
هوية اللغة العربية: مسؤولية مشتركة وحضارية
تحدث رئيس قسم اللغة العربية، الدكتور مسعود بن سالم الحديدي، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، مؤكدًا أن العربية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل لغة الدين، القيم، والأخلاق. اختارها الله سبحانه وعاءً لكتابه العزيز، القرآن الكريم؛ مما منحها مكانة سامية بين اللغات.
وأشار إلى أن اللغة كائن حيّ يتأثر ويتطور مع تفاعل الشعوب والثورات التقنية والصناعية؛ ولذا، أصبحت مسؤولية الحفاظ على اللغة والنهوض بها مسؤولية قومية وعالمية مشتركة، تتطلب جهودًا من الحكومات والمؤسسات العامة والخاصة. هذا يتحقق بوضع سياسات وخطط لغوية صارمة تحمي اللغة، وتعزز مكانتها، وتجعل الالتزام بها واجبًا، مع التصدي لأي محاولات للتعدي عليها. ويبرز هذا التوجه في التشريعات العمانية، وعلى رأسها النظام الأساسي للدولة، الذي يعكس اهتمام الحكومة العمانية العميق بالحفاظ على الهوية اللغوية للأمة.
اللغة العربية: سحر الكلمات وهوية الأمة
لغة الضاد، هي لغة الشعراء والأدباء، لغة الحضارة والثقافة، تحمل في طيّاتها جماليات معبرة وثراءً لغويًا لا يُضاهى. إنها اللغة التي تُشعل في النفوس جذوة الإبداع، فتنسج من الكلمات لوحاتٍ فنيةً تتراقص على أنغام المعاني. تتعطر هذه اللغة بعبق التاريخ، إذ كانت وسيلة للتواصل بين الأمم والشعوب، ووسيلة لنقل المعرفة والفنون.
تمتاز لغة الضاد بقدرتها الفائقة على التعبير عن أدق المشاعر وأعمق الأفكار، فهي مرآة تعكس روح الإنسان العربي، وتترجم أحلامه وآلامه. من طريق حروفها، يُمكننا أن نكتشف عوالم جديدة، ونغوص في أعماق الفلسفة والأخلاق، ونتأمل جمال الطبيعة وعمق العلاقات الإنسانية.
إنها لغة الشعر الذي يُحلق بنا في سماوات الخيال، ولغة النثر الذي يُدغدغ مشاعرنا ويثير أفكارنا. تبقى لغة الضاد دائمًا في صدارة اللغات، فهي رمز للهوية والانتماء، ووعاء للثقافة التي تتجدد مع كل جيل؛ لتظل حية نابضة في وجدان كل محب لجمال الكلمة.
اللغة العربية والهوية الثقافية: روح الأمة وقلب حضارتها
اللغة نبض الهوية وعمودها الفقري، فمن دونها تتحول الهوية إلى كيان جامد فاقد للحياة. وفي هذا السياق، أشاد الأستاذ الدكتور أحمد بن خلفان الرواحي، رئيس جامعة نزوى، بمكانة اللغة العربية كروح للهوية الثقافية لهذه الأمة، موضحًا أنها الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر، ويعزز الانتماء الحضاري.
أما الدكتورة شفيقة وعيل، من قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، فأكدت أن اللغة ترتبط بالعقيدة والوجدان، مشيرة إلى أنها تحمل في طياتها ثقافة التاريخ، وتوثق صلتنا بمرجعياتنا وتاريخنا المجيد. هذه الصلة تجعلنا دائمًا على أهبة الاستعداد لحماية هذه الهوية التي ناضل من أجلها الأجداد، من شيوخ ومجاهدين، ممن دافعوا عنها وحرروها من قيود الاستعمار لتبقى راية الأصالة مرفوعة.
وتضيف أمينة بنت ناصر البلوشية، الحاصلة على ماجستير في اللغة العربية والنقد الأدبي الحديث بجامعة نزوى، أن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل كائن حيّ يتنفس بأفكارنا، ويترجم قيمنا، ويحمل هوية أمتنا. هي الرمز الذي يجسد عمق ثقافتنا، وحاضن المبادئ التي ننطلق منها لنواجه تحديات الحاضر ونبني المستقبل.
لغة الضاد بين التحديات والعولمة: صراع من أجل البقاء
في حديثنا عن اللغة العربية وما يحيط بها من تحديات، أشار الدكتور عيسى بن محمد السليماني، أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية العلوم والآداب في قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، والدكتور هلال بن محمود البريدي، الأستاذ المحاضر بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى، إلى جملة من التحديات التي تهدد مكانة العربية وتأثيرها.
من أبرز هذه التحديات، التأثير السلبي للغات الأجنبية الذي يتغلغل في مجالات التعليم والتكنولوجيا والإعلام؛ مما يؤدي إلى تقليص حضور الفصحى في الحياة اليومية وانحسار استخدامها. كما أن الفجوة الكبيرة بين اللهجات المحلية المتنوعة والفصحى تخلق صعوبة لدى بعضهم في التنقل بينهما؛ مما يضعف إلمام الأجيال الناشئة بلغة الضاد.
إضافة إلى ذلك، يُعد الاستعمار الثقافي والعولمة من أبرز العوامل التي تدفع بعضهم لتبني لغات أخرى على حساب لغتهم الأم. ومع ضعف الجهود المبذولة لتعزيز الإنماء اللغوي، تصبح هذه التحديات عائقًا أمام الحفاظ على رونق الفصحى ومكانتها في عالم يزخر بالتغيير.
ويمكن لتطوير التعليم باللغة العربية وتعزيز المحتوى الرقمي أن يشكل خطوة محورية في التصدي للتحديات التي تواجه لغة الضاد. وفي هذا السياق، تؤكد الدكتورة شفيقة أن التحدي الحقيقي لا يكمن في حضور اللغة العربية في الواقع المادي، بل في ترسيخ مكانتها في وجداننا. وتشير إلى ضرورة تجاوز النظرة الضيقة التي تختزل العربية في كونها إرثًا ماضيًا، فهي ليست مجرد لغة تقليدية أو شعارات تُرفع، بل لغة نابضة بالحياة، تحمل في طياتها مقومات الاستمرارية والإبداع.
من جانبه، يرى الأستاذ الدكتور رئيس الجامعة أن التقدم التقني والذكاء الاصطناعي يحملان إمكانات هائلة للحفاظ على اللغة العربية وتعزيز انتشارها. فهذه التقنيات تفتح آفاقًا واسعة لتيسير تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وتطوير أدوات متقدمة لفهمها والتفاعل معها، مما يسهم في جعلها أكثر قربًا وارتباطًا بالأجيال القادمة وبالعالم الرقمي المتسارع.
اللغة العربية: رمز الوجود وتحدي الزمن
ارتأت البلوشية أن اللغة العربية ركيزة هويتنا ومصدر فخرنا، إذ تحتل مكانة خاصة في قلوب أهلها. وفي هذا السياق، تقول د. شفيقة: "نحن نشعر بثقل المسؤولية تجاهها، ونسعى جاهدين لاستحضار أنفاسنا كي نواكب جمالها وجلالها". كما تدعو جميع أبناء اللغة إلى التكاتف في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، قائلة: "آن الأوان لنعزز وجودها، فالتاريخ لا ينتظر، وإذا غبنا عنها، فسنغيب طويلاً".
الكتابة الأدبية: بين النقد والشعور
يتحدث الدكتور السليماني عن تجربته في الكتابة الأدبية قائلاً: "الكتابة النقدية والأدبية تنبع من الغمر في قراءات متنوعة وثرية، إذ تعكس رحابة الفكر وعمق الرؤية". ويعبر عن شغفه بالنص الشعري الذي يتفاعل مع وجدانه، ليخلق بذلك أبعادًا تصورياً رائعة ومؤثرة. كما يشير إلى أن القراءات النقدية المتعددة للأجناس الأدبية تفتح أمامه آفاقًا جديدة، مستفيدًا من آراء النقاد الذين وضعوا أقدامهم في هذا المجال وقدموا لنا دروسًا لا تُنسى.
ويؤمن البريدي أن الكتابة أداة يعبر بها عن الأفكار والمشاعر، ووسيلة لمشاركة أعماق تجاربه الإنسانية مع الآخرين. فالأدب، كما يراه، ليس مجرد كلمات على الورق بل نافذة لاستكشاف الهوية الثقافية التي نمتلكها، منه نوثق تجاربنا الشخصية والأحداث التي تتشكل منها الحياة الاجتماعية والتاريخية التي نعيشها. ومنه نتمكن من الهروب إلى عوالم خيالية توسع آفاقنا وتنمّي خيالنا وإبداعنا. بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر الأدب على كونه وسيلة للمتعة أو الهروب، بل أيضًا أداة فاعلة للتغيير الاجتماعي، يعكس القضايا المعاصرة ويحرك النقاشات الفكرية والنقدية التي تحفز على التغيير والتفكير العميق.
الفصحى والعامية: بين التأثير والتحدي
يعرض البريدي التأثير المزدوج للهجات العامية على الفصحى، فبينما قد تسهم اللهجات في تراجع استعمال الفصحى، مما يعرقل تطور مهارات الأجيال المقبلة، إلا أنها في الوقت ذاته قد تسهم في إثرائها بإدخال مفردات وتعبيرات جديدة تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي. أما السليماني فيرى أن تأثير العامية على الفصحى يظهر بوضوح في مجال التعليم، إذ يواجه الطالب تحديات في فهم قواعد الفصحى عندما تسود اللهجات المحلية. كما أن التباين الواسع بين اللهجات وتنوعها قد يعمق الفجوة بين المتحدثين باللغة العربية، ويقلل من دور الفصحى حلقة وصل موحدة بين أبناء اللغة. وفي هذا السياق، يؤكد رئيس الجامعة أن الحفاظ على استعمال مفردات الفصحى في حياتنا اليومية أحد الأسس التي تسهم في بقاء اللغة العربية حية ومصانة من الانقراض.
مستقبل العربية: بين الحفاظ والتطوير
إن الحفاظ على اللغة العربية يتطلب جهودًا جماعية متضافرة، تشترك فيها المؤسسات التعليمية والأسر معا. ومن أبرز هذه الجهود، تشجيع القراءة بإنشاء المكتبات وإقامة المسابقات التي تحفز الجيل الجديد على استكشاف عالم الكتب. كما يعد الاستفادة من الكتاب الإلكتروني وربط اللغة العربية بالتكنولوجيا خطوة مهمة نحو تعزيز وجودها في فضاء الإنترنت. ولا بد من تشجيع الكتابة الإبداعية والترجمة لتعميق إثراء اللغة وتوسيع آفاقها. وقد أبرز هذا النهج كل من البريدي والسليماني، اللذين أكدا أهمية تفعيل هذه المبادرات لضمان مستقبل زاهر للغة العربية.