السنة 20 العدد 186
2025/02/01

بقع رمادية في علم الآثار


 

 

أ.د نائل حنون

 

مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية

جامعة نزوى

 

يختص علم الآثار (Archaeology) بإعادة تكوين صورة لحياة الأقوام في الماضي من طريق الدلائل المادية التي خلفتها تلك الأقوام. والمعنى الحرفي لمصطلح علم الآثار هو "دراسة كل شيء قديم". وهناك من يذهب إلى أن علم الآثار يشمل دراسة كل ما ينبذه الإنسان ويخرج من الاستعمال؛ لكننا نميل إلى القول إن هذا العلم يشمل كل ما انقطع عن استعماله وغاب عن الذاكرة. أما ما انقطع استعماله وبقي عالقًا في الذاكرة الحية للمجتمعات، أو تغير شكلًا وجوهرًا في استعمال جديد، فهو يدخل في مجال "التراث" (Heritage).

 

الوسيلة الأولى لعلم الآثار هي التنقيب واستظهار البقايا المادية للعصور القديمة في المواقع الأثرية. والوسيلة الثانية قراءة النقوش القديمة وتحليلها للحصول منها على معلومات عن الماضي. وفي التنقيب الأثري يعمل المنقبون بطريقة قد تكون مشابهة لعمل المحققين الجنائيين، فهم يجمعون الأدلة من بقايا الفخار والعظام والعمارة والفنون والنقوش الكتابية. ومن تفحص الأدلة يكونون الأفكار والنظريات لشرح مكتشفاتهم وتكوين صورة الماضي. وبهذا يكون علم الآثار الحديث مزيجاً من الملاحظات الدقيقة والتوثيق والتحليل واستعمال التقنيات العلمية الحديثة في الكشف عن البقايا القديمة وفحصها وتوثيقها والعمل الميداني المثابر، وأخيرًا التحليل والعمل الاستنتاجي.

 

ويعد علم الآثار علماً حديثًا نسبيًا، إذ إن قواعده العلمية لم ترسُ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. غير أن الكثيرين استمروا حتى نهاية ذلك القرن يهتمون بالماضي فقط للحصول على الكنوز أو الأعمال الفنية الجميلة لإضافتها إلى مجموعات مقتنياتهم؛ ولذلك كان هؤلاء يلحقون الدمار بالمواقع الأثرية أكثر مما يستكشفون من الحضارات القديمة. ومن أشهر الأمثلة على هذا كانت حفريات المستكشف الإيطالي جيوفاني بيلزوني Geovanni Belzoni الذي ألحق الدمار بكثير من المعابد والأضرحة المصرية القديمة في أوائل القرن التاسع عشر، وكان لا يتردد عن تقطيع التماثيل الكبيرة لغرض نقلها على أوروبا.






رسم يصور العاملين مع جيوفاني بيلزوني وهم يسحبون جزءا من تمثال رمسيس الثاني إلى نهر النيل ليشحن من هناك إلى إنجلترا.

 

من الأسماء البارزة في علم الآثار هاينريش شليمان Heinrich Schliemann الذي يعود إليه الفضل في إرساء أسس التنقيب الأثري العلمي الأول من طريق حفرياته في موقع حصارلك في غربي تركيا. وكان شليمان قد اختار هذا الموقع لاعتقاده أنه يعود إلى مدينة طروادة التي لم يكن يعرف عنها شيءٌ سوى ما رواه هوميروس في ملحمته الشعرية "الإلياذة". وثبت أن شليمان كان مصيبًا في اعتقاده ذاك، وحقق واحدًا من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1870م، حين كشف عن بقايا مدينة طروادة في ذلك الموقع بعمليات تنقيب أثري رائدة؛ لكن جانبه الصواب في افتراضات أخرى استمدها من ملاحم هوميروس الشعرية. ومن الأمثلة على هذا أنه نسب قناعًا ذهبيًا اكتشفه في قبر في مايسيناي Mycenae (جنوبي بلاد الإغريق) إلى الملك القديم أغاممنون Agamemnon الذي كان شديد الإعجاب به، حتى أنه أطلق اسمه على ابنه. غير أن التحليل المختبري للقناع أظهر أن تاريخه يعود إلى ما قبل زمن أغاممنون بنحو أربعة قرون.




رسم للقناع الذهبي الذي اكتشفه هاينريش شليمان في مايسيناي ونسبه خطئًا إلى الملك أغاممنون.

 

خدعة إنسان بلتداون

 

شاعت نظرية التطور لتشارلز داروين في القرن التاسع عشر. وهي النظرية التي تذهب إلى أن الإنسان يشترك مع القردة العليا في سلف واحد، وأن الإنسان الحديث كان حصيلة لعملية تطور وارتقاء، إلا أن تلك النظرية بقيت تفتقر لما سمي "الحلقة المفقودة" التي تمثل مرحلة الانتقال من السلف القديم إلى الإنسان الحديث. وعجز داروين عن تقديم ما يشغل فراغ هذه الحلقة. ويبدو أن بعض المتحمسين لتلك النظرية أرادوا حلَّ مسألة "الحلقة المفقودة" ولو بالتزوير. ففي عام 1912م أعلن عن اكتشاف بقايا عظمية من جمجمة في بلتداون بمقاطعة سسيكس في إنجلترا. وكانت تلك البقايا تتكون من كسرة من القحف وعظم فك سفلي، ومنهما كون شكل جمجمة إنسان أطلق عليه الاسم اللاتيني Eoanthropus (الإنسان الفجري). وبهذا الاكتشاف أشيع أن مسألة "الحلقة المفقودة" قد حلت. لكن الفحوصات المختبرية المتطورة في عام 1953م أثبتت أن كلا الكسرتين حديثتين، الأولى تعود إلى إنسان حديث، أما عظم الفك فيعود إلى قرد من صنف "إنسان الغاب" (Orang Otan)، وتاريخها أحدث من تاريخ الكسرة السابقة.

 

 

رسم لجمجمة إنسان بلتداون المركبة.

 

وكان ذلك الاكتشاف، كما ثبت علميًا، عبارة عن خدعة كبيرة دامت أكثر من أربعين عامًا قبل أن يكشف زيفها.

 

افتراضات السير ليونارد وولي

 

يعد السير ليونارد وولي من أشهر منقبي الآثار في القرن العشرين، وكان قد درس اللاهوت في مقتبل عمره؛ لكنه تحول إلى التخصص في الآثار؛ ولذا كان للجانب الديني تأثير كبير في طريقة تعامله مع وقائع العمل الأثري وتفسيره لبعض المكتشفات التي حققها. عمل وولي في التنقيب الأثري في إيطاليا ومصر وتركيا وسورية والعراق، وعمل ضابطًا في مخابرات الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، وحينها وقع أسيرًا بأيدي الأتراك مدة عامين (1916 – 1918م)؛ وذلك حينما كان وولي يشتغل على التنقيب في موقع مدينة كركميش القديمة في تركيا كان مساعده في إدارة التنقيب توماس إدوارد لورنس الذي اشتهر بلقب "لورنس العرب".



صورة التقطت لليونارد وولي (على اليمين) وتوماس لورنس (على اليسار) في موقع مدينة كركميش القديمة.

 

بعد الحرب العالمية الأولى انتقل وولي إلى العراق، حيث أدار عمليات تنقيب البعثة الأثرية المشتركة من المتحف البريطاني ومتحف جامعة بنسلفانيا في موقع مدينة أور في جنوب العراق من 1922 إلى 1934م. وكان مساعده في المواسم الستة الأخيرة هناك ماكس ملوان الذي تزوج آنئذٍ من الروائية الشهيرة أجاثا كريستي وأقاما في مقر البعثة الأثرية. وكانت تدير المقر زوجة ليونارد وولي التي كانت قاسية في تعاملها مع أعضاء البعثة. ويقال إن أجاثا كريستي، الخجولة والهادئة، ألفت روايتها "الشبح الرهيب" نكاية بزوجة وولي، إذ إنها جعلت الضحية في تلك الرواية زوجة رئيس البعثة الأثرية.

 

حقق ليونارد وولي في أور أحد أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين، وهو "المقبرة الملكية". لم تكن هذه المقبرة في سياق طبقي واضح في الموقع، ويعود الفضل في اكتشافها إلى دقة وولي وتتبعه الأدلة غير لافتة. وقد فسر وولي الممارسة التي وجدت في "المقبرة الملكية" على أنها تضحية بشرية بالاتباع حين دفن الملوك أو الأمراء المتوفين، وهو الرأي الذي ثبتت صحته بالدليل الكتابي الذي لم يكن معروفاً في أيام اكتشاف وولي للمقبرة. وكان الرأي الآخر في تفسير مراسم المقبرة يذهب إلى أنها كانت من شعائر "الزواج المقدس"، وهو ما لم تثبت صحته.

 

أخذ على ليونارد وولي تسرعه أحيانًا في الاستنتاج أو تقديم تفسيرات يريد لها أن تتوافق مع النصوص التوراتية. وهذا ما حدث في تفسيره لطبقة سميكة من الرواسب الطينية في الموقع على أنها من مخلفات الطوفان. ومن الادعاءات غير الصحيحة التي جاء بها وولي إعلانه عن اكتشاف بيت سيدنا إبراهيم في أور دون أي دليل. ومما يسجل في صالح وولي تقبله للأدلة العلمية واستعداده دومًا للتراجع عن الاستنتاجات التي لا تثبت صحتها. وهذا ما حدث بخصوص اكتشاف بيت سيدنا إبراهيم، إذ تراجع عن ادعائه فيما بعد. ويقال إنه جاء بهذا الادعاء لحاجة البعثة حينذاك إلى موارد مالية إضافية؛ مما دفع به إلى إثارة الرأي العام وبث الحماسة فيه. وبالفعل أدى ذلك الإعلان إلى اجتذاب تبرعات كثيرة أسهمت في تجاوز البعثة للصعوبات المالية التي تواجهها وتراجع وولي عن ادعائه. ومن المفارقات أن يحدث في السنوات الأخيرة أن يعود بعضهم إلى ادعاء وولي الأول، وبلغ بهم الأمر أنهم قاموا بترميم بقايا بيت من طبقة العصر البابلي القديم على أنه بيت سيدنا إبراهيم الذي كشف عنه وولي، دون معرفة بتراجعه عن ادعائه القديم، وجعلوا منه محجًا.

 

منح ليونارد وولي رتبة فارس في بريطانيا في عام 1935م تقديرًا لخدماته في مجال الآثار. وفي عام 1938م أصبح مستشارًا خاصًا بالشؤون الأثرية في الهند. ثم صار مستشارًا لقيادة قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وكان له دور مهم في حماية الآثار من مخاطر تلك الحرب، إذ إنه -نتيجة لمشورته- أصدر دوايت أيزنهاور، القائد الأعلى للحلفاء حينذاك ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد، أمرًا منع بموجبه تخريب المتاحف والمباني التي تضم كنوزًا أثرية وفنية، وحمايتها من النهب. وهذا الأمر الذي، للأسف الشديد، لم تفعله القيادة الأمريكية في أثناء غزو العراق بعد ذلك بأكثر من نصف قرن.       

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة