الاستكشاف الأثري قبل نشوء علم الآثار
أ.د. نائل حنون
مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية
جامعة نزوى
اجتذبت بقايا حضارات الشرق الأدنى اهتمام الغرب بشكل واسع منذ القرن السابع عشر الميلادي، ولكن علم الآثار وطرق التنقيب الأثري العلمي وفك رموز الكتابة المسمارية لم تتكامل وتنضج قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. ولكي نفهم كيف كان يتم تعامل الغرب مع حضارات العالم القديم علينا أن نطلع على ما قام به رواد الاستكشاف قبل ترسخ القواعد العلمية لهذا العلم الجديد الباحث عن القديم. وأول من نتحدث عنهم هنا مستكشف رائد لم ينقطع ذكره إلى اليوم في البحوث الأثرية؛ لما قام به من استخراج للآثار واستجلاء أكبر عدد من المواقع الأثرية التي تمكن من الوصول إليها يوم لا ضوابط تتحكم بعمله ولا قوانين تصون حماية التراث المادي القديم في بلدانه. وهذا المستكشف هو أوستن هنري ليرد Austen Henry Layard (1817 – 1894م).
كان السير أوستن هنري ليرد رحالة، مستكشفاً أثرياً، قارئ مسماريات، مؤرخ فن، رساماً، سياسياً ودبلوماسياً بريطانياً ولد في باريس، إذ كانت تقيم أسرته، وترعرع في فرنسا وتعلم الرسم فيها ودرس الفن الإيطالي. وبعد عودة أسرته إلى بريطانيا في عام 1829م عمل كاتباً مع عمه المحامي، ثم غادر إلى سيلان (سريلانكا حالياً) لممارسة المحاماة هناك.
بدأت صلة أوستن ليرد بحضارات الشرق الأدنى القديمة حين أخذ يتجول في المنطقة وهو يرسم المنحوتات البارزة الحجرية القديمة ويستنسخ النقوش المسمارية. قادته جولاته إلى الموصل وزار آثار نينوى ونمرود (موقع العاصمة الآشورية كلخ)، حتى عهد إليه السفير البريطاني في إسطنبول رئاسة بعثة غير رسمية ليقوم بالتنقيب عن الآثار في العراق. تلقى الدعم المالي من المتحف البريطاني لعملياته من عام 1845 إلى عام 1851م في نمرود. وهناك اكتشف بقايا أبنية ثمانية قصور ومعابد ضمت ألواحاً حجرية كبيرة تحمل مشاهد بالنحت البارز وتماثيل حجرية فضلاً عن قطع منحوتة من العاج وألواح مسمارية.
شملت عمليات تنقيب ليرد نينوى أيضاً التي كشف فيها عن قصر الملك الآشوري سنحاريب (704-680 ق.م)، واستخرج مجموعة كبيرة من الرقم الطينية التي تحمل كتابات مسمارية، وكانت جزءًا من أرشيف الدولة الاشورية. وهذا ما ساعد في التوصل إلى الخطوات النهائية لحل رموز الكتابة المسمارية، وهيأ معلومات واسعة عن التاريخ والتراث الآشوري – البابلي. وانتقل ليرد إلى مواقع العواصم والمدن الكبرى القديمة الأخرى لحفر مجسات فيها واستخراج الآثار منها. ومن هذه مواقع العاصمتين الآشوريتين آشور (قلعة الشرقاط حالياً) ودور – شروكين (خرسباد حالياً) وبابل وﻧِﭙُّر (نفر) ومواقع أخرى في جنوب العراق.
ولم تكن حفريات ليرد تتم بالطرق العلمية أو تهتم بالطبقات الأثرية، وإنما تعتمد الحفر بسرعة، من طريق خنادق وأنفاق، لاستخراج القطع الأثرية الأكثر أهمية في نظره. وبهذه الطريقة استخرج كميات هائلة من الآثار في وقت لم يكن التنقيب الثري قد أخذ أبعاده العلمية، ولم تكن هناك قوانين لحماية الآثار ومنع نقلها إلى الخارج؛ ولذلك كان قد تقررت مغادرته للعراق في عام 1851م لتجنب الأثر المحرج الذي سببته عملية استخراجه المكثفة لآثار الحضارة القديمة ونهبها ونقلها إلى لندن.
وحين نقل ليرد مكتشفاته الضخمة إلى لندن أثارت موجة من الحماسة والاهتمام في بريطانيا وأوربا والغرب عموماً. وشكلت تلك الآثار المكون الأساس لمجموعة حضارة وادي الرافدين في المتحف البريطاني، وصارت مثار جدل واسع عن حقيقة ما ورد في التوراة عن المدن القديمة. وأصدر ليرد كتابيه المشهورين نينوى وبقاياها (1849م) و اكتشافات في خرائب نينوى وبابل (1853م). صحيح أن ليرد لم يراعِ قواعد التنقيب العلمي المنظم ومعطيات علم الاثار، التي لم تكن قد تبلورت بعد في الزمن الذي عمل فيه، ولكنه نجح في أمرين، الأول أنه أثبت وجود مدن الحضارة القديمة بمكنوناتها الضخمة، ولفت أنظار العالم إليها. والثاني أنه وثق كل ما عمله ووصفه كتابة ورسماً، واستنسخ نصوصاً مسمارية كثيرة بدقة مدهشة لم تكن متوقعة في زمنه حينما لم يكن التصوير الفوتوغرافي متاحاً للاستعمال في الحفريات الأثرية، ولم يكن علم النقوش المسمارية القديمة قد ترسخ وتكونت قواعده. وكانت المعلومات التاريخية المتاحة لليرد محدودة إلى درجة أنه كتب عن نمرود باعتبارها جزءًا من نينوى!
لم يرغب المتحف البريطاني حينذاك في انقطاع تدفق القطع الأثرية المستخرجة من مواقع الشرق الأدنى، فكلف عراقي من مدينة الموصل، وهو هرمز رسام، الذي كان مساعداً لأوستن ليرد لمواصلة الحفر واستخراج الآثار وشحنها إلى لندن، بعد مغادرة ليرد، تحت غطاء محلي. واندفع هرمز رسام إلى ذلك اندفاعاً شديداً زاد منه ولاؤه لبريطانيا وشغفه الشديد بالثقافة الإنجليزية وسعيه للانضمام إلى المجتمع الإنجليزي. في تلك المرحلة قام بالحفر بشكل سري في نينوى التي جعلت حينذاك من حصة فرنسا. وكانت حفريات هرمز رسام تتم ليلاً، ومنها اكتشف قصر آشور بانيبال الشمالي وجزءًا من المكتبة الملكية فيه. وقد بعثته الحكومة البريطانية إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ثم في مهمة إلى إثيوبيا حيث اعتقل هناك مدة سنتين من قبل إمبراطورها ثيودوروس الثاني، حتى حررته بعثة عسكرية بريطانية.
عاد رسام إلى العراق ثانية للبحث عن الرقم الطينية المسمارية والكشف عن مزيد من بقايا المباني الأثرية لصالح المتحف البريطاني، واستمر في ذلك من 1878 حتى 1882م. وشمل عمله في ذلك الوقت مواقع المدن القديمة نينوى وكلخ وإمجر – أنليل في شمال العراق، بابل، بورسبا، سبار، جرسو (في جنوب العراق)، أدُك – لِمو (تل الشيخ حمد في شرقي سورية) وطوبراكلي (في شرقي تركيا). حين انتقل هرمز رسام إلى إنجلترا للعيش فيها لم يحظ بالقبول اجتماعياً فيها. واستخف بمكتشفاته، حتى أن اكتشاف قصر آشور بانيبال ومكتبته نسبا إلى هنري رولنصن، المستكشف البريطاني الشهير. ومع ازدياد التهجم عليه اضطر هرمز رسام إلى خوض دعوى تشهير قضائية ابتعد بعدها عن الحياة العامة ولم ينشر سوى القليل جداً عن مكتشفاته.
أما أوستن هنري ليرد فإنه بعد أن أنجز عمله في مواطن حضارة وادي الرافدين، وحقق شهرة كبيرة جراء ذلك، اتجه نحو السياسة وفاز بمقعد في البرلمان البريطاني عن حزب الأحرار وعين فيما بعد وزيراً مفوضاً في مدريد (1869 – 1877م)، ثم سفيراً لبريطانيا في إسطنبول (1877 – 1880م). وبعد ذلك تقاعد وانتقل إلى فينيسيا، حيث كون مجموعته الثمينة من لوحات عصر النهضة الإيطالية، وهي المجموعة المحفوظة حالياً في المعهد الشرقي في جامعة فينيسيا. وكانت وفاته في لندن عام 1894م.