السنة 19 العدد 185
2025/01/01

أثر وتأثر

(3)


 

 

خالد علي إبراهيم

 

باحث في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية

 

ثالث هذه الشخوص "الصادق النيهوم" الكاتب والناقد والفيلسوف، من مواليد بنغازي، تدرج في صنوف العلم كغيره من أقرانه، عُرف بمقالته الساخرة التي ينشرها في جريدة (الحقيقة) و(الناقد) و(لا) وغيرها من الصحف؛ اهتم بالثقافة العربية وأدبها، ثم تشبّع بالثقافة الغربية بعد أنْ ابتعث إلى ميونخ "München"في ألمانيا لإكمال الدراسات العليا.

 

تجنبًا للإطالة لن أكرر ما قيل عن النيهوم وانتقادات العالم له؛ إنما أكتفي بجوانب القوة التي أفدتُ منها من دراستي لِفكره وأدبه وتراثه؛ مضيفًا بعض الملاحظات الطفيفة التي تغيب عن بعض القراء الذين يسمعون عن النيهوم ويخافون من خوض غمار كتبه.

 

أولًا: فهمه للمجتمع الذي هو فيه ومنه، ما ولّد عنده قراءات لا مُتناهية للمجتمع الليبي على وجه الخصوص؛ والعربي عمومًا؛ وهذا يتجلى بصفاء ووضوح في روايته "الحيوانات" و"القرود" للمفهوم السياسي العربي؛ وقد أجاد في بيان أدوات القمع والاستبداد التي مارستها سياسات دول العالم الثالث تجاه الرعية التي تحت قبضتهم؛ إلا أنّ النيهوم لم يجاهر في بيان ذلك، ولم يمتلك الجرأة لنقد السلطة صراحة؛ وهذا أكبر المآخذ التي اتُهم بها النيهوم.

كما أجاد في نقد الحمولة الاجتماعية التي تراكمت عليها السنون دون نقد أو إثارة أو تصحيح؛ وهذا يتجلى في روايته "من مكة إلى هنا" و "تحية طيبة وبعد" و "كلمات الحق القوية" فقد فهم شخصية الإنسان الليبي اجتماعيًّا؛ وحاول دراستها بمفهوم فلسفي نفسي في غير موضع من إنتاجه.

 

ثانيًا: انحيازه لمدرسة التنوير؛ أو العلمانية بصراحة التعبير ودون مراوغة؛ إذ سنحت له فرصة الدراسة في ألمانيا الاطلاع على ما كتبته مدرسة الاستشراق عن العالم الشرقي (العربي) على وجه الخصوص؛ فعمل النيهوم بمبدأ (جاك دريدا) واتكأ على المنهج التفكيكي في إعادة بناء ما خلّفته مدرسة الاستشراق بمفهوم نيهومي جديد وكأنّه وليد حينه؛ لا سيما المتعلقة بالدين الإسلامي ودستوره الخالد القرآن العظيم؛ وتاريخ التشريع وانقسامات الأمة بعد ذلك؛ وأزعمُ أنّ النيهوم كان يستفز القارئ العربي تجاه تلك القضايا التي لا ليؤمن بها؛ إنما لإعادة التفكير فيها وفهمها على وفق معطيات العقل والدين معًا؛ لا سيما أيضا فيما يتعلق بالأمور القطعية والغيبية؛ وهذا ما جعلني أتمسك بكتاب النيهوم ودراسته والبحث فيه؛ على الرغم من نصح أساتذة أكفاء حاولوا صدي عن ذلك؛ إلا أني أعجبت بثنائية النيهوم التي اتسع أفقها لنشر ردود المعارضين له في كتبه دون أي ازدراء أو تحقير؛ بل هي مكرمة تحسب له.

 

أثار النيهوم حفيظة المفكرين والعلماء، فانهالت عليه الردود والأجوبة من كل صوب؛ إلا أني أكبر بمقالة "النامي" (رمز أم غمز في القرآن) التي أوضح فيها فكر النيهوم وطريق فهمه للمعطيات التي يتلقاها دون رقابة أكاديمية أو منهجية واضحة؛ وهذا ما أشار إليه غير باحث عن دراسات النيهوم؛ فإنها تخضع لمنهجه هو فقط؛ إذ دراساته تعتمد على التحليل والهدم وإعادة البناء على وفق ما يرى هو بمنظوره الخاص؛ ولا إشكال عنده في تقبل الردود والأجوبة؛ المهم في ذلك متابعة القراء للنيهوم واشتغالهم بما يكتب.

 

ثالثا: إثراء النيهوم للساحة الأدبية الليبية حين كانت كاسدة الإنتاج؛ إلا من نزر يسير اشتغل فيه أدباء قلائل؛ وقد أفصح عن هذا "علي فهمي خشيم" في مقالته "الظاهرة النيهومية" التي كشف فيها عن النجم الساطع الجديد؛ الذي بزغ في جرائد ليبيا ومجلّاتها؛ فكتب الرواية والقصة والمقالة؛ واجتهد في عديد من أبحاثه ودراساته أن يخرج بفلسفة جديدة، كالتي جاء بها مجموعة من الكتّاب في حينه، مثل: "حسن حنفي" و "محمد أركون" و "طه عبدالرحمن" وغيرهم مع اختلاف الهوية والمرجعيات ووجهة النظر!

 

خلاصة الخلاصة: يبقى النيهوم كاتبا من كتّاب ليبيا؛ قدّم إنتاجًا يحتمل القبول والرفض على وفق معطيات المرء وقراءاته؛ وله أن يضيف خلاصة جديدة فيما خلفه النيهوم وغيره؛ لكن ما لا ينبغي تجاهله هو ذلك التحريض أو التشويش على العالم دون دراسة أو فهم أو إمعان؛ وفي الختام كل إنسان يكتب ما يملي عليه ضميره بإخلاص وأمانة؛ وميزان التاريخ بداية هو الحكم والعدل؛ وبعدها في محكمة أحكم الحاكمين تجتمع الخصوم وتكشف الحقائق التي أشكلت العالم وأشغلته.

إرسال تعليق عن هذه المقالة