والدي عاشق القرآن والقراءة
كتبه: خليل بن محمد بن راشد الحوقاني
ليلة الاثنين 2 جمادى الأولى 1446هـ
الموافــــــــــــق 4 نوفمبر 2024م
جمهورية مصــر العربية – القاهــرة
أولُ ما تحمله ذاكرتي من ذكريات الصغر مع والدي في القراءة أنه يقوم بصناعة السَّعَفِيَّات، وكان متقناً حاذقاً خَصفةَ الشِّوَاء والحِبال الخاصَّة بها. وعند ممارسته هذه الهواية كان يكلِّفني أن أسمِّع له بعض سور القرآن التي يحفظها غيباً عن ظهر قلبٍ. وكنت أعتمد على ضوء المصباح ليلاً، ووعتْ ذاكرتي وأنا في الصف الخامس الابتدائي أني سمَّعتُ له سورة البقرة كاملة مع أخطاء قليلة ومعدودة، وسمَّعتُ له سورة طه ومريم والأنبياء والحج وغيرها من السور. وكنت أتجنَّبُ معاتبته إنْ سرحتُ عن المتابعة أو شغلني شاغل.
هنا كانت البداية التي وعيتُها أولاً، وبعد التحاقي بركب المصلِّين في المساجد في بداية "التطوُّع" كنت أتابع أبي في المسجد، كان القرآن جلسيه وأنيسه، يبكّرُ للصلاة ثم يمسك المصحف الشريف ويقرأ ما تيسّر إلى حين إقامة الصلاة. ويجلس ما بين العشاءين عادةً لقراءة القرآن أيضاً.
لم أره يطربُ لأحاديث الشيّاب داخل المسجد، يشتغل بالقرآن والأذكار والصلاة فحسب. أما خارج المسجد فتجده ذلك الرجل المرح، دائم الابتسامة والتعليقات اللطيفة، مع الصغار والشباب ومع أصحابه الكبار.
ومع كثرة قراءته للقرآن، كان أكثر المأمومين ردًّا على الإمام إنْ وقع في خطأ، وأتجرأ بسؤاله لاحقًا، هل تحفظ القرآن يا أبي؟! إذ أسمعك تردُّ على الإمام في أغلب مواضع القرآن؟ فيرد: لا. وتبيّن لي لاحقًا أنَّ كثرة قراءته للقرآن مكَّنته من القدرة على حفظ كثير من الآيات، ومعرفة مواضعها، والقدرة على استكمالها وقت الحاجة إليها.
وكان يصلي بنا في مسجد العسَّافة بولايتي نزوى، نائبا عن الوالد سليمان بن عيسى الزكواني -رحمه الله- عندما يكون هذا الأخير مسافرًا لأداء الحج أو العمرة أو غير موجود. وعندما تقاصر الوالد سليمان عن شهود المسجد؛ بسبب مرضه وكبر سنِّه اختير والدي إماما للمسجد بدلاً منه، فقام بالإمامة خير قيام، من تبكير للصلاة وتنويع في القراءة ومراجعة للسور، ومواظبة على الجلوس بين الصلاتين للمراجعة والقراءة وانتظار للأذان. وكنت في بعض الأحيان أجلس إليه في المسجد، ويقوم بمراجعة سورة البقرة وآل عمران أو غيرها من سور القرآن، ومحاولة ضبط الآيات المتشابهات.
وكان ذلك التنويع في القراءة والجرأة في قراءة مواضع متعددة من القرآن في الصلاة، جعلني أتجاسر بسؤاله: هل تحضِّر يا أبي للصلاة؟ فقال: لا. وإنما في الغالب أقرأ الذي يحضرني. واستمرَّ في إمامة المصلين ما يزيد على 10 أعوام لم يَعرف فيها الإجازة السنوية أو الإجازة الأسبوعية إلا في الحالات الطارئة أو النادرة التي يذهب فيها إلى مسقط زائرا أو مُعزِّيا أو مكانًا آخر.
أما عن جدوله مع القرآن الكريم، فمنذ عهدته يبدأ من أول المصحف تلاوةً ويختمه كاملاً، ثم يعود، وإلى يومنا هذا - وفي عمر يشارف الـ90 عاما - وهو لا يزال على هذا الوِرد المبارك. وحِصَّتُه تزيد في رمضان، فهو شهر القرآن؛ فنظرًا لجلوسه الطويل في البيت، وعدم قدرته الخروج إلى الصلاة، تتجاوز ختماته للمصحف من 5 إلى 7 مرات. ويوم الجمعة لا بدّ أن يقرأ السور المُنْجِيَات، وهي: (الكهف، السجدة، يس، فصِّلت، الدخان، الواقعة، الحشر، الملك)، ويسألنا ونحن صغارا وكبارا هل قرأتم سور المُنْجِيَات؟! وعند التقصير يعاتبني عتابَ محبٍّ، أنت تحفظ أكثر مني القرآن، فلماذا لا تواظب على قراءة السور المُنْجِيَات؟
أضف إلى ذلك أنه لو تسمَّرنا أمام التلفاز ومعنا أبي، وظهر على الشاشة من يقرأ القرآن، يبادر بالسؤال في أي سورة هذه الآيات؟ تشجيعًا لنا وحثًّا على ملازمة القرآن وحفظه. وإنْ تشاجرنا وغضب علينا بادر بتلاوة بعض آيات القرآن ( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ). الزخرف: 81.لا أدري ما مناسبة استعماله هذه الآية هنا، لكن المقصد أن لسانه يلهج بالقرآن. وإنْ ركب معنا السيارة يتلو أولاً (بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ، وَقَال ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡر۪ىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيم). هود: 41.(سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ ١٣ وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ). الزخرف: 13 – 14. ثم يأتي ببقية دعاء السفر، وإنْ نزل من السيارة قال: الحمد لله الذي أوصلنا سالمين غانمين، وإنْ دخل البيت فلا بدَّ أن يجهر عند دخوله بسورة الصمد قبل أن يسلِّم علينا، وإنْ بدأ الأكل لهج بصوت مسموع بـ "اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وأنت خير الرازقين" ثم يبسمل ويأكل، وإنْ وصل منتصف الأكل بسمل مرة أخرى بصوت مسموع (بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ) ويواصل، فضلاً عن الأذكار التي ما يزال مواظبًا عليها إلى يومنا هذا كأذكار الوضوء وغيرها من الأذكار.
وكما قال المتنبي: "لكل امرئٍ من دهره ما تعودا" ومن عادات والدي أنه لا يترك النوافل عقب السنن الرواتب، ولم يترك قيام الليل يومًا، إذ كان يدخل إلى فراشه عند العاشرة ليلاً أو الحادية عشرة، ويقوم عند الساعة الثانية ليلاً، ويصلي ما شاء من الركعات، إلا أنه بعد أن ضعُفت صحته، وتعثرت قدماه، وأصبح لا يقوى على الخروج ليلاً إلى الكنيف، تقاصر عن هذه النافلة، أما ركعتي الضحى فما يزال مواظبًا عليها عند قيامه من نومه أول الصباح.
وكما جاء في الأثر أن قارئ القرآن لا يَخْرَف، أتعمد كثيرا في جلساتي إلى الآن مع والدي، لأنشِّط ذاكرته بالقرآن، أتلو الآية وأتوقف.. ويكملها بنفسه كاملة، وأتحدث إليه في الوعظ والإرشاد أو حين يذكر بعض سير الصالحين، فآتي بآية أستشهد بها وأتوقف متعمدًا... فيبادر والدي باستكمالها بنغمة الشيَّاب وصوتهم الشجي.
وأتساءل دائما عن الرابط بين صاحب القرآن وصاحب الأذكار، هل من تلازم حتمي لمن يصاحب القرآن أن يفتح الله له بابًا في الأذكار؟!
وهذا من المحاسن التي ألاحظها في والدي منذ عهدته، فإن لم يكن بيده مصحفًا، فهو ملازم للأذكار لا يفتر عنها لسانُه، سواء في طريقه إلى المسجد أم عند رجوعه، أم عند ركوبه للسيارة أم جلوسه الطويل على الكرسي، وحتى لو زاره ضيفٌ فانقطع الحديث بينهما أرى تحرُّكَ شفتيه التلقائي بالأذكار. وعندما مارس بعض الأعمال التجارية في سوق نزوى كان لديه مصحفٌ خاصٌّ يضعه في "التبروزة" الموضع الذي يبسط فيه بضاعته من الـمُكَّسِرات والحلوى العُمانية للزبائن، فإن جاء أحدٌ مشتريًا بايعه، وإلا فإنه يشتغل بالأذكار وتلاوة ما تيسَّر من القرآن، وخاصة في شهر رمضان المبارك.
هذا حال والدي مع القرآن والأذكار، فما هو حاله مع القراءة عامة؟
لم يخلّف والدي مكتبةً ضخمةً أو كان شغوفًا بتتبع الكُتب والمكتبات أو متابعة مجرياتها والجديد منها، كان شغله الشاغل أن يجلب لنا لقمة العيش، فاشتغل حارسًا في الكُليَّة الفنيَّة الصناعيَّة بولاية نزوى، ثم عمل في تجارة بيع الـمُكَّسِرات والحلوى العُمانية سنوات طويلة، وفي فترته تلك كنتُ صغيرًا، لا أعرف الكتب ولا أعلم ما علاقة والدي بالكتاب إلا لاحقاً. كنتُ أرى قُربَ فراشه كتابًا ذا ورقٍ أصفرَ، ولما كبِرتُ علمتُ أنه كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأشبيهي، الذي قرأه ثلاث مرات أو يزيد.
عرفتُ علاقة والدي بالكتاب والمكتبات وتعلُّقَه بهما عندما خرجتُ للدراسة خارج ولاية نزوى، وبدأتُ من البيئة التي عشتُ فيها معرفة الكُتب، فأصبحتُ جامعًا لها، عارفًا ببعض تفصيلاتها حسب متطلبات الدراسة، ورغبات النفس لمطالعة كتب الأدب والثقافة والفكر، ومن هذا الخيط بدأتِ المعرفةُ الحقيقيةُ بوالدي. فكنت أسوق الكتب إلى البيت سَوْقًا وأطرحها أمام أبي، وكان فرحه بها كبيرًا، فيبدأ بتقليب الكتب واحدًا واحدًا، وينتقي منها ما يناسبه، ويترك لي البقية. وهذا الأمر ينيف على 20 سنة، وأنا وأبي على هذا الحال، أحضر الكتب بين يديه، ويقلِّبها وينتقي منها ما يشاء، ويترك لي الباقي. وبعد أن كبر به السن، وضعف حاله وبصره، أُحضر له بعض الكتب التي أعلم حُبَّهُ لها، ومن شروطه لقَبولها أن تكون ذاتَ ورقٍ أصفرَ وخفيفٍ، وخطٍّ متوسطٍ أو كبيرٍ، فلا طاقة له وهو في هذا السنِّ بمطالعة الكُتب ذات الحجم الكبير أو الطرح العميق.
ومن طبعي في اقتناء الكتب سابقًا، وإلى الآن في بعض الأحايين، إنْ عشقتُ الكاتبَ وعرفتُ أسلوبَه ومنهجَه، أشتري كلَّ كتبه المتاحة قدر المستطاع، فكانت البدايات مع الشيخ الأديب علي الطنطاوي، كلُّ كتابٍ أقرأه أدفعه إلى والدي، ووالدي بدوره يقرأه من مرة إلى سبع مرات، خاصًّة لو تأخرتُ في إحضار الجديد، فَطَالَعَ وَقَرَأَ أغلب كتب الشيخ علي الطنطاويمن سنين طويلة وكرَّرها، وما زلتُ إلى الآن أحضر له بعض كتب الشيخ الطنطاوي التي قرأها سابقًا؛ ونظرا لكبر سنِّه ينسى أنه قرأها، فيعيد قراءتها مرات ومرات بلا ملل أو كلل.
وهكذا مع كتب عائض القرني، فكُلها قرأها وكرَّرها، وحده كتاب لا تحزن قرأه ثماني مرات، فضلاً عن كتبه الأخرى المتعددة، وكتب إبراهيم عمر السكران، خاصة كتابه الطريق إلى القرآن، ولست حانثا لو قلت إنه كرَّره عشرات المرات، كلما انتهى منه رجع إليه. وكم طرب ويطرب لابتهالات أبي مسلم البهلاني، أو ديوانه الاستنهاضي،أو ديوان السيف النقّاد للإمام الحضرمي إبراهيم بن قيس، أو ديوان البُرعي اليمني، ولهذا الديوان الأخير قصة، إذ كلما أجلس مع والدي نتسامر عن الشعر والأدب يذكر لي ديوان البُرعي، وكلما أذهب معرض الكتاب يوصني بالبحث عن هذا الديوان؛ إذ كانت تربطه علاقة حميمية بهذا الديوان أيام الخمسينيات لما كان والدي مقيمًا بمملكة البحرين. بحثتُ عن الديوان وسألتُ عنه دون جدوى، ومرةً سألت عن الكتاب مكتبةَ أبي الفضل السيفي بنزوى، وهي من أقدم المكتبات العُمانية، فجلبوا لي الديوان من الهند، طبعة حجرية قديمة، وكم كانت سعادة والدي بهذا الديوان عظيمة، فمنذ سلَّمتُه إياه من سنوات وإلى يومنا هذا لم يرجعه لي، لكأنه جعله وِرْدًا يوميًّا يقرأ منه.
مرةً طلب مني كتاب جوهر النظامللإمام السالمي، فنسيتُ طلبه، فصعد بنفسه إلى الطابق الثاني في البيت متكلِّفًا، وفَتَّشَ عن الكتاب في المكتبة، ورجع بخُفيَّ حُنين؛ إذ كانت المكتبة حينها دون نظام أو ترتيب، وقال لي: ما عرفتُ المكتبة شرقها من غربها. فأحضرت له الكتاب مساءً، ولم يذهب اليوم الثاني للسوق كعادته للتجارة، بل فضّل أن يبقى مع كتاب الجوهر مستمتعًا به وبفوائده.
أما كتاب النميـربأجزائه المتعددة، خاصة الأجزاء التي تتحدث عن العُمانيين وسيرهم وتاريخهم، فحدّث ولا حرج عن قراءته وتكراره لها، وكتاب السلوى في تاريخ نزوى، وكل ما خطته أنامل الأستاذ الفاضل محمد بن عبد الله بن سعيد السيفي من تراجم للشخصيات وذكر مآثرهم، فوالدي قرأه وطالعه بنهمٍ وشغفٍ، ويبدو لي أن مرجع هذا الشغف هو إدراك والدي لكثير من الشخصيات في كتابات الأستاذ السيفي، ومعايشته لها عن قُرب.
أضيف إلى ذلك أن كل ما كُتِبَ عن الإمام الخليليلم يفوِّتْ والدي مطالعته، بل طالما تأثر وبكى عند ذكره وذكر سيرته التي سارت بها الرُكبان.
ولا أنسَ أن في سنوات دراستي طلبت من الجزائر تفسير الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض في رحاب القرآن الكريم،ولم تكن أجزاؤه مكتملة؛ إذ المطبوع منها بداية من سورة الإسراء، وكان من قبل لدى والدي الجزء الذي أخرجه ورتَّبه الشيخ الناصر المرموري، وكان الجزء مشتملاً على سورة الكهف ومريم وطه والأنبياء، وهذا الجزء كان رفيق والدي وأنيسه، يعيد قراءته مرات، ولما أحضرت بقية التفسير المطبوع، أدفع لها أجزاءه ويقرأها. وآخر ما دفعته إليه من هذا التفسير من أيام قليلة، إذ حصلت في معرض الكتب المستعملة بجامعة نزوى على الجزء الخاص بتفسير سورة الإسراء بقيمة 500 بيسة فقط، فاشتريته لوالدي؛ لأنها نسخة قديمة وورقها يميل إلى الأصفر؛ فتقبَّله بقَبول حسن، وهو الكتاب الذي يطالعه الآن ليل نهار.
وعندما ظهرت مؤسسة ذاكرة عُمان بمطبوعاتها الفاخرة، وكتبها النادرة الخاصَّة بتراثنا العُماني، كنتُ أشتريها وأحضرها لوالدي، خاصة الكتيبات الصغيرةالتي يخرجها عادة الأستاذان المحقِّقان سلطان الشيباني وفهد السعدي، وهي تزيد على 35 كتيبًا. يركنها والدي قرب مجلسه، ويقرأها واحدًا يتبع الآخر. فضلا عن مطبوعات ذاكرة عُمان الأخرى الأكبر حجمًا. وعندما تمضي فترة من الزمن أحضرها لأبي مرة أخرى ويقرأ منها ما شاء الله أن يقرأه.
وكم سعيتُ أن يوفقني الله ويجمع بين مكتبتيَّ العزيزتين – مكتبتي في مسقط ومكتبتي في نزوى- حتى يتمكَّن والدي من الوقوف عليها ومطالعتها كما يحب، بدل أن أسوق له الكتب كلَّ مرة، ولما وفقني الله ببناء منزلٍ مستقلٍّ، أسست مكتبةً خاصَّةً، جمعت فيها كل كتبي المتفرِّقة، ودعوت والدي مرةً لزيارتي في المنزل، بعد أن هندستُ المكتبة ورتبتُها على أحسن ما يكون الترتيب، وكانت مفاجأة جميلة لوالدي، فما إن فتحت باب المكتبة، وكانت الإضاءة منيرة واضحة على المكتبة ورفوفها كبّر والدي وذكر الله: ما شاء الله ما شاء الله، ما هذا المنظر! ما هذه المكتبة! اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم، ثم دعا لي دعاءً طيبًا -جزاه الله خير الجزاء- وكان مسرورًا جدًّا جدًّا، ثم قال لي: أحتاج إلى شهر كامل لأجلس في هذه المكتبة وأتفيأُ ظلالها أو قريب من هذا المعنى. بعدها طاف بالمكتبة، وطالع كتبها ومحتوياتها وموضوعاتها، طالبًا مني استعارة بعض الدواوين القديمة والكتب كعادته.
وأختم حديثي هذا بخصلة جميلة هي أن والدي عندما يصاب بوعكة صحية يعافُ قراءة الكتب، ولا يتحدث كثيرا، ومن قديم الزمان يعاني من ثقل في السَّمع؛ فحتى أذهب عنه هذا المللَ والضجر، أمسكُ ديوانًا شِعريًا يحبه كديوان أبي مُسلِم البَهلاني أو ديوان البُرعي أو ديوان أبي العتاهية أو ديوان الإمام الشافعي أو أي كتاب آخر فيه سلوة وراحة له، فأبدأ بالقراءة عند أذنه اليمنى التي يسمع منها أكثر من أختها؛ لكن أضطرُّ لرفع صوتي حتى يسمع، فينتشي ويُحرِّك رأسه طربًا وإعجابًا مما يسمع، فتتغير نفسيته، ويبدي ارتياحًا وقَبولًا ولله الحمد.
هذا الحديث غيض من فيض، وهناك مواقف كثيرة لم أذكرها عن والدي، وهناك عشرات الكتب التي ارتبط بها، واستثمر وقته في مطالعتها وأخذ فوائدها، ولم أذكرها؛ لكثرتها. إذ يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم.