أثر وتأثر!
(٢)
خالد علي إبراهيم
باحث في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية
ثاني هذه الشخصيات؛ عمرو خليفة النامي؛ الدكتور العالم؛ باحث وأديب وشاعر؛ صاحب أفق واسع ومبادئ راسخة لا تلين؛ بنى لنفسه مجدًا تليدًا لا أظنّه ينهدم؛ تميّز بدقة عبارته؛ وجزالة لفظه؛ وحسن منهجه؛ وتنظيم موضوعه؛ فيه تلكم الصبغة الدينيّة التي لم يدخلها تطرف أو تعصب أو انحراف؛ تشبّع بدستور القرآن وقانونه؛ ونهل من معين السيرة المطهرة حتى فاض قلمه الدفّاق بمحاسن التركيب والترتيب؛ يتجلى ذلك بوضوح في قصيدته العصماء "علوت فليس يدركك الثناء" و "ظاهرة النفاق" التي حلل فيها النصوص ونقد الشخوص وأبان الحقائق؛ لا سيما بعد أن اكتوى بنار الخيانة والغدر.
خير ما يُعجبني في النامي ثورته الهادئة؛ النابعة من عقيدة لا تزحزحها الأيام؛ صامدة كالجبال الراسيات؛ قد برهن على ذلك بقصائده التي دونت نقده صراحة للطغيان والاستبداد والنكوص لكل ما يهدم مبدأ الدين وينقض منهج الحرية والرأي؛ في قصيدة "أماه" وفي "كلمات للثورة" نماذج من ذلك؛ في خطابه قوة لا أظن لأي طغيان يصمد أمامه؛ إلا بنفي كاتبه أو تغييبه؛ وهذا ما حدث حقيقة للنامي؛ إذ لم تصمد أيادي الغدر لتلكم الكلمات؛ حتى أخذته للسجن ولا أثر له ليوم الناس هذا!
على قلة نتاج النامي البحثي والكتابي والعلمي؛ إلا أنّ بركته حاضرة بحضور وعيه وفكره؛ فقد أسهم في تحقيق المخطوطات التي يعجب القارئ من مدوناته كيف استطاع قراءتها وإيجادها وإحصاءها؛ أو على سعة قراءته ومتابعته؛ وعلى سبيل التمثيل لا الحصر من يطالع مقالته "مهر الحضارة الغربية" يجد فيها منطق المنهج؛ وجزالة اللفظ؛ واستقامة المعنى؛ وروح الدين؛ واعتزاز بالهوية؛ وخير ما يُشاد به نقده لأفكار تداخلت على خواص المسلمين قبل عوامهم، مثل: البحث عن اللهجات؛ وارتباط اللاتينية بالعربية؛ وقصة طه حسين تلك حكاية أخرى بيّن النامي عوارها وكشف لثامها؛ وخير فائدة حصدتها حين قراءتي لهذه المقالة نصه الذي لم يغب عني الذي يقول فيه: "وأنَا أُحِبُّ أنْ أُوصِيَ شبابَنا المُثَقَّفَ بقراءة جَميعِ كُتُبِه [مصطفى صادق الرافعي]، ومُتابَعَةِ ذلك والاستمرارِ عليه ؛ حتَّى يَأْلَفُوا بيانَ العربية الأصيل، وتَسْتَسيغَ أذواقُهم أُسْلُوبَها الرَّفيعَ الذي جَلاَّهُ الرافِعِيُّ في سلاسَةٍ و قُوَّةٍ".
إذ اهتماماته الفكرية لم تثنه عن متابعة مستجدات الساحة؛ ودراسته والسعي وراء تحصيله لم يعقه عن النقد والقراءة والنشر.
ونموذج آخر أجوبته على "الصادق النيهوم" تحت عنوان: "رمز أم غمز في القرآن؟" ينتقد فيه ما ذكره النيهوم عن رمزية القرآن؛ ويُبين مدى قصر قراءة النيهوم أمام النظريات النقدية والمناهج الحديثة التي يستعجلها قبل تخمرها في ذهنه وخياله؛ مشيرًا إلى مصادر ومراجع انتقدت ذلك.
ختامًا أشيد بحرقة النامي واعتزازه بمذهبه الإباضي؛ الذي يعد خير من نافح عنه ودافع بدراسته الجادة: "دراسات عن الإباضية" التي بيّنت روح العقيدة الصافية التي تشربها النامي؛ وذلك المنهج التربوي الذي اتسم به عن كثيرين وبشهادة كثيرين؛ وقد أوضح ذلك غير واحد من زملائه وأقرانه من شتى بقاع العالم.
رحم الله النامي حيّا ميتًا؛ وجزاه عن الإسلام خير ما جزى عالما عن قومه؛ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيله؛ جعلنا الله على نهجهِ سائرين؛ وبه مقتدين، فقد كلّف من بعده ثقل الأحمال وعظم المسؤولية؛ فلله الأمر من قبل ومن بعد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.