السنة 19 العدد 184
2024/12/01

المعروف يُحفر في القلوب، والإحسان عنوانه...

شخصية راهنت على بيئتها، وآمنت بقدراتها، واندفعت لخدمة مكتسباتها


 

عاشت حتى المرحلة الإعدادية في مدينة الجبيل الرائعة بالمملكة العربية السعودية، حيث يتمتع أهلها بخلق رفيع وعلم ودين ورقي. وعندما عادت إلى مدينة أم درمان في السودان، وجدت كل الترحاب والدفء، فهؤلاء أهل النبل والبسالة والإيثار؛ لذا تعبّر عن امتنانها للسعودية حيث نشأت، وللسودان موطنها الحبيب، ولسلطنة عمان الحبيبة حيث تعمل الآن.

 

ولدت الدكتورة إسراء عبد الرؤوف عثمان، شخصية عدد إشراقة 184، ونشأت في مدينة الجبيل الصناعية بالمملكة العربية السعودية، في كنف أسرة تميّزت بالتوازن بين الحب والانضباط. والدها الحبيب، رحمه الله، كان ضابطاً في الشرطة السودانية قبل أن ينتقل إلى المملكة. استطاع أن يزرع في أبنائه قيم الالتزام، وهو ما كان يميز أصحاب هذه المهنة النبيلة. تقول ابنته: "كنا نشاهد المودة والألفة التي تجمعه بوالدتي الغالية، رحمها الله، وكان نجاحه وتقديره في عمله واضحين للعيان، سواء من زملائه في العمل أم من جيراننا وأفراد أسرتنا".

تُضيف في سياق حديثها عن والدها: "لم أذكر أنه كان يوجهنا بشكل مباشر في القيم كالالتزام مثلا، لكنْ نراه يعيش تلك القيم في حياته اليومية. لقد أدركت تماماً أن أفضل طريقة لتعليم الأطفال هي القدوة الحسنة، إذ سيقلدونك حتماً، سواء طالت الفترة أم قصرت. بل والداي، رحمهما الله، زرعا فينا الحب، وعززاه بمشاعر العطاء والرعاية. وإخوتي الرجال هم سندي، وبالمثل إخوتي البنات نبع الحنان الذي لا ينضب".

 

 

ذاك الشبل…

كان والد الدكتورة إسراء عاشقاً للعلم، ترك وراءه مؤلفات عدة باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى كتاب في تجويد القرآن الكريم. وكان يشجّع أبناءه دائماً للسعي وراء المعرفة. تقول: "لا تزال عالقة في ذهني لحظة دموعه التي انهمرت فرحاً عندما سمع قرار لجنة الدراسات العليا بمنحي درجة الدكتوراة، كانت لحظة تجسد الفخر والسعادة".

لقد تمكّن عطف والداها عليهم وعلى من حولهم، ونجاحهما وحسن تعاملهما مع الكبير والصغير من أسر فخرها تجاههما، فإسراء لا تنس أبدا ذلك الموقف عندما طلبت من والدها، ذات مرة تصوير بعض الأوراق لها في مكتبه، فردًّ قائلا لها: "هذه أمانة، ولا يحل لي استخدام موارد العمل لأغراض شخصية". تكمل حديثها متأثرة بهذه الأحاسيس الجيّاشة: "لقد كان ذلك درساً عظيماً في الأمانة والنزاهة. في ذلك الوقت، كنت في المدرسة، وقد لا أكون قد فهمت المعنيين تماماً، لكني تعلمت قيمة الأمانة كونها أحد المبادئ العليا".

 

مسار ووصول ...

بدأت رحلتها التعليمية في المدرسة الابتدائية الرابعة بمدينة الجبيل الصناعية، ثم انتقلت إلى المدرسة المتوسطة الثانية. بعد ذلك، عادت إلى السودان لتكمل دراستها الثانوية في مدرسة أم درمان النموذجية شرق. ثم تخرجت بمرتبة الشرف الأولى في بكالوريوس الحاسوب ونظم المعلومات عام 2009.

في عام 2010 عملت الدكتورة إسراء مساعد تدريس في الجامعة، إذ كانت فرصة العمل تُتاح للخريجين الحاصلين على درجات امتياز. تقول في ذلك: "أنا ممتنة للعلماء الذين درسوني في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، فقد كان علمهم وتواضعهم مصدر إلهام لي. كنت أسمع منهم ومن زملائي الطلاب والطالبات عبارات التحفيز والإشادة عندما أقدم بحثا أو حلقة نقاشية، فنشأت فيّ رغبة قوية في الانخراط في مهنة التدريس الجامعي، إذ شعرت أن لدي المهارات المناسبة، كما أن هذه المهنة تمثل رسالة عظيمة".

تواصل حديثها: "عزمت على مواصلة دراستي العليا في تخصصي، وفي عام 2015 حصلت على درجة الماجستير بامتياز في هندسة البرمجيات من جامعة السودان المفتوحة. لم تكن هذه المرحلة سهلة، ولكن كلما تذكرت حلمي وهدفي، زاد حماسي وإصراري. بعد ذلك، التحقت بالجامعة محاضرةً، وكنت أحرص دائمًا على تطوير نفسي لتواكب مستجدات العلم ولأكون نفعًا لطلبتي؛ مما شكل دافعا لي لتقديم متطلبات نيل درجة الدكتوراة".

وقد كان لها ما أرادت؛ فنالت درجة الدكتوراة في علوم الحاسوب من جامعة الزعيم الأزهري في عام 2019م، وكان ذلك تتويجا لمسيرتها الأكاديمية.

 

تكوين واهتمام!

يرتكز عمل الأستاذ الجامعي على ثلاثة محاور رئيسة: التدريس، البحث العلمي، وخدمة المجتمع. تقول الدكتورة إسراء: "منذ أن كنت محاضرةً كان لدي شغف كبير بالبحث العلمي، فهو أحد الأدوات الأساسية في عملية التدريس، إذ إن العلم في حالة تطور مستمر، خاصة في مجالي تخصص علوم الحاسوب. بدأت أبحاثي في مجال هندسة البرمجيات، إذ سعيت إلى تحسين إحدى أدوات تطوير الأنظمة البرمجية في مرحلة جمع المتطلبات".

وتواصل حديثها: "إدراكاً مني لدوري في الإسهام في بلدي، نشرت أوراقا علمية في مؤتمرات عدة في السودان. ومع ازدياد اهتمامي بمجالي تعلم الآلة وعلم البيانات، شعرت بحاجة ملحة لمتابعة مستجدات هذا العلم؛ لذلك، حصلت على دورات تدريبية عدة، منها دورة في مجال علم البيانات من جامعة هارفارد، ثم نشرت أوراق علمية عدة في مجلات محكمة في الولايات المتحدة الأمريكية".

 

بصمات وذكريات...

لقد تدرجت مسيرتها المهنية منذ تخرجها، إذ بدأت مساعد تدريس في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، ثم انتقلت إلى وظيفة محاضر، فأستاذ مساعد في مجموعة من الجامعات السودانية، حتى تولّت الدكتورة إسراء رئاسة قسم تقانة المعلومات بكلية النصر التقنية. إن هذا التدرج منحها القدرة على إدارة الأمور والأشخاص بفاعلية؛ مما يزيد من الإنتاجية".

تعلّق على هذه السيرة العلمية: "لقد تعاملت مع مختلف الفئات، وقمت بتنظيم محاضرة عامة دعيت فيها رئيس جمعية IEEE - فرع السودان، وهي أكبر جمعية مهنية في العالم في مجال التكنولوجيا، ليكون طلبتنا على دراية بواقع سوق العمل. كما اقترحت تأسيس فرع للجمعية في كلية النصر، وأحرص على الانخراط في العضويات المهنية، إذ أعتز كوني عضوة نشطة في ثلاث جمعيات مهنية:

  • عضوة نشطة في شبكة المستشارين.

  • عضوة نشطة في جمعية IEEE - الشباب المهنيين.

  • عضوة نشطة في Sight - IEEE.

وتضيف: "ترأست لجان عدة، وكنت عضوة مدة عامين في لجنة ترفيع الكلية إلى جامعة، وبفضل الله وتوفيقه، توجت جهودنا بالنجاح، وجاء قرار بترقية الكلية إلى جامعة من وزارة التعليم العالي. كما أسست قسما جديدا بالجامعة هو قسم هندسة البرمجيات، ثم عملت أستاذا مساعدا بقسم نظم المعلومات في جامعة الزعيم الأزهري، ولله الحمد، كنت من ضمن أعضاء هيئة التدريس الذين أسهموا في رفع تقييم مؤشر البحث العلمي بالجامعة".

أبرز الإنجازات

تشاركنا الدكتورة إسراء بعضا من منجزاتها العلمية والعملية، فقتول: "أؤمن بدور الأستاذ الجامعي في عملية الإرشاد الأكاديمي، إذ يأتي طلبتنا الأعزاء إلى الجامعة في مرحلة جديدة من حياتهم، ويحتاجون منا إلى دعم وتوجيه. لقد لاحظت، من تجربتي، أن هناك كثيرا من الأسئلة التي يطرحها الطلبة، التي تمثل لهم هاجساً مستمراً، وغالباً ما تتكرر نوعية هذه الأسئلة. هذا الأمر شجعني على تأليف كتاب يضم مجموعة من النصائح والإرشادات بعنوان (المرشد الجامعي- 2021)".

تضيف: "أعتقد أن المسؤولية المجتمعية من أهم البصمات التي يمكن أن يتركها الأستاذ الجامعي. إيماناً مني بذلك، أسست وأشرفت على جمعية (أطفال بلا مأوى) في جامعة النصر التقنية، إذ كنا نقدم مساعدات لهؤلاء الأطفال. ونظمنا ورشا تدريبية لهم، وجمعنا التبرعات، ووزعنا ملابس دافئة تحميهم من برد الشتاء. كنت أرى الفرحة في وجوه طلبتي قبل أن أراها في وجوه الأطفال، فسبحان الله، إن المعروف يُحفر في القلوب، والإحسان عنوانه".

 

مفتاح الرحلة!

تُلخّص إسراء رسالتها التي تستعين بها في سبيل العلم والعمل -كونها أستاذة جامعية- في إشعال شغف المعرفة وبث روح التحدي في قلوب طلبتها. فالعلم كنزٌ لا ينضب، ومفتاح يحرر أبوابا نحو عالمٍ من الإمكانات. في قاعة المحاضرات، ترى كل طالب كنجمة ساطعة تحمل في طياتها طموحات وأحلامًا تستحق الإيمان؛ لذا تؤمن أن التعليم رحلة مشتركة، حيث تكون مرشدة ورفيقة درب. تقول: "أسعى إلى خلق بيئة تعليمية تشجع على الاستفسار وتعزز التفكير النقدي، حتى نتمكن من بناء عقول قادرة على مواجهة تحديات المستقبل".

 

نموذج يُحتذى به!

ما توجيهكم لنقل طلبة العلم نقلة نوعية كبيرة في مختلف التخصصات؛ وذلك في ظل الانفجار المعرفي والتدفق المعلوماتي الهائل، إذ يعد ذلك سلاحا ذا حدين؟ إنّه سؤال ختمنا به لقاءنا هذا لنرى آفاق ضيفة شخصية عددنا نحو مستقبل مشرق بعون الله.

تجيب عنه: "في ظل الانفجار المعرفي والتدفق المعلوماتي الهائل الذي نشهده اليوم، يصبح من الضروري توجيه طلبة العلم نحو نقلة نوعية تتسم بالعمق والفاعلية. إن هذا التحدي، وإن كان سلاحاً ذا حدين، يمكن استثماره بشكل إيجابي عبر خطوات جوهرية عدة:

أولاً، ينبغي تعزيز مهارات التفكير النقدي والتحليلي لدى الطلبة؛ مما يمكّنهم من استيعاب المعلومات واختيارها بدقة. فالتعرض لمعلومات غزيرة قد يؤدي إلى فوضى ذهنية إذا لم يكن لدى الطالب القدرة على التمييز بين المفيد والضار.

ثانياً، يجب دمج التعليم التخصصي بتعليم القيم الإنسانية والأخلاقية. فالعلم وحده ليس كافياً؛ إذ يتطلب الأمر أن يكون هناك وعي بأهمية استخدام المعرفة لخدمة الإنسانية وتحقيق التقدم المجتمعي.

ثالثاً، ينبغي أن تتجه المؤسسات التعليمية نحو أساليب تعليمية مبتكرة تعتمد على التعلم النشط والتفاعل بين الطلبة؛ مما يعزز من القدرة على التكيف مع التغيرات السريعة في المعرفة والمعلومات. وهنا يأتي دور تقنيات مثل: إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، التي يمكن أن تُحدث تحولاً جذرياً في أساليب التعليم. على سبيل المثال، يمكن استخدام إنترنت الأشياء لتوصيل أجهزة التعلم بالبيانات الحية؛ مما يمكّن الطلبة من تجربة التعلم العملي في بيئات تفاعلية. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُخصص المحتوى التعليمي حسب احتياجات كل طالب، فيُسهل عملية التعلم ويزيد من فعالية التجربة التعليمية.

وفي هذا السياق، يستحق نموذج جامعة نزوى الإشادة، إذ تواصل الإدارة فيها اتخاذ خطوات مبتكرة تتماشى مع هذا النهج. فقد اتجهت الجامعة نحو توظيف أحدث التقنيات في مجال التعليم؛ ليسهم في إعداد طلبتها لمواجهة تحديات العصر الحديث".

وتكمل نقاشها: "إن حرص جامعة نزوى على دمج التعلم بالتقنية مثال يحتذى به، ويعكس رؤية مستقبلية واضحة تُركز على جودة التعليم وفاعليته. وأخيراً، يجب أن نغرس في نفوس طلبة العلم روح المبادرة والابتكار، فالعالم اليوم يحتاج إلى قادة فكر ورواد أعمال يسعون إلى توظيف المعرفة في مجالات جديدة تُحدث فرقاً حقيقياً في المجتمعات. إن بناء جيل قادر على التعامل مع هذا التدفق المعرفي يتطلب شجاعة ووضوح رؤية، ليتحول التحدي إلى فرصة حقيقية للنمو والازدهار؛ باستخدام تقنيات مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، كما يمكننا تسريع هذه النقلة النوعية، وجعل طلبة العلم مستعدين لمواجهة تحديات المستقبل".

إرسال تعليق عن هذه المقالة