نحو بيئة وظيفية جاذبة
المهندس سالم بن علي الهنائي
المشرف العام على أكاديمية نزوى للتدريب والتطوير
لا شك أن الوقت الذي نقضيه في إنجاز ما يوكل إلينا من أعمال من طريق وظائفنا التي نشغلها يستهلك غالبية عدد الساعات في اليوم والليلة؛ مما يحتم علينا أن يكون هذا الوقت ممتعا وجاذبا يجلب لنا سعادة وراحة وجدانية، ويجعلنا أكثر إبداعا واستقرارا على المستويين الإنتاجي والشخصي. ولكي نصل إلى هذه الحالة المريحة، يجب علينا الإسهام في بناء بيئة وظيفية تساعدنا على تحقيق ذلك في مجتمعنا الوظيفي.
إن هذا الأمر -بلا شك- يتطلب تكاتف جميع المستويات الوظيفية في المؤسسات إداريا: (العليا والوسطى والدنيا) بالتخطيط المبني على النماذج الصحيحة، والتنفيذ المتقن من طريق الكوادر الوظيفية المدربة والمتابعة المستمرة باستخدام أدوات قياس دقيقة وفاعلة. وهنا يجب أن نشير إلى محاور رئيسة يجب التركيز عليها عند تناول هذا الموضوع.
-
الأهداف المؤسسية
إن لكل مؤسسة أهدافا تسعى إلى تحقيقها وتطويرها، ولكنها في بعض الأحيان غير واضحة لجميع منتسبي هذه المؤسسات؛ لذا لا يستطيعون الإسهام بطريقة مباشرة في الوصول إليها؛ مما يجعلهم غير راضين عن أدائهم؛ بل لا يشعرون بسعادة في مجتمعهم الوظيفي؛ لذا يجب على المؤسسات أن تتجه لمشاركة منتسبيها أهدافهم وتوجهاتهم، بل وأهداف كل الوحدات التنظيمية التابعة لها بكل شفافية ووضوح، ولكن ما دور المنتسبين في تحقيق ذلك؟
لنا في قصة الصحابي الجليل ربعي بن عامر دليل وعبرة، فقد كان جوابه عندما سئل من أنتم؟ كان رده: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الدنيا إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. وقد عرف هذا الصحابي أهدافه بوضوح من قائده النبي محمد ﷺ، واستطاع نقلها لغيره بكل ثقة وحزم، وسعى إلى تحقيقها بكل إخلاص وتفاني.
-
الأهداف الوظيفية
من الأشياء التي يغفل عنها كثير من المسؤولين عندما يستقطبون كوادرهم الوظيفية، أنهم لا يوضحون لهم الهدف من الوظيفة التي سيشغلونها ومدى ارتباطها بالأهداف المؤسسية؛ مما يجعلهم يتبنون توجهات ومسارات لا تتوائم مع ما تسعى إليه المؤسسة لتحقيقه؛ علما أن بطاقة الوصف الوظيفي يفترض أن تحتوي على تفصيل الأهداف الوظيفية مع المهام المطلوبة من كل موظف. ولعل هذا الأمر يندرج ضمن البرنامج التعريفي للموظفين الجدد، الذي يعد أول برنامج إنمائي للموظف، فمنه يتعرف على المؤسسة وتقسيماتها الهيكلية وحقوقه وواجباته وأهدافه ومهامه الوظيفية وغير ذلك مما يحتاجه الموظف ويعينه على إنجاز ما يوكل إليه من أعمال.
-
بطاقة الوصف الوظيفي
من الأدوات والحقوق الوظيفية لكل موظف استلام بطاقة توصيفه وظيفيا، إذ تحتوي على أهدافه ومهامه الوظيفية، بالإضافة إلى الكفاءات والمهارات والمعارف والأدوات التي يحتاجها الموظف للقيام بمهامه وواجباته الوظيفية. كما أن هذه البطاقة يجب أن تخضع للمراجعة والتحديث كي تتوائم مع خطط وبرامج التطوير والتنمية في المؤسسة، وتجعل المنتسبين على بينة فيما يجب أن يقوموا به من أعمال وواجبات. بالإضافة إلى أن تقييم أداء الموظف سيكون مرتبطا بأهدافه التي هي من مكونات بطاقة الوصف الوظيفي هذه؛ لذا ستبنى عليها خطة الإنماء والتطوير المهني لكل فرد، إذ إنّ مواضع القوة والضعف ستكون واضحة في هذا التقييم. وعليه سيخضع المنتسبون إلى برامج تطويرية تحقق الأهداف المؤسسية والفردية، وترفع مستوى الانتماء لدى الجميع.
-
التواصل
أصبحت قنوات التواصل الشخصي متعددة ومتنوعة، ولا يمكن احتواؤها أو التحكم بها؛ مما يتوجب على المؤسسات تخصيص قنوات تواصل فعالة ومضمونة كي تحقق أهداف التواصل بين المؤسسة وكوادرها الوظيفية وبين أفراد المجتمع الوظيفي والوحدات التنظيمية بوجه عام. كما أن هناك نشاطات وفعاليات مجدولة مثل: المؤتمرات والحلقات النقاشية والملتقيات والأيام المفتوحة وغيرها تحقق بشكل كبير مبادئ التواصل الداخلي والخارجي للمؤسسات. وبهذا يجد المنتسبون فرصة للتعبير عن آرائهم ومقترحاتهم ومشاكلهم من طريق هذه القنوات المتعددة، وينشط التفاعل بين المجتمع الخارجي وهذه المؤسسات؛ لذا ستكون بيئة العمل أكثر إيجابية وجاذبية. كما أن مستوى الشائعات والفبركات الإخبارية التي تفتقر إلى المصدر السليم والدقة ستنتهي وتتلاشى مع وفرة قنوات التواصل في المجتمع الوظيفي بمستوياته الثلاثة في الإدارة: (العليا والوسطى والدنيا)، إذ سيؤدي إلى تنقية بيئة العمل من أي شوائب.
-
الرضى الوظيفي
عندما نسمع عن هذا المصطلح تتبادر إلى أذهاننا تساؤلات عديدة، أهمها: كيف يمكن للمؤسسات تحقيق هذا الأمر؟ وكيف يتمكن المنتسبون من الشعور بالرضى الوظيفي؟ في الحقيقة الأمر، إن تحقيق ذلك ليس بالأمر السهل؛ لأن كلا منا له متطلباته الشخصية والعامة كي يصل إلى هذا الشعور. لكن من واجب المؤسسات أن تضع آليات وأدوات لقياس مستويات الرضى الوظيفي لمنتسبيها، ثم وضع برامج وإجراءات كفيلة لتحقيق مستويات مقبولة منه، مع مراعات الأهداف المؤسسية ومتطلبات النمو والتطوير؛ علما أن هناك العديد من الدراسات والأبحاث في هذا الموضوع، ولكن الشعور بالاستقرار وتوفر فرص النمو والتطوير مع الأخذ بعين الاعتبار مستويي الحياة الشخصية والعمل، قد يقربنا من المستوى المطلوب لمعدل الرضى الوظيفي.
-
المكافآت والأجور
عندما يكون نظام المكافآت والأجور في المؤسسة عادلا وواضحا ويتناسب مع معدل أداء الأفراد ومستوياتهم الوظيفية، أضف إلى ذلك إجراءات وضوابط تضمن الترقي والانتقال إلى أعلى المستويات الوظيفية والمالية، فإن ذلك قد يكون كفيلا بجلب مشاعر السعادة والارتياح إلى جميع منتسبي المؤسسة، كما أنه يحقق تنافسية ونسبة مرتفعة من الاستقرار، بل يقلل من هروب الكفاءات إلى خارج المؤسسة؛ علما أن نظام المكافآت والأجور ومدى تميزه في المؤسسات يعد من الأسباب الرئيسة لِرفع مستويات القيمة التنافسية بين هذه المؤسسات، كما يؤدي إلى استدامتها ونموها بثبات.
-
بيئة العمل
تنقسم بيئة العمل على أقسام عدة، منها: توفير المساحات المكتبية الملائمة التي تتيح بيئة عملية صحية، وتوفير الأدوات والمواد والمعدات الضرورية لإنجاز الأعمال، وإتاحة ثقافة مؤسسية محفزة ذات طابع إيجابي واجتماعي ... وغير ذلك من مقومات تحسين بيئة العمل. من هنا يجب على المؤسسات والأفراد على حد سواء السعي جاهدين إلى تحسين بيئة العمل بالتخطيط السليم ورصد الموارد اللازمة لتحقيق ذلك، ووضع مؤشرات دقيقة لقياس مدى موائمة بيئة الأعمال مع الأهداف التي يراد تحقيقها؛ علما أنه لا يمكن أن نصل إلى مستويات إنتاجية عالية دون أن نوفر بيئة مرضية للمنتسبين وكل من له علاقة بمؤسساتنا من شركاء ومستفيدين. وتوجد كثير من المؤسسات الناجحة في العالم وفرت جميع ما يحتاجه المنتسبون من سبل الراحة والاستجمام والاسترخاء، بحيث يجد مرتادو المكان ما يحتاجونه من خدمات ومرافق كي لا يضطرون إلى مغادرة بيئة العمل لأي ظرف كان.
-
بناء فرق العمل
عندما ننظر إلى التقسيمات الإدارية والهيكلية في المؤسسات فإننا نرى أن هذه التقسيمات تشكل فرق عمل تخصصية؛ بحيث يؤدي كل منها مهاما مختلفة عن الأخرى حسب حاجة العمل ومجال كل فريق وتخصصه، كم أن هذه الفرق تسعى إلى تحقيق تكاملية بينها، والاستفادة من نتائج أعمال بعضها بعضا. على سبيل المثال، إن الدورة المستندية المالية في دوائر المشتريات والمالية والمخازن وباقي الخدمات تكمل بعضها بعضا، ومترابطة لتحقيق الصرف المثالي على احتياجات الإنتاج في المؤسسة. كما أن هناك فرق عمل يتم إنشاؤها لتحقيق أهداف ومهام مرحلية، مثل بعض اللجان التشغيلية وفرق العمل التخصصية؛ بحيث تتكون من كوادر بتخصصات مختلفة لتحقيق أهداف مشتركة، ونذكر منها لجان تحليل عروض أسعار المناقصات وفرق عمل المشاريع الانشائية ولجان مراجعة وتطوير اللوائح والقوانين وغيرها؛ لذا -كما نرى- نلحظ أن اختيار فرق العمل وبناءها يتطلب معرفة ومهارة من قبل صانعي القرار في المؤسسة ومتخذيه؛ بحيث تكون هذه الفرق متجانسة ومتعاونة وتسعى إلى تحقيق الأهداف المرسومة لها، وتمكن بعضها بعضا من تحقيق تكاملية مشتركة تحقق -بلا شك- أهدافا مؤسسية عليا؛ علما أن فريق الإدارة العليا في المؤسسات من أهم الفرق التي يجب أن تعمل على وفق منهجية التكامل والتجانس؛ كي تؤسس ثقافة مؤسسية سليمة يحتذى بها من قبل فرق العمل الأخرى، وما نراه من صراعات واختلافات في إدارات المؤسسات العليا يعد مثالا واضحا على التكوين غير السليم لهذه الفرق؛ مما ينتج عن ذلك إخفاقات متتابعة قد تسبب نهاية كارثية لو لم تتداركه مجالس إدارات الشركات والمؤسسات وتتدخل بالتغيير المناسب.
-
التدريب والتطوير
كما يقال: إن من لا يتجدد يتبدد، ومن لا يتطور يتدهور، وغير ذلك من أقوال الحكماء، ولكن واقع الحال في بعض المؤسسات من يقول غير ذلك، ويتم تبني سياسات لا تحقق التطوير والتجديد المطلوبين للاستمرارية. فنحن نرى أن عند موازنات التدريب والتطوير تكون الضحية الأولى عندما نسعى إلى تقليل الإنفاق في مؤسساتنا، ولا ترصد هذه الموازنات بناء على منهجيات علمية تحقق الصرف الفعال على نشاطات التدريب والتطوير، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى رصد مبلغ سنوي لا يراعى فيه نوع المنتسبين وعددهم، أو المستهدفين من عمليات التدريب والتطوير؛ لذا لابد من اتباع المنهجيات الصحيحة عندما نخطط لرفع كفاءة كوادرنا البشرية، وأول الخطوات هذه تبدأ بتحديد الاحتياجات التدريبية والتطويرية لوحدات المؤسسة ومنتسبيها، ثم يتم جدولة نشاطات التطوير والتدريب وتصميم البرامج المناسبة وتنفيذها بحيث تصل إلى المستهدفين في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة. كما أن نشاط التدريب والطوير يجب أن ينتهي بقياس العائد منه؛ وذلك من طريق آليات ممنهجة ومؤشرات تعكس مدى استفادة المستهدفين من نشاطات التدريب وتأثير ذلك على إنتاجية الأفراد والمؤسسة بوجه عام.
-
النشاطات الاجتماعية
تعد النشاطات الاجتماعية بين منتسبي المؤسسات مؤشرا إجابيا على التواصل الفعال والعمل على بناء فرق عمل متجانسة، فالإنسان بفطرته اجتماعي ويحتاج إلى من يشاركه أفراحه وأتراحه ونشاطاته غير الرسمية، وقد سعت بعض المؤسسات إلى تنظيم وتبني العديد من البرامج الاجتماعية لمنتسبيها، مثل: الرحلات والأيام المفتوحة والنشاطات الرياضية والترفيهية المختلفة؛ مما كان له الأثر الكبير في تذويب الفروقات بين المستويات الوظيفية؛ ومنه تسهيل عمليات التواصل بين الكوادر الوظيفية دون قيود أو حواجز. ولكي يكون هذا العمل ممنهجا فإنه يتوجب على المؤسسات وضع برامج اجتماعية سنوية ومجدولة يتم اعتمادها ودعمها من قبل المجالس المتخصصة؛ بحيث تكون مناسبة لجميع فئات المنتسبين.
ولا شك أن ما ذكرناه في أعلاه يحتاج إلى المزيد من التفصيل والإسهاب في شرحه وبيانه، ولا يعد حصرا لكل ما يتعلق بموضوع جاذبية بيئة العمل وتحسينها، ولكننا حاولنا باختصار عرض أساسيات وأدوات إدارية وتخطيطية يجب على جميع المؤسسات الناجحة أن تتبناها وتجعلها متاحة ومتوفرة؛ لكي يشعر المنتسبون أن هناك بنية مؤسسية تشكلت في مقر عملهم تجعلهم يثقون في نتائجها وتوجهاتها وإجراءاتها. كما أنه لابد من بناء الثقة المتبادلة بين وحدات المؤسسة، بحيث تتناغم مع بعضها وتتكامل دون الاعتماد على رموز فردية وقرارات مبنية على قناعات شخصية لم تأخذ حقها من التحليل والبناء المحكم.