السنة 19 العدد 183
2024/11/01

هوس اكتناز الكتب: ظاهرة الببلومانيا


 

 

ريم الهاشمية

مكتبة الجامعة

 

يُعدّ هوس اكتناز الكتب، أو ما يُعرف بالببلومانيا، ظاهرة غريبة ومثيرة تستحق التوقف عندها. قد يبدو جمع الكتب للوهلة الأولى شغفاً نبيلاً وراقياً، لكن ماذا يحدث عندما يتحول هذا الشغف إلى هوس يسيطر على كل تفاصيل حياة الشخص؟ إذ يمكن أن نجد أنفسنا أمام مكتبات شخصية ضخمة تضم آلاف الكتب، بعضها (وكثير منها) لم يُفتح بعد، وتجد أصحابها يبحثون عن المزيد دون توقف. إنها ليست مجرد رغبة في القراءة، بل احتياج لا يُشبع لتكديس الكتب، حتى لو لم يكن هناك وقت كافٍ لقراءتها كلها. 

 

ظاهرة الببلومانيا تُعرّف بأنها الهوس المرضي بجمع الكتب وتكديسها دون قدرة فعلية على قراءتها أو حتى تنظيمها. يعود تاريخ هذه الظاهرة إلى قرون ماضية، إذ وُجدت إشارات لها في العديد من الثقافات والحضارات. في العصور الوسطى، وقتها كان جمع الكتب علامة على الثراء والمكانة الاجتماعية العالية، نظراً لأن الكتب كانت نادرة وقيمة. ومع اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، أصبحت الكتب أكثر توفراً، وبدأ الهوس بجمعها ينتشر بين المثقفين والهواة. ومنذ ذلك الحين، تتابعت القصص عن أشخاص كرسوا حياتهم لجمع الكتب، حتى أن بعضا منهم أفلس بسبب إنفاق كل أمواله على شراء الكتب.

 

وتتعدد أسباب ظاهرة الببلومانيا وتتداخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وثقافية. فمن الناحية النفسية، قد يكون جمع الكتب وسيلة للتغلب على القلق أو الشعور بعدم الأمان، إذ يشعر المصابون بالراحة عندما يرون مجموعتهم تنمو. كما أن الشعور بالإنجاز والتحصيل المعرفي يمكن أن يكون دافعاً قوياً، حتى لو لم تُقرأ الكتب فعلياً. ومن الجانب الاجتماعي، يمكن أن يرتبط الأمر بالرغبة في التميز أو الظهور بمظهر المثقف، إذ تُعد المكتبة المنزلية الكبيرة رمزاً للمكانة الاجتماعية الرفيعة. وثقافياً تلعب المجتمعات التي تُقدّر العلم والمعرفة دوراً في تعزيز هذه الظاهرة، إذ يُنظر إلى جمع الكتب على أنه نشاط نبيل ومحبب. 

 

وفي زمننا الرقمي الحالي، أخذت ظاهرة الببلومانيا شكلاً جديداً ومثيراً. فمع انتشار الكتب الإلكترونية والمكتبات الرقمية، أصبح بإمكان الأفراد جمع آلاف الكتب بنقرة زر واحدة؛ مما زاد من سهولة وسرعة تكديس الكتب. ومع ذلك، لم يختفِ الهوس بالكتب الورقية، بل أصبح أكثر تعقيداً؛ إذ يجد بعضهم أنهم يجمعون الكتب الورقية والإلكترونية معاً. كما أن التحول الرقمي أضاف بعداً آخر للظاهرة، فأصبحت المكتبات الشخصية غير مرئية، مخزونة في الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية. وفي الوقت ذاته، زادت صعوبة السيطرة على هذا الهوس مع وفرة المحتوى وسهولة الوصول إليه، مما يجعل من الببلومانيا ظاهرة تواكب العصر ولكن بتحديات جديدة.

 

من وجهة نظري الشخصية، أرى أن ظاهرة الببلومانيا ليست بالضرورة مرضية؛ بل يمكن أن تكون صحية إذا ما تمت إدارتها بشكل صحيح. فشغف جمع الكتب يمكن أن يعكس حب المعرفة والرغبة في التعلم المستمر، وهي قيم نبيلة تسهم في تنمية الفرد والمجتمع. وإنّ تحويل هذا الهوس إلى فرصة لتوسيع الآفاق الثقافية والمدارك الفكرية يمكن أن يكون له أثر إيجابي كبير. وإنه من الضروري تحقيق التوازن بين جمع الكتب والتمتع بمحتواها، حتى لا يتحول الأمر إلى عبء نفسي أو مادي. وفي الختام، كلما كانت العلاقة مع الكتب علاقة حب وشغف حقيقيين، ستبقى الببلومانيا ظاهرة إيجابية تُثري حياة الأفراد وتعمق من تجاربهم الإنسانية.

 

 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة