أثر وتأثر(1)
خالد علي إبراهيم
في دنيا العالم التي تتلاطم فيها الأفكار والأخبار التي تجذب الإنسان وتدفع به نحو التعلّم والإفادة؛ والابتكار والإبداع؛ فيجد نفسه بين التوق للجديد، والبحث عن الإبداع، والخوف من المجازفة، فينكمش ويتقوقع في صدفته حتى لا يتأثر بمن يعلاه ويفوقه، والاعتراف سيد الأدلة لمن تأثرنا بهم أو نهلنا من معينهم واقتبسنا من نورهم؛ بهذه السلسلة أحفظ لنفسي أسماء لمعتْ في مسيرتي القصيرة التي لا أظنها اتسمت بالجديد؛ إلا أنها صُقلت بأفكار نخب اتخذت من الكتاب والقلم لها شعارًا؛ إذ اتسمتْ هذه الشخوص بالمنهجية والعلمية؛ كما أنها اتسمت بالهدوء في حين والثورة في أحيان أخرى.
أدون في هذه القصاصات حكايتي مع الشخصيات الثلاث التي تأثرت بها وعاهدت نفسي على دراستها وإخراج مكنونها ومغمورها للعالم. أبدأ بأحمد أمين فيلسوف الأدب والفكر؛ عهدي الأول به بكتابه الصغير "إلى ولدي" الذي وجدتُ فيه نصحًا وإرشادًا وتوجيهًا لم ألقه من غيره؛ يدغدغ مشاعر المراهق ويعرف طباع الصغار ومطامعهم التي تراودهم فيجيب عنها بلباقة وهدوء وذكاء.
أحمد أمين؛ الكاتب والمفكر المصري؛ الذي اتصف بالهدوء والتؤدة والتريث؛ بالعقل والحكمة؛ بالمنهجية والإتقان؛ اتسم قلمه بالجمال والجزالة؛ ذا عبارة واضحة؛ وذا فسلفة حية؛ تروي الضامئ؛ وتشبع الجائع؛ في شتى العلوم يبهر قارئه؛ ولا أبالغ إن قلتُ إنه قد فاق أقرانه في حينه وإن تخلّف اسمه عليهم؛ في تاريخ التشريع؛ والفكر الإسلامي؛ والأدب واللغة والشعر؛ ولا أخفي إعجابي به في النقد؛ إذ له حس جمالي وتلقٍ فريد للأدب؛ فلا أظن "هانز روبيرت ياوس" الذي ألصق الجمال الأدبي بالتلقي يسبق أحمد أمين وإن لم يصرح أمين بذلك.
ولا شك أن أحمد أمين كغيره من بني البشر؛ له ما ينقده ويقصره؛ إذ الكمالية لا يتسم بها بشر خلا الأنبياء عليهم السلام؛ إلا أنّ أثر الإمام مالك "كل يأخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر" يكون منهجًا لكل مقبل على علوم العالم وصنوفه؛ وأعلامه ورموزه. ولا غرابة أن يتلقى أحمد أمين دكاترة بحاله مثل "زكي مبارك" الذي ثار عليه في قضية جنايته على الأدب العربي والجاهلي؛ ودون ذلك في مجلة الرسالة؛ وطُبع بعد ذلك بعنوان: "جناية أحمد أمين على الأدب العربي"، ولا أبرر ما يبيض صفحته تجاه المستشرقين وأفكارهم؛ وقد أجاد الأستاذ البحاثة "إبراهيم السكران" في كشف اللثام عن هذه الحقيقة في كتابه الماتع "التأويل الحداثي للتراث" بيد أنّ الأمر فيه سعة وقبول لكثير من الأفكار وإن نقدت التراث وجلدت الذات؛ إذ كما قال الكاتب الياباني المستعرب "نوبوأكي نوتوهارا" في نقده للثقافة العربية وموروثهم الذي يجب أن يحرك آلة التجديد وعدم الركود دونه؛ فعلى الرغم من مرونته وسعته إلا أن أهله ضاقوا به حتى الخناق! قد أجاد في إيضاح تلك المثالب وغيرها في كتابه "العرب وجهة نظر يابانية".
فشخصية أحمد أمين اتسمت بمحاسن القيم والأخلاق؛ إذ نهلت من تراث والده؛ وحداثة أساتذة وعصاميته التي لقّحت كثيرا من الأفكار عنده؛ ومن أراد كشف ذلك ليقرأ سيرته الذاتية "حياتي"، إذ إنه حفظ للعالم ذاكرته وذكرياته؛ التي خلدت سيرته العطرة في حفظ مناهج البحث والنقد والجمال الذوقي الذي انفرد به أمين؛ وأيضا ليقرأ ما دونه ابنه الدكتور "جلال أمين" في سيرته الذاتية "ماذا علمتني الحياة" عن والده؛ وإنْ خالف فيها قيم الهوية الدينية بالجناية عليه؛ إذ جاء بأشياء تناقض حقيقة والده وعقوق بواح من ولد مفكر؛ لكن يبقى كل ذلك لميزان التاريخ الذي من شأنه الإسهاب في سير عجلة الحياة، والكل يريد أن يدون تاريخه من وجهة نظره وإن كان على حساب الوالدين!.
ومن أراد أن يرى تنوّع أحمد أمين وثقافته الواسعة ليلقي نظرة على موسوعته "فيض الخاطر" التي تجاوزت 900 مقالة في صنوف العلم من لغة وأدب ونقد واجتماع؛ وهي كفيلة لتقدير الرجل واحترام علمه وثقافته التي رسمها طيلة مسيرته الحافلة بالإنجاز.