تسعى للإسهام في ترك بصمة خاصّة في دراسة الرّواية العُمانيّة، وتخريج جيلٍ قارئ بعيون ناقدة
ألهمها طريق ألف ليلة وليلة؛ لذا اتخذته نهجا رائدا أثّر في قراءاتها المتعددة لكثير من أعمال الرواية العالمية، بل أقدمت على دراسة اللسان الإنجليزي خدمة للأدب وإبداعاته في نصوصه الأصلية؛ فكان لها غربة مؤقتة من طريق عوالم القراءة والتفتيش في ثقافاتها، إذ تشكّل لديها هذا التكوين في وقت مبكّر؛ لعله ولع بجنس الرواية وخارطة السرديات وفنون أسفارها. إنّها تداعيات أيديولوجية النقد الأدبي التي تمثّلها الدكتورة مريم بنت سالم البادية، أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية في جامعة نزوى، التي تحلّ ضيفا على "إشراقة" لتكون شخصية عددها؛ ممثلة انسيابية كثافة لغة الباطن ورمزية النفس ولغة الذات ورومانسية الواقع.
-
لتكن البدايةُ تعريفًا بنفسك: نشأتك ومحطّات تكوين الوعي المبكّرة من الطفولة، مرورًا بالمدرسة، ثم مرحلة الجامعة؟
نشأتُ في أسرة متواضعة ماديًّا، لكنّها تملك كمّا هائلًا من القدرة على تشكيل ميول طفلة وهندستها وتعليق قلبها بمحبّة الكتب. فلم تكن أسرتي تملك الكثير من المال، ولا الألعاب التي يتلهّى بها خمسة إخوة في ظهيرة أيام القيظ والشّتاء، لكن في غرفة أخي الأكبر توجد كتب كثيرة ومجلّات شغلتني في سنين طفولتي على نحوٍ خاص.
أتذكّر أنّني قرأتُ مبكرًا أجزاءً من ألف ليلة وليلة، وكنتُ أقصّ على أخي وأختي الأصغر منّي ليلًا ما أقرؤه نهارًا... وكانا يترقّبان الحكايات منّي كترقّب شهريار الحكاية من شهرزاده مدّة ألف ليلة، حتى أتت اللّيلة الأولى بعد الألف ليعلن إبقاءها حيّة. وكنتُ حين أقصّ على أخويّ الحكايات أسمح لخيالي بتحريفها لتلائم تمرير رسالة أُريد منهما إدراكها، أو القيام بما أطلبه منهما مقابل الحكي. وكنتُ أتخيّل قصر هارون الرّشيد، وعوالم الجنّ والعفاريت، والملك السندباد، والخياط، والأحدب، واليهوديّ، والبنات الثّلاث، والحمار، وأضفي على الحكايات مكوّنات من واقع قريتنا الصّغيرة.
كنتُ قد قرأتُ أيضًا في تلك السّنوات بعض أعمال فاروق جويدة: «أوراق من حديقة أكتوبر»، و«حبيبتي لا ترحلي»، و«للأشواق عودة»... وغيرها.. وكان كتاب «بلاد السّحر والخيال» الأهمّ من بين ما قرأت له. وكان هذا الكتاب ممنوعًا في عُرف أخي، يخبئه في مكان بعيد، لكن يديّ الصّغيرتين قرّبتا البَعيد! وتساءلتُ وقتها عن «العُرف» الذي يجعل من هذا الكتاب ممنوعًا!
فتح هذا الكتاب تخيّلاتي على ما هو أبعد من حدود قريتنا الضيّقة: الهند، موريتانيا، النيجر، وغيرها... وشدّتني عوالم هذه المدن كما قدّمها جويدة. وأتذكّر أنّي كنتُ أبحث عنها في «خرائط أطلس» (الذي كنّا نحصل عليه من المدرسة ضمن مادة الجغرافيا) لأتأكّد أنّها موجودة فعلًا، وليست محض تخيّلات وأوهام! وحين سألت أمّي مرّة: لماذا لا نذهب إلى الهند، وموريتانيا، وأفريقيا كما فعل فاروق جويدة؟ أجابت: في هذه المرحلة يمكنكِ القراءة عن هذه البلدان، وحين تكبرون قليلًا سنذهب إليها!
حين أتحدّث عن المحطات المبكّرة التي شكّلت وعيي، لا يمكن أن أهمّش «مجلّة ماجد». فقد كان يوم الأربعاء سخيًّا ومنتظرًا بما يجود به من دهشة وفرح على قلوبنا الصّغيرة... كانت مجلّة ماجد تدور في أيدي الأطفال الصّغار في بيتنا والكبار على حدٍ سواء، وتخرج تتجوّل إلى بيوت الجيران الأصدقاء، وكانت أحيانًا تأتي منهم إِلينا.. كنّا نترقّب الشّخصيّات المصوّرة التي أدهشتنا، وتعلّقنا بها، لدرجة كنّا نترقّب بلهفة معرفة ما ستؤول إليه مصائرها! وكنّت أجمع «صندوق معارف» من المجلّة، في الفنون والعلوم المختلفة... وحين توفّي مؤسس المجلّة الأستاذ أحمد عمر في أوائل أغسطس الماضي 2024 شعرتُ بأنّ الزّمن أسدل ستارًا على جانبٍ من طفولتي.
وكي لا أطيل الحديث في هذه النّقطة: فإنّ البدايات الأولى المؤثّرة في تشكل وعيي تتمثّل في الكتب والقراءة العامّة خارج إِطار المدرسـة، وكان لأسرتي، في المقام الأوّل، فضل توفير هذا الفضاء. كما للمدرسة، دورٌ كبير في هذا الجانب.
المدرسة، وسنوات الجامعة
كنتُ في كلِّ عام، حين أحضر شهادة المدرسة تقول لي أمّي: هل هذه «النتيجة» تعكس فعلًا مقدار ما تعلّمته في المدرسة؟! وأعتقد أنّ سؤالها علمني الفرق بين «الأرقام الممتلئة»، و«الأرقام الفارغة» في هذه الحياة، و«القيمة» و«اللاقيمة»! بل هو إحدى الصخور الأولى الملقاة في بركة الوعي، فصرتُ لا أعتبر الأرقام جائزتي الكبرى دومًا، ولا تغويني كثيرًا، بقدر اهتمامي بالاستغراق في الدّرب نفسه!
بعد تخرّجي من المدرسة كان حلم أهلي أنْ ألتحق بإحدى كليّات التّربية لأتخرّج بعد أربع سنوات وأستلم وظيفة في التّدريس شبه مضمونة آنذاك، لكن رغبتي حسمت القرار فالتحقت بكليّة الآداب في جامعة السّلطان قابوس، وهذا يعني مواصلة طريق ألف ليلة وليلة! والحقيقة أنّي لم أكن أبذل جهدًا كبيرًا في كثير من المقرّرات التي كنتُ أسجّلها في كلّ فصلٍ دراسيّ، بل كنتُ أقرأ خارج المقرّرات التي ندرسها كثيرًا، وحين تأتي الاختبارات أجيب عن أسئلتها ممّا قرأت. وكان بعض أساتذتي يعجبون بإجاباتي، وأُمنح الدّرجة النّهائيّة في ورقة الاختبار، وبعضهم ينزعج، ويطلب منّي حفظ «مذكّرة» المقرّر المقدّسة في رأسي لإعادتها إليه مكتوبة في ورقة الاختبار!
في المرحلة الجامعيّة الأولى، تتلمذت على أساتذة كبار أكنّ لهم اعترافًا وتقديرًا كبيرين: أحمد الطريّسي، وعبد اللّطيف عبد الحليم (المشهور بـ«أبي همّام» أكثر من شهرته باسمه)، ووليد خالص، ومحمّد التونجي، وإبراهيم بركات، وغيرهم. وقد تخرّجت في الجامعة، وكنتُ من الأوائل على الدّفعة، والتحقت بدراسة دبلوم التّأهيل التّربويّ في الجامعة ذاتها، وكنتُ أتمنّى أن تأخذني الطّريق إلى العمل في إحدى مؤسسات التّعليم العالي.
-
ماذا عن مرحلة الدّراسات العليا، والتّكوين العلميّ والأكاديميّ؟
جئت إلى جامعة نزوى بفضل سمعتها في برنامج الماجستير الذي كان في بداياته آنذاك وفي أوج ازدهاره أيضًا، وكنتُ سمعت من بعض أساتذتنا اسم الأستاذ الدّكتور محمّد لطفي اليوسفي الذي كان أيقونة علميّة فارقة في النّقد والأدب، واستقطبني الاسم.
اكتشفتُ في بداية مرحلة نزوى أنّ دراسة النّقد الأدبيّ، الذي أخذته تخصّصًا، لن تكون مجدية ما لم أتعلّم لغة أخرى، لا سيما كتب النّقد الأدبيّ الرصينة متاحة أساسًا بالفرنسيّة والإنجليزيّة، ولهذا شددتُ الرّحال إلى معهد «بيت» في بورنموث بعد إتمام مرحلة الماجستير، وقضيت عامًا أكاديميًّا في دراسة اللغة الإنجليزيّة، ثمّ بعد حوالي ثلاثة أعوام التحقتُ بدراسة الدّكتوراة في جامعة السّلطان قابوس، وأردتُ تقديم أطروحتي في «سرديّات التّلفّظ» تطبيقًا على السّرد العُمانيّ، وهو فرعٌ حديث نسبيًّا في دراسات السّرد، ومرتبط باللّسانيات ارتباطًا مباشرًا، ولكن وجدتُ أنّ أغلب المصادر التي ستساعدني في تقديم دراسة علميّة إمّا متاحة بالإِنجليزيّة أو الفرنسيّة، أو أنّها مترجمة إلى العربيّة ترجمة بائسة غالبًا، ولهذا اتّخذت قرارًا بعد السّنة الأولى من الدّكتوراة بدراسة هذه المصادر بلغة أجنبيّة دراسة أكاديميّة.
اضطرّني هذا الخيار لإرجاء العمل في أطروحة الدّكتوراة قليلًا، إذ سجّلت في جامعة ليدز في المملكة المتحدة لدراسة ماجستير في اللّسانيات، وكانت مرحلة ليدز مهمّة جدًّا، فقد كنتُ أمامَ تحدٍ حقيقيّ لاختبار إرداة الذّات، وقدراتها! وقد تخرّجت بعد أن قرأتُ إميل بنڤنيست، وأركيوني، وجرايس، وأوستين، وديكرو وغيرهم من المصادر المهمّة، في حوالي عشرة مقررات، تجمع بين المرارة والمتعة، وقدّمت رسالة الماجستير في وجهة النّظر في الرّواية العُمانيّة بإشراف اللّسانيّة بيثان ديڤيس. وكان تركيزي في هذه المرحلة على تحقيق أقصى قدر من الاستفادة العلميّة من البرنامج، ولم يكن تركيزي على الحصول على الشّهادة، وساعدني في هذا أنّني لم أكن قد أعلنتُ عن التحاقي بالبرنامج إلا لدائرة الأهل الضيّقة ولمشرفي في الدّكتوراة، كما أنّني كنتُ أدرس على حسابي الخاص، وفي إجازة من العمل غير مدفوعة، وكلّ هذا كي أتحمّل كليًّا نتيجة هذا القرار!
تطلّب عملي في أطروحة الدّكتوراة بعد هذه التّجربة جهدًا مضاعفًا، أوّلًا للإفادة من اللّسانيّات في تحليل السّرد إفادة منهجيّة، وثانيًا لأنّ مشرفي كان يتوقّع دراسة نوعيّة بعد الانقطاع وتجربة الدّراسة تلك، وكان جادًّا، وصعبًا بشكلٍ يجعلني مدينة له بالنّتيجة التي وصل إليها بحثي الذي نُشر عن نينوى بعنوان: «الذاتية في السّرد»، وتستعدُّ الدّار لإصدار طبعة ثانية منه قريبًا.
وفي سياق التّكوين العلميّ أيضًا، أخصّص بعض الوقت لتعلّم مهارات ومعارف جديدة كلّ فترة، وقد ساعدتني منصّات التّعلّم الذّاتيّ على هذا لا سيما في فترة كورونا، فمنصّة كورسيرا مثلًا أراها ثروة قيّمة ولا يمكنني الاستغناء عنها... وقد التحقت بعدد من الدورات فيها، في: اللّسانيات البنيويّة، واللّغة وعمل الدّماغ البشريّ، والتّرجمة من الإنجليزية للعربيّة، والموسيقى، والفلسفة والدين، ولسانيات تشومسكي، ومهارة «تعلّم كيف تتعلّم»، ومؤخرًا أكملتُ دورة في الأدب الأمريكي المعاصر تطلّبت حوالي 95 ساعة محاضرات، وقراءات، وتحليل نصوص شعريّة، ومشاركة في تقييم بعض الأعمال التي يقدّمها المتعلمون غيري شرطا من شروط اجتياز الدّورة.
كما التحقت بدورتين قدمتهما جامعة حمدان بن محمّد الذّكيّة في التّعليم الإلكترونيّ.
لهذا، أجد روافد عديدة أسهمت -ولا تزال- في تكويني العلميّ والأكاديميّ.
-
استرجعي معنا أبرز الفرص التي أتيحت لكم في جامعة نزوى، وما حققتموه على مستوى العمل، وما تسعون لتحقيقه أيضًا.
جلّ الفرص العلمية والعملية التي أتيحت لي منذ مجيئ إلى جامعة نزوى طالبة، وإلى اليوم هي بفضل الجامعة، وبفضل إرادتي طبعًا، ولهذا فأنا ممتنّة للجامعة كثيرًا، وممتنة لإدارتها الموقرة كل الجهود التي تقدّمها لتنمية مواردها البشريّة.
أمّا بالنسبة لأبرز ما أعمل على تحقيقه في عملي في الجامعة فهو تعليم الطلبة الذين أدرّسهم بنفس الطريقة التي تعلّمت بها... بالقراءة أقصد. لهذا أركّز على دفع الطلّبة الذين أدرّسهم لتقديم جهدٍ ذاتيّ. وأركّز كذلك على تشجيعهم على التّعلّم الذّاتيّ، وأعرّفهم على قنوات معرفيّة مكتوبة أو مسموعة، وأعلمهم عدم تسليم أذهانهم للكتب وغيرها، أو لما يسمعونه منّي أو من غيري.
هذا على مستوى التّدريس، أما باقي الأعمال التي شاركتُ فيها في الجامعة فأوجزها في: المشاركة في تصميم بعض البرامج الجامعيّة، والأعمال الإداريّة، وشاركتُ في بعض الفعاليات العلميّة، وقدّمت بحوثًا أغلبها في الرّواية العُمانيّة، وترجمتُ فصلا من كتاب مشيال بريال نُشر في مجلة «المترجم» عنوانه: (العنصر الذاتي في اللغة)، وأعتقد أنّه أسهم في تصحيح فكرة نسبة ذاتيّة اللّغة إلى إميل بنڤنيست التي ترددها كثير من المراجع العربيّة.
أسعى كذلك إلى ترك بصمة خاصّة في دراسة الرّواية العُمانيّة التي بدأت في السّنوات الأخيرة تنافس عالميًّا وإقليميًا وتكسب جوائز مهمة، وتُترجم باهتمام ملحوظ، ويعتمد بعضها للتّدريس في بعض الجامعات العالميّة. وقد اقترحتُ مقررًا يعنى بالرّواية العُمانيّة تعريفًا ونقدًا يقدّم ضمن المقررات الاختياريّة في الجامعة. وآمل أن يُعتمد المقترح ويُطرح المقرّر قريبًا.
-
في رأيكم ما الجهود، المؤسسية والفرديّة، المطلوبة للإسهام في بناء مخرجات تعليمية جامعيّة مواكبة للانفجار المعرفيّ والتّدفق المعلوماتيّ الهائل؟
الواقع يتطلّب وضع خطّة شاملة تواكب هذه الثّورة المعرفيّة الهائلة. وعلى مستوى الجهود الفرديّة الموجهة في التّدريس -مثلا- أرى وجوب التّركيز على تعليم الطلّبة مهارة التّعلّم الذاتيّ بوصفها من صميم مهارات الحياة، فالإنسان لن يتعلّم ما لم يعرف كيف يتعلّم ذاتيًّا. ويرتبط بهذه النقطة تشغيل الطلّبة بشكلٍ مكثف في المقررات التي يدرسونها بما يحقّق لهم فائدة أكبر في الحياة بعد التّخرّج.
كما أجد من المهم التّركيز على إكساب الطلّبة مهارات التّفكير النّقديّ، وتخصيص مقررات محدّدة لتحقيق هذه الغاية تدرّس في السّنة الأولى. وقد تكون إعادة النّظر في خطط بعض المقررات (مثلًا: مقدّمة في المنطق) لا سيما في تخصصات العلوم الإنسانيّة (اللغة العربيّة مثلًا) لتخدم هذا الغرض بشكلٍ مباشر مفيدة.
والله نسأل التوفيق،،،