محمد عبد المنعم إسماعيل: "إنها تذكرني بالشعرِ وشغفه، والفنّ ورَهَفه، وبشاعرِ السودان الأحبّ (التيجاني يوسف بشير)، وديوانهِ العذب المعنون باسمِ (إشراقة)"
أعدّه: إشراقة وسمية التوبية.
عقدان من الزمن قضاهما الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم إسماعيل في جامعة نزوى، وخطّ فيهما جهودًا تنوعت محطاتها بين الجوانب الأكاديمية والإدارية، تاركًا بصمة طيبة وأثرًا جليّا، واليومَ يروي لإشراقة -الصحيفة التي يُحب- قصتُه الأولى، منذ أن وطأت قدماهُ أرضَ البدايات، وإلى أن لوحّت يداه لِطَيفِ الوداعات.
بين شغفِ العلمِ ولوعة الغربة...
لقد استمعتُ قبل فترة لحديثٍ مع رئيس سنغافورة، ذكر فيه أن النجاحات التي حققتها سنغافورة أنما تُعزى للتعليم، وحرصهم على توجيه الجهود لاستثمار الفرص التعليمية، فهو السر الذي نقل وطنهم من دولة لا تكاد تُعرف إلى مصافِ الدول المتقدمة، ومن هنا نستشفّ أن التعليم هو الركيزة الأساسية لإحداث النقلات الأكبر على الصعيدين الفردي والمجتمعي، ولو جئنا إلى مسيرتي العلمية فقد كانت السودان منذ فترة مبكرة متقدمةً تعليميًّا، ولديها مناهج تدريسية مكثفة تقدّم في آخر أربع سنوات في المدرسة باللغة الإنجليزية، فكنا ندرس روايات شكسبير في الأدب الإنجليزي، فهذا التأسيس القوي أعانني على التفوق في جامعة الخرطوم، وآنذاك كان المجلس البريطاني يقدم منحًا للجامعات مخصصةً للطلبة المتفوّقين، لا سيّما في الرياضيات والفيزياء، ومن حسن حظي أخترت بعد سنتي الثانية لأخذ المنحة، فأكملتُ هناك برامج البكالوريوس والماجستير والدكتوراة مدة ست سنوات في جامعات مختلفة، مثل: جامعة ريدنغ وجامعة وارويك، وهي سنواتٌ وثّقت صلتي بالعلم والبحوث وسط وجودي في مجتمع يقدّس العلم ويبذل السعي الحثيث نحوه، لكنّي في الآنِ ذاته افتقدت قيمًا وجواهرَ مجتمعية لا يمكنُ أن نجدها إلا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من قيم الترابط والأخوة والتعاون، فالغربُ يعزز مبادئ الفردية والاستقلال عن المجتمع، فكلٌ يشتغل بنفسه؛ ممّا أورث فيني وحدةً وشوقًا للوطن، وهذا جعلني أتقمصُ شعور المتنبي وقد جسّد شعور الغربة في قصيدته شِعب بوّان:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلةِ الــربــــيــع مــــن الزمـــانِ
ولكـــنّ الفتـــى العــــربيّ فيـــها
غريبُ الوجــــه واليـــدِ واللســـان
فرغم وجوده في أرض أشبه بالفردوس، إلا أن شبح الغربة لم يفارقهُ؛ ممّا جعله في مقارنةٍ حاضرة بين تلك الأرض وشعبها، وبين موطنهِ وأصله، وهذا يشبه الكثير مما اختلج في نفسي آنذاك، لذلك قررتُ العودة لجامعة الخرطوم وأكملتُ المسيرَ لأكون عميدًا لكلية العلوم الرياضية فيها.
الوطنُ الثاني يفتح أبوابه...
عندما انتقلتُ من السودان إلى البلد الحبيب عُمان، لم أشعر بتاتًا أنني فارقتُ موطني، وإنما كانت مجرد رحلة من موطني الأول إلى موطني الثاني، فصلتي بهذا البلد ابتدأت قبل عام 2004 عندما زرت جامعة السلطان قابوس ودرّست فيها أستاذا زائرا، فأعجبتُ بهذا البلدِ وشعبه، حينها نمت في قرارة نفسي أمنيةً للعمل بها، وكنت وقتها عميدًا لكلية العلوم الرياضية في جامعة الخرطوم، وما هي إلا فترة قصيرة حتى تلقيتُ اتصالًا من زميلي الدكتور إبراهيم الطيّب من جامعة السلطان قابوس يرشحني لأكون عميدًا لكلية العلوم والآداب بجامعة نزوى، فقبلت الفرصة دون تردّد، وهي لحظة أعتزّ بها، وفرصة خلقت فرصًا أخرى ما زلتُ أفخر بها.
البواكير الأولىَ للرحلةِ الطويلة...
في سبتمبر 2004م، قَدِمت لجامعة نزوى عميدا لكلية العلوم والآداب، إذ كانت البدايات الأولى للجامعة وهي في طور التأسيس، فكان ليَ الشرفُ بأن كنتُ أحد مؤسسي هذه الجامعة العظيمة، ومع أن فترة التأسيس كانت محفوفةً بالتحديات، إلا أنها أظهرت لنا نماذجَ لشخصياتٍ فارقة واجهتها بثبات، منهم رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور أحمد الرواحي، الذي كان آنذاك يُغادر الجامعة في وقت الغروب، وهي تضحياتٌ تذكر، وعطاءات تشكر، فبها قد حققت الجامعة إنجازاتٍ عديدة في فترةٍ وجيزة، ففي 2006 أي بعد عامين فقط من افتتاح الجامعة قُدمت مقترحات لبرامج في درجة الماجستير، ومع تتابع الإنجازات ازدادت سعادتي بالعمل في جامعة نزوى، لأنها جامعة جعلت من بناء الإنسان غايتها الأولى، فكما يقول شوقي:
أعلمتَ أشرفَ أو أجلّ من الــذي
يبني ويُنشــئ أنفُسًـــا وعقــولا
عشـرون عامًا بمبادئ راسخـة...
إن اتصالي بجامعة نزوى لعشرين عامًا جعلني أتتبع الكثير من التغيّرات، وألتمس العديد من التطورات، التي تجعل من جامعة نزوى أنموذجًا للمشاريع العلمية والفكرية الملهمة، فعلى الرغم من البداية المتواضعة للجامعة بموارد مالية محدودة، إلا أن انتقاءها لنموذج ريادي فاعل، وتفعيلها لذراع استثماري نشط، نقلت بها لأبعاد أخرى، فضلًا عن اتباع سياسة التنمية المستدامة منذ تأسيسها، بل إنها سعت لتحقيق معظم الأهداف التي وضعتها الأمم المتحدة، وهذه السياسة تمتدّ إلى الكادرين الأكاديمي والإداري، وحسن اختيارها واستقطابها لأساتذة أكفَاء في التدريس والبحث العلمي، فنشاطُ الأستاذ بحثيا شرطٌ أساس لقبولهِ جزءا من العملية التعليمية في الجامعة، حتى يتمكّن من الربط بين المنهج الذي يقدمهُ، والتطورات البحثية المرتبطة، وهذا ما أسهم في تعزيز صلة الجانب النظري بالجانب التطبيقي، وربط التعليم والتعلم بالواقع، ومدّ جسور التعاون مع القطاعات الصناعية المتنوعة، ولعلّ أبرز ما يميّز الجامعة يكمن في التزامها بإشراك الأساتذة والطلبة في رسم خططها وأهدافها المستقبلية؛ مما يتيحُ مساحة للتعبيرِ والتغيير والإبداع لكل الأطراف دون استثناء.
قدوةٌ ماثلة لمسيرةٍ حافلة...
والدي -رحمه الله- هو القدوة الأولى الذي تستحضرهُ نفسي كلمّا استذكرتُ هُويتي وإنجازاتي، وقد أخذتُ منه الكثير كحبّه للشعر وسردهِ، ففي وقتنا هذا نجدُ الأطفالَ يعودون من المدارس ثم ينغمسون في حلّ واجباتهم وفروضهم، إلا أنني وإخوتي لم نكن مثلهم، فكنّا نكملها في المدرسة ليتسنّى لنا الجلوس مع والدي وتذوّق الأبيات الشعرية التي يسردها على مسامعنا بعد عودتنا، وقد كان والدي شديد الالتزام والإخلاص في عمله، ولا يكادُ يفرغ من سرده الشعر حتى يحضر الملفات الكثيرة من عمله ثم يستغرق في فحصها وإنهائها، وهي صفات ورثتها منه فجعلني أقدّس الالتزام وأثمّنه في أي عملٍ أقوم به وأي منصبٍ أتولّاه.