الوحدة والاغتراب في مسيرة إمام الإبداع والاتباع الشهيد المغيب عمرو النامي
بقلم: أ.د عمرو أحمد عيسى التندميرتي
ما كتب حول الدكتور عمرو خليفة النامي كثير وكثير جدا؛ وكلّ منا زاحم ويزاحم لالتقاط صورة معه؛ ولكنه مع كثرة ما كتب عنه الكاتبون وقارب مسيرته المقاربون لا يعد في حقه شيئا ولا يساوي فى وزنه قطميرا؛ ولا يفي بعض الدين الذي في رقابنا لا كما ولا كيفا؛ فاستحقاقات الشهيد تنمو مع الأيام وتزيد؛ وقد كتب مؤخرا الدكتور فتحي الفاضلي(1) المناضل الوطني الحر، أستاذ الدراسات النفسية بجامعة طرابلس، مقالا مطولا في صفحته جمع فيه جل ما كتب عنه؛ ولكن كل ما نوه وأشار إليه يؤكد حقيقة ثابتة مفادها أن رجلا أضاء ما حوله في زمن العتمة والعته، وتنزل محترقا على رؤوس الطغاة كالشهاب الثاقب بعد حياة قصيرة.
كلها وحدة وغربة لا تقبض منها سوى على حفنة من الوجع مغموسا في مرارة الظلم وألم الاستبداد؛ ورجل بهذه الهالة التي تجاوزت دوائرها أوجاع الوطن والعروبة والإسلام لتشخص في "إقبالية" عجيبة مأساة الإنسان في حداثية مرعبة لجدير بأن يكون:
وقفا عليه اليراع *** لا يشترى لا يباع!
قراءة في "مطلع" الغربة
لعله من العزاء الدائم أنه كلما ضاقت بالمسلم الطريق ووجد نفسه وحيدا غريبا في رحلة الحياة ذكر قول النبي ﷺ: "بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء".
لقد كان شاعرنا الشهيد شيخ المغتربين في دنيا الغربة؛ يقطع طريق العيش وحيدا؛ فقد غدت الغربة والاغتراب في حقه قدرا لازبا محتوما ونصيبا وافيا مفروضا؛ فهل هو يا ترى غرم يدفعه كل من اختاروا منهج الله واتبعوا رضوانه وساروا على درب الصالحين وأهل العرفان!؟ قد يكون؛ بل هو الثابت في مسيرة كثير من أطهار البشرية الأبرار: "أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون"؛ والفتنة لهذا الصنف من الرجال لا تكون إلا على قدر المحبة والاصطفاء؛ وإن تخلفت عنهم كما يقول العارفون تحسسوا إيمانهم.
الرحلة المباركة
ابتدأت رحلة الغربة في مسيرة شاعرنا مذ كان فتى يافعا في إعدادية غريان وثانويتها؛ ثم في جامعة بنغازي؛ ثم في مصر؛ ثم في بريطانيا ثم أمريكا؛ ثم اليابان؛ وعندما قرر أن يحط عصا "غربته" والترحال في مسقط رأسه نالوت الرجال طالته يد الطغيان وغيبته إلى الأبد في أقبية السلطان !!
في إحدى هذه المحطات "الاغترابية" الغربية شط به المزار وطوحت به الديار في أعالي الوسط الغربي من أمريكا (Midwest)؛ في ولاية ميتشغن ليكون أستاذا زائرا بجامعة آناربر (Ann Arbor)؛ وفي أثناء إقامته القصيرة هناك نظر فيما حواليه، فما رأى غير ثلوج وسحاب ورياح وضباب؛ وأجساد تهيم على وجهها في كل زاوية ووجهة؛ أرجل تنتعل الطرقات؛ ووجوه تبيع زائف "البسمات"؛ وأيام تأكل الأعمار وتغتال اللحظات؛ لم تكن أول غربة يعيشها الشهيد؛ فمشواره يكاد يكون كله اغترابا؛ فما لم يكن عن طواعية ورضى منه في سبيل العلم والمعرفة والدعوة إلى الله كان بالقوة السياسية وإكراهاتها العفنة؛ حتى أدبه وكتاباته كتب عليها هي الأخرى الغربة والاغتراب؛ فما لم يولد منه وراء القضبان شهدت المنافي مخاضه وميلاده؛ فقصيدة القصائد في شعره ذات العاطفة الدافقة والحنين الجارف "أماه" التي لمست قلوب الملايين وغدت نشيدا على لسان كل المعذبين - هذه القصيدة كان من قدرها أن تنشر في مجلة "الغرباء".
أي قدر وأي مفارقة! وأي فأل وأي مصادفة!
فهو في غربة دائمة
فكم من مرة نجده ينفث هنا وهناك كثيرا من أوجاع غربته و"أوصابها"؛ ويلمح ويشير لمن كان يمكن أن تكون فيه من بني "الوطن" بقية من "وطنية"؛ فيتحدث عن نفس لا يجدها إلا فيما بين وداع ووداع؛ لا تنتهي من وداع حتى تودع من جديد؛ لا تأنس بدار ولا يستقر لها قرار؛ يخاطبها بمرارة الشوق والالتياع ولوعة المفارقة والوداع؛ متنقلا من بلد إلى آخر "يهدي" كما صورت قصائده همومه وأحزانه في لفتة مرة ساخرة مستسخرة تقطر شوقا حارقا وحنينا جارفا:
ودّعــت دارك رغـم الشــــوق للــدار **** والــدار ذات أحـــاديث وأخبــــار
يا دار أمسـيــت بــالأحزان غـــامــرة **** تهدى همومك من دار إلى دار!
نفسي الفداء لأرض عشـت محنتها **** ثم ارتحــلــت وحيدا غير مختار
مـــبـــدد الحـــول لا زاد ولا أمـــــــل **** إلا عــلالات أفكــــار وأشعـــــار
أنّى ارتــحــلت فإن القلب يعطفنـي **** إلى الأحبة في شـوق وإصــرار
بالأمس كنت عرين المجد يا وطـني **** وتدرج الفضل في سهل وأوعار
رفــعــت ألوية للــفــخــر عــالــيــــة **** وصغــت آثـــار مجــــد أي آثـــار
وأمــهـرت أرضــك الأبطال من دمـها **** تســخـــو بـه بين أنجاد وأغـوار
واليوم لا شيء غير الحزن يا وطني **** وغــيــر أنــــات أطيـــار لأطيـــار
فهو في غربة مستديمة يهدي هموم نفسه "من دار إلى دار" "وحيداً غير مختار"
شعور بالوحدة لا يفارق نفسه الأبية
لاحظ كيف كرر كلمة الدار رمز الإقامة والاستقرار ست مرات في خمسة أبيات فقط؛ فالدار رمز المقامة والهناء؛ مقام الوالدين والأولاد والجيران؛ الدار مستقر الذكريات وموطن القلب والسكن؛ وكل مراتع الطفولة والصبا تنطلق من الدار وتعود إلى الدار؛ وما كرر ذكر الدار إلا لأن الأشواق التي مزقته والغربة التي عذبته كان قد ازدحم بها وجدانه وفاضت بها عواطفه المشبوبة!!
الغربة الأقسى والأشد
وهذه تنهيدة حزينة وزفرة عميقة نفث بها الشاعر المغترب في إحدى اغتراباته الغربية؛ أحاول بجهد الضعيف مقاربة مطلعها الفريد. في هذه المحطة "الغربية" ومناخاتها الباردة على كل مستوى يخطر لك على بال تتراكب وتتراكم غربات بعضها فوق بعض؛ غربة الدار والمجتمع والوطن؛ غربة اللغة والدين والثقافة!
لقد تطلعت نفسه متأملة حتى لكأنها تنظر فيما وراء الحجب والأستار علها ترى بقعة ضوء تنفذ منها من حصار وحشة حاطت بها من كل جانب؛ ومن غربة ذهبت بها كل مذهب؛ غير أن البصر كان يرتد إليها كل مرة خائبا كئيبا متعبا وحسيرا؛ فما كانت تملك هذه النفس المثقلة بالهموم والأحمال وقد تمثلت أمامها نهايات كنهاية "الطائف"؛ على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات؛ إلا أن تبث شكواها إلى الله لما انتابها من عزلة شعورية؛ وتُصعّد آهات وجعٍ ممض في صرخة حزينة لغريب طوحت به الدار من دار إلى دار؛ ومن منفى إلى منفى في الداخل والخارج؛ يقول رحمه الله في مطلع قصيدة (1) فريدة:
سرت في رحلة الحياة وحيدا **** وقطعت الطريق في العيش وحدي
قصيدة نظمها المرحوم الشهيد الدكتور عمرو خليفة النامي في جامعة ميتشغان؛ في مدينة آن اربر بولاية ميتشغان بالولايات المتحدة؛ عندما تتابعت محاولات استبعاده مرة بعد أخرى من مشهد الحياة الثقافية في ليبيا؛ وحاولوا إشغاله لا تشغيله بالتدريس هناك بعيدا عن رسالته الإصلاحية المقدسة!
في هذا المطلع من القصيدة يلخص الشهيد رحمه الله مسيرته كلها؛ ويختصر فيه مأساته ومعاناته مع قومه ومع كل من كانوا من حواليه؛ وكأنهم لم يكونوا يوما شهودا هناك على ما كان يمر به من تجربة قاسية ظالمة آثمة؛ فقد "افتقد" حتى أولئك الذين يظنون أنهم كانوا معه ويدعون محبته؛ فإنهم لم يرتقوا إلى مقام المحبة التي يدّعون؛ لأنهم لو أحبوه حق المحبة لتفانوا في الدفاع عنه بما يملكون من وسيلة وحيلة؛ ولأقاموا الدنيا ولم يقعدوها؛ ولكنهم أخلدوا إلى الراحة؛ وفضلوا السلامة؛ ورضوا من الغنيمة "بوشوشة" كلام؛ ينقله بعضهم إلى بعض، بعيدا عن نور الشمس ومسرح الأحداث؛ وتركوه في معترك الحياة يواجه مصيره منفردا في أحراش السياسة الظالمة وردهاتها الآثمة؛ وأسلموه لجبروت الاستبداد ومرابضه؛ وهذا هو ما كثف من الشعور في وعيه وفي "لاوعيه" بالغربة الكاملة والخذلان التام؛ وعاش وحيدا غريبا حتى يئس من البشر جميع!
مشاعر الغربة:
صرخ رحمه الله من أعماقه مستشرفا في لحظة تجل روحي وإشراق نفسي مسار غربته وقد تخلى عنه الوطن ومواطنوه؛ نظر في الأفق البعيد البعيد حتى نهاية النهايات، فلم يرَ غير شخصه المحاصر في كل زاوية من زوايا حضوره الدعوي ووجوده العلمي؛ فعبر بالفعلين الماضيين: "سرتُ" و"قطعتُ" الدالين على أن الأمر قد حسم وانقضى وفات ومضى؛ سار في رحلته وحيدا؛ وقطع الطريق منفردا وكأنه يسير كما قال في القصيدة على "شفار الفرند"؛ إن المسيرة كما استشرفها قد انتهت وطويت أطرافها الفاعلة من كل جانب؛ وارتسمت معالمها أمامه جلية في خواتيمها واضحة في نهاياتها؛ ولمح بحدسه الروحي الصوفي الرهيف وقلبه الرقيق الشفيف لمح نفسه ولا شيء غير الذئاب؛ رأى نفسه وهو يقف وحيدا طريدا شريدا في الأفاق البعيدة؛ فقال مختصرا الرحلة التي أنهكه عيشها وأتعبته أحوالها:
سرت في رحلة الحياة وحيدا **** وقطعت الطريق في العيش وحدي
هو يقينا وبداهة لا يتحدث عن عالم الجسد؛ فلا تعنيه حركة الطين اللازب؛ ولا يأبه كثيرا لعربداته وتواصلاته اليومية مع الناس ولا مع غير الناس؛ ولا حتى عن اليراع وصريره في جهاده ضد الجهل والتخلف والأمية؛ فشخصه الكريم لم يفارق الناس إلا عندما فارقوه هم؛ ولم يبتعد عنهم إلا عندما ابتعدوا عنه هم؛ واضطروه اضطرارا للعزلة التي آلمته؛ وما تألم عندما تألم لأنه كان مشفقا من ضيق الحركة على نفسه؛ ولا لما كان يتعرض له جسده من أذى وحرمان وعذابات؛ فلسان حاله في رحلة المعاناة قول الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة ورفاقه الذين كانوا ينشدون معه أنشودة النصر: يا نفسُ إلاٌ تُقتلى تموتي
ولكن الإشفاق كان منه في الحقيقة على الآخرين عندما جعل منه "أمن الدولة" مصيدة متنقلة؛ يلاحقون من طريقه كل من يتردد عليه أو يتحدث إليه؛ إمعانا في استئصال النَفَس الإسلامي الحُر على أي صعيد كان!
كان الشهيد رحمه الله يتحدث في واقع الأمر عن عالم الغربة والفكر والشعور؛ كان يقارب اغتراب النفس وانسحاقها في وطن مفقود لم يعد موجودا إلا في بضع لترات من وقود "رخيصة" وعشر "فردات" من خبز تعيسة!
واليوم وقد انقضى كل شيء لا نملك إلا أن نقول لذلكم العملاق: إهنأ أيها الشهيد الماجد العزيز؛ فلئن سرت الرحلة وحيدا فكم من نبي سارها وحيدا؛ ويبعث يوم الحشر وحيدا لا تحدوه إلا معية الله ورعاية ألطافه تعالى؛ لقد سبقتك في هذا الطريق الموحش الوعر قافلة مباركة من النبيين والمرسلين؛ وصفوف طويلة من صفوة أهل الله والعارفين؛ وجمع غفير من الدعاة والمصلحين؛ ألم يقل النبي المصطفى الكريم ﷺ: "بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء"؛ وألم يقل عليه السلام أيضا: "يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد"؟!
صفوة الحديث
إذا كان قاموس الغربة لم يقو على ما آتاكم المولى من علم وأدب وشاعرية على نقل أحمال غربتكم؛ فأنى للخاملين المغمورين أن يقووا على فهم وفك طلاسم أوجاعكم في هذا المطلع المشحون غربة وألما ووجعا!
وحيدا في الحياة وفي الممات:
عزاؤنا أن قدركم أغلى وأعلى من أن يسعفنا المخيال على تمثله وتصوره؛ ونصيبكم من عطاء البلاء الحسن أزكى وأوفر من أن تحيط به عقول الغافلين والعاطلين؛ فلئن عشت وحيدا في عالم الشهادة فإن روحك اليوم لترفرف عاليا في علياء عليين بين أطباق السماوات وعوالم الملكوت من الملائكة المقربين؛ مبتهجة بإذن الله مسرورة؛ بما وجدت عند ربها مع جمع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وبإذن الله تمضي:
وحيدا "في الحياة وفي الممات" **** ويوم الحشر محمود الصفات
لقد كنت بؤرة البؤر في زمنك؛ أهدتك نالوت المجاهدة للشرق والغرب؛ ولكن الطغيان أبى إلا أن يجعل منك شهيدا مغيبا وأملا مؤجلا ومسيحا ننتظر عودته انتظارنا لنزول المسيح عليه السلام.
لم يصدق قول أمير الشعراء في رجل كما صدق فيك يا شهيد الدين والعلم والوطن:
عرف النفي حياة ومماتا **** وأصاب النصر روحا ورفاتا.
فلن ننساك يا عزيز، أخفوك فأظهرو، وغيبوك فخلدوك، فسلام عليكم في الخالدين وسلام عليكم في عليين.
ستبقى ما بقي الزمان أيقونة للحرية ورمزا من رموز النضال ومعلما من معالم الإيمان يلهم الأجيال جيلا بعد جيل؛ يلقنهم معاني الانعتاق الحر الكريم من كل ما يعيق النفس من التحرر الحق البهي؛ تحررها في الله وبالله ولله؛ ستبقى قصتكم غصة في حلق كل من طوى في نفسه خبرا عن الشهيد المغيب اليوم وغدا؛ وضن به على الحقيقة؛ وستبقى حكايتكم وصمة عار معصوبة على جبين كل من تولى منصبا قبل فبراير وبعده، ولم يعمل وسعه لإماطة اللثام عن حقيقة مصيركم أيها الشهيد المغيب!
سيقف الجمع -آمنيين ومسؤولين ومتواطئين- وجها لوجه في محكمة العدل الإلهي؛ ليقتص الله منهم جميعا عن كل ما مكروه ودبروه وبيتوه وتواطؤوا على طمس معالمه في حقكم أيها الشاعر الفذ المغيب؛ أيها الفتى الحر المحبب؛ أيها العالم النحرير والداعية المسلم القدير؛ لم يكن -أعز الله ذكركم في الخالدين- تملك من أدوات الدفاع عن نفسك سوى شحذ القريحة وامتشاق اليراع؛ ولكن البغاث في أرضكم استنسروا عليكم واستأسدوا مدججين بكل أدوات البغي والبطش والجبروت؛ يعينهم في ذلك طابور من الاستشراق العالمي مثلك في ذلك مثل المفكر الإسلامي مالك بن نبي وإن اختلفت بينكما الأدوات والمسالك والنهايات؛ إذ حاربوك وقيدوك وسجنوك وقتلوك وغيبوك؛ "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
يا ومضة النور كم بددت من ظلم **** وكم يراعك قد أحيا من الرمم
فاهنئي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية خالدة مخلدة في قصور الجنان رفقة عباد الرحمن. رضوان الله يحوطكم ويغمركم؛ وشآبيب الرحمة والغفران تترى عليكم بكرة وعشيا. رحمك الله أيها الشهيد المغيب رحمة واسعة؛ وأفسح لك في رياض الخلد وجنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.