السنة 19 العدد 181
2024/09/01

 

تُرجمان من نوع آخر: رحلةٌ في عالم الصم.


 

تحرير: روان الذهلية

 

إنَّ الإصرار والعزيمة والفضول رسالةٌ استضاءَ بها في سبيل العلم والعمل، وجعلَ حبه وشغفه دافعًا لخوض عُباب الصعاب، وسبر أغوار عالم عَدَّه جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الناطق، غسان محمد بن الحامد مثال للشخصية الطموحة التي آثرت انتهاج طريق البحث والاطلاع وصولًا إلى المعرفة، يصحبنا مع "إشراقة" في إضاءات من سيرته الذاتية.

 

 

بداياتٌ مُكللة بالنجاحات

 

يقول: "ولدتُ في 1 مارس 1996 بمنطقة الصابرية بمحافظة قبلي جنوب تونس في عائلة تُشجِع طلب العلم خاصة أنني أصغر أفراد العائلة، وقد حظيت بتشجيع والدَيّ وإخوتي لمواصلة رحلة البحث. التحقت في عام 2001 بالمدرسة الابتدائية بالصابرية، وزاولتُ تعليمي الابتدائي فيها، وكنتُ ضمن الطلبة المتميزين، ثم انتقلت إلى إعدادية ابن زيدون بالفوار، وكنت الأول طيلة الثلاث سنوات في الإعدادي، بعدها انتقلت إلى المدرسة الثانوية بالفوار، وأكملتُ المرحلة الثانوية فيها، واخترت تخصص العلوم التجريبية، وقد تُوِّجت المرحلة الثانوية باجتياز امتحان البكالوريا (الثانوية العامة) في عام 2014 في تخصص العلوم التجريبية".

 

آفاقٌ تتبدَّى من عالمٍ واسع

 

يتحدّث عن نفسه بقوله: "التحقتُ بعد ذلك بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، بجامعة تونس المنار لدراسة البكالوريوس في لغة الإشارات، إذ كانت جامعة تونس المنار هي الجامعة العربية الوحيدة التي تُدرِّس البكالوريوس في لغة الإشارات تخصصا مستقلا، وتخرجت في عام 2017 مترجما ومختصا في لغة الإشارات، وكنت الثاني على الدفعة، ثم انتقلت إلى المعهد العالي لأصول الدين بجامعة الزيتونة لدراسة مرحلة الماجستير في الحضارة الإسلامية وحوار الثقافات، وفي ظل شح الدراسات التي تهتم بلغة الإشارات بصفة عامة وفي المجال الديني بصفة خاصة في العالم العربي، كان موضوع رسالة الماجستير يهتم بلغة الإشارات في جانبها النظري واللساني؛ وذلك بالاطلاع على بعض الدراسات الأجنبية والاستعانة بما درسته في درجة البكالوريوس وربطها بالجانب الديني، مُقارنًا بين مجموعة من الإشارات الدينية المتنوعة في لغات إشاريّة مختلفة كلغة الإشارات التونسية والعربية والفرنسية والإسبانية؛ لأتحصل بذلك على درجة الماجستير بملاحظة جيد جدا مع التوصية بالنشر في عام 2022، ثم التحقت ببرنامج الدكتوراة بجامعة الزيتونة بتونس، وأنا الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في المجال نفسه المتعلق باللغات الإشارية".

 

التكوين البحثي والأكاديمي

 

يواصل حديثه: "أعد نفسي محظوظا؛ لأني وجدتُ نفسي أغوص في عالم جديد، في عالم له خصائِصه ومميزاته وهو عالم الصم ولغة الإشارات. حقيقةً المجال البحثي في لغة الإشارات لا يزال يعاني شحا كبيرا؛ فليس هناك دراسات تهتم بهذه اللغة كلغة قائمة بذاتها، وهو ما أعده شخصيا بيئة ملائمة ومُشجعة للبحث؛ سواء في لغة الإشارات كلغة وتسليط الضوء على أهم خصائصها ومميزاتها أم بالنسبة للأصم وعملية الإدماج وخصائص مجتمع الصم".

 

يضيف: "لقد كانت الجامعة ومرحلة البكالوريوس الخطوة الأولى لدخول عالم الصم واكتشاف مجتمعهم، فلقد درسنا علم النفس وعلم نفس ذوي الإعاقة واللسانيات والترجمة الإشارية والبيداغوجيا … لنكتشف منها عالم الصم ولغة الإشارات، ومن هنا انطلقت رحلتي البحثية خاصة بعد الاطلاع على الدراسات الأجنبية ومقارنة الإشارات في لغات إشاريّة مختلفة؛ مما جعلني متحمسا لخوض غمار البحث خاصة فيما يتعلق باختلاف اللغات الإشارية وتنوعها، والعلامة اللغوية في لغة الإشارات والعلاقة بين الدال والمدلول، وعملية الترجمة الإشارية، وعملية الإدماج. وأرى أن رحلتي البحثية لا تزال في بدايتها؛ ولكني أحيانا أقوم بنشر بعض المقالات والتدوينات على جوجل في بعض المواقع، وفي مجلة إشراقة قمت بنشر مقالين قصيرين، بالإضافة إلى بعض التدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي".

 

يكمل: "أما بالنسبة للعملية البحثية اليوم، وفي ظل وجود المكتبات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي والإنترنت، التي جعلت من العالم بمثابة القرية أصبحت العملية البحثية أكثر سهولة؛ لذلك أشجع جميع الطلبة والباحثين على البحث واستغلال التكنولوجيا الحديثة؛ ولكن في إطار الأمانة العلمية وتجنب الانتحال".

 

أعمالٌ تركت أثرًا لا يُنسى

 

إن المرحلة الجامعية من أفضل المراحل التي يمر بها الإنسان، وهي مرحلة مهمة جدا لبناء شخصية الطالب خاصة عندما يستغلها في تنمية مهاراته والمشاركة في الحياة الاجتماعية والعمل المجتمعي. يناقش هذه الحقبة الزمنية بقوله: "في فترة دراستي الجامعية كنت عضوا في عدد من الجمعيات الخيرية والثقافية على غرار جمعية نبراس الثقافية، وجمعية اليد البيضاء الخيرية…، كما كنتُ من بين المشاركين في تنظيم ملتقى طلابي دولي جمع العديد من الطلبة من جنسيات مختلفة، وشاركت في الملتقى الشباب الأفريقي الصيني ببكين بجمهورية الصين الشعبية. لقد تعلمتُ من هذه التجارب الكثير؛ لذلك نحث كل الطلبة على المشاركة في الفعاليات وفي النوادي الجامعية والأنشطة التطوعية فهي في غاية الأهمية؛ لما لها من دور كبير في تطوير مهارات الطلبة وبناء شخصيتهم".

 

صعوباتٌ بمثابة المُحفزات

 

تتجلى رؤية ضيفنا لهذا السياق ملخِّصا إياه بقوله: "كل العراقيل والصعوبات التي نواجهها في الحياة أعدّها شخصيا بمثابة المحفزات التي تساعدني على تحقيق ما أريد تحقيقه، يواجه مترجم لغة الإشارات العديد من الصعوبات عند الترجمة؛ نظرا لكون لغة الإشارات تفتقر إلى العديد من الإشارات لبعض الكلمات في اللغات المنطوقة، وعندما تواجهنا مثل هذه الكلمات نقوم بشرح المعنى للطلبة الصم، ثم نتفق على اختيار إشارة معينة للمصطلح. ومقابل ذلك أرى أن نقاط القوة تنطلق من الخبرة العملية، فمنذ أن كنت طالبًا تواصلتُ مع الصم باستمرار لأبدأ بعد ذلك في العمل بتونس في مركز للصم، واندمجت في عالمهم، ونلت شرف أن أكون عضوًا في مجتمع الصم لأنتقل بعد ذلك إلى جامعة نزوى. ويومًا بعد يوم وبتواصلي المستمر مع طلبتنا من ذوي الإعاقة السمعية اكتسبت خبرة أكبر في المجال".

 

تجربتي في جامعة نزوى

 

إنها محطة بارزة في سيرة شخصية عدد "إشراقة"، إذ تركت بصمة نوعية، نلتمسها في حديثه عنها بقوله: "بالنسبة للعملية التعليمية وعملية إدماج الصم في جامعة نزوى أجد أنها خطوة مهمة جدا في تاريخ الصم، فجامعة نزوى من الجامعات القليلة التي احتضنت فئة الصم في عالمنا العربي، ووفرت لهم الظروف الملائمة لتحقيق أحلامهم وأهدافهم. ودمج الطلبة الصم ليس بالأمر السهل؛ فهو يتطلب توفير بيئة ملائمة لاحتضانهم، وهو ما نجحت جامعة نزوى في تحقيقه؛ لذلك من هذا المنبر نطالب جميع الجامعات في الوطن العربي بفتح الباب لاحتضان الطلبة الصم والعمل على توفير بيئة ملائمة لإنجاح عملية الدمج".

إرسال تعليق عن هذه المقالة