علم الآثار وأسرار الماضي
أ. د. نائل حنون
مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية
جامعة نزوى
وصف علم الآثار ذات مرة أنه علم أسرار الماضي، وليس في هذا القول ابتعاد عن الواقع، ففي كل موقع أثري يوجد جديد، وحين يجري التنقيب في الموقع يكشف عما لم يكتشف مثله من قبل. صحيح أن السمات العامة تتشابه في مخلفات عصر واحد أو منطقة واحدة، لكن التفاصيل في العمارة واللقى والمحتويات تختلف بحسب المهارة والغاية والاستعمال؛ ولذلك يكون على المنقب الأثري أن يتعامل مع ألغاز عدة ليتوصل إلى تفاسير وحلول لها من طريق خبرته واستعمال معطيات علوم متعددة وإجراء مقارنات ضمن أفق واسع من نتائج التنقيب في مواقع أثرية أخرى. وهنا نتحدث عن اكتشافين أحدث كل منهما تغييراً في تاريخ العلوم والصناعة الحديثة.
أول عدسة مكبرة في التاريخ
أول المكتشفات التي نتحدث عنها هنا عبارة عن قطعة من حجر الكريستال الطبيعي الشفاف، عثر عليها في مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر في الغرفة AB من القصر الشمالي – الغربي في النمرود، موقع العاصمة الآشورية كلخ (شمالي العراق)؛ وذلك في أثناء أعمال الحفر والتنقيب التي قام بها المستكشف البريطاني أوستن هنري ليرد. هذه القطعة دائرية تقريباً، أو شبه بيضوية، أبعاد قطريها 4,2 سم × 3,45 سم، وأقصى سمك لها 0,64 سم، وقد جرى صقلها بعناية شديدة على الوجهين وكذلك حافتها الدائرية. والقطعة تأخذ الشكل المستوي – المحدب (Plano-convex)، فَأحد وجهيها مستوٍ والآخر محدب. إن هذه المواصفات والشفافية الفائقة للقطعة جعلت المنقبين الأوائل يذهبون إلى أنها عدسة مكبرة، وأطلقوا عليها تسمية "عدسة نمرود". حفظت هذه القطعة في المتحف البريطاني تحت الرقم W A 90959، وتم فحصها هناك، منذ اكتشافها، من قبل عدد كبير من المتخصصين بصناعة العدسات في بريطانيا، ومنهم غاسون (Gason) في عام 1972م. وقد أيَّد معظمهم أن هذه القطعة، الطبيعية أصلاً، عولجت بدقة بالغة لتكون عدسة مكبرة ذات بعد بؤري يصل إلى 12 سم من الوجه المستوي.
يعود تاريخ هذه القطعة، بدليل موضعها الطبقي، إلى القرنين التاسع – الثامن قبل الميلاد. وبهذا تكون أقدم عدسة مكبرة في التاريخ، واكتشافها يرجع تاريخ صناعة العدسات المكبرة إلى ما قبل 2900 سنة من وقتنا الحاضر. ولقد غير اكتشاف هذه القطعة تاريخ اختراع العدسات المكبرة، الذي كان يرجع إلى العام 1250م حينما قام به الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون استناداً على أبحاث ابن الهيثم ويعقوب بن إسحاق الكندي، أي بعد أكثر من ألفي عام من تاريخ صنع "عدسة نمرود". ومن المؤكد أنه كانت في حضارة وادي الرافدين القديمة استعمالات عدة، كان من الأسهل تحقيقها بوجود عدسة مكبرة، ومنها: صياغة القطع الذهبية والفضية الدقيقة، إشعال النار السريع، تدوين الرقم الطينية بِعلامات مسمارية دقيقة وقراءتها. وفي الحقيقة أن نسبة كبيرة من الرقم الطينية المسمارية لا يمكن قراءتها واستنساخها اليوم دون استعمال العدسات المكبرة.
"عدسة نمرود" المكبرة من القرنين التاسع – الثامن قبل الميلاد.
صناعة سبيكة الصفر (Brass)
يدخل معدن الصفر (Brass) اليوم في صناعات كثيرة، وهو من السبائك النحاسية التي تختلف عن السبائك البرونزية في أنها تصنع من مزج النحاس مع الخارصين بنسب معينة، في حين أن البرونز يصنع من مزج النحاس مع القصدير. ويتميز الصفر بمتانة عالية ومرونة في التكيف والديمومة مقارنة مع البرونز. لقد انتشرت صناعة البرونز منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وأصبح المادة الصناعية الرئيسة، بحيث سميت به العصور التاريخية في الألفين اللاحقين. أما الصفر فكانت هناك تكهنات عن صناعته في وقت قريب من التوصل إلى صناعة البرونز، غير أنه لم يتم اكتشاف دليل على تصنيعه إلا في عصر البطالمة في مصر (القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد). أما البرونز فقد كان تصنيعه شائعاً في الحضارات القديمة في الشرق الأدنى، لكن التوصل إلى النسب الصحيحة لنسب المعادن المستعملة فيه، خصوصاً النحاس والقصدير، لم يتحقق إلا في العصر البرونزي الوسيط، أو ما يعرف بالعصر البابلي القديم في حضارة وادي الرافدين.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين كان كاتب المقال يقوم بالتنقيب في تل السيب في منطقة حمرين شرقي العراق. وفي هذا الموقع اكتشف بقايا مدينة ميتُرناة (أو ميتُران) القديمة التي يعود تاريخها إلى العصر البابلي القديم وما بعده. وقد اكتشف حينذاك مجموعة كبيرة من القطع البرونزية في الموقع، ومن بينها حلقة كانت جزءاً من لجام حمار دفن بكامل عدته. ولما كان لون معدن هذه القطعة مختلفاً عن بقية القطع البرونزية، فقد أحالها إلى مختبر دائرة الآثار في بغداد لمعرفة المعادن التي تكونها. وقام المرحوم علي النقشبندي، مدير المختبر حينذاك، بفحص القطعة. وأثبت التحليل المخبري أن تلك الحلقة كانت مصنوعة من الصفر وليس البرونز. ولما كان الدليل الطبقي يؤكد أن تاريخ هذه القطعة يعود إلى نحو 1900 قبل الميلاد، أي قبل 1600 عام من عصر البطالمة، وقبل 3900 عام من وقتنا الحاضر، فبهذا تكون أول قطعة تكتشف مصنوعة من سبيكة الصفر. وكانت مكونات هذه القطعة تشمل النحاس والخارصين بشكل رئيس مع نسب صغيرة متفاوتة من الكالسيوم، الننكستون، الثوريوم، الصوديوم، السليكون، المنغنيز، المغنيسيوم والأنتيموني.
مجموعة من المواد التي اكتشفها كاتب المقال في تل السيب. القطعتان المتشابهتان في طرفي الصورة تعودان إلى لجامين للخيل من العصر البابلي الوسيط. بقية القطع من العصر البابلي القديم، وجميعها من البرونز باستثناء الحلقة في الوسط فهي من مادة الصفر.