السنة 19 العدد 179
2024/05/01

صوت العربية: حوار مع قامة موسوعية في تطوير العربية ومآثرها 


 

حاورته: أميمة الحاتمية

تحرير: ريهام الحضرمية

 

رغم التنوع في الألسن والثقافات حول العالم، إلا أنّ اللغة العربية تتبوأ واحدة من أبرز اللغات التي تحمل تاريخًا عريقًا وثقافة غنية، كيف لا وهي لغة القرآن الكريم، ورمز الإسلام والعربية، إذ تمتلك العربية جذورًا عميقة ضاربة في جذور التاريخ، وتعد رافدًا حيويًا للفكر والثقافة العربيتين؛ لذا تصنف واحدة من أهم الوسائل التي تُعبر من طريقها الثقافات عن أفكارها ومعتقداتها، وتُظهر تنوعها وغناها اللغوي ... من هنا، يأتي حديثنا مع فارس اللغة العربية، الباحث والمهتم بتطويرها الأستاذ الدكتور عيسى بن علي العاكوب من جمهورية سوريا، فقد استثمرت إشراقة حضوره إلى جامعة نزوى لتقديم محاضرة عنوانها: (فلسفة بناء الذات عند الشاعر المفكر محمد إقبال)؛ وذلك ضمن فعاليات الموسم الثقافي التاسع عشر بجامعة نزوى.

 

تمتلك هذه الشخصية الفذة خبرة واسعة في مجال اللغة العربية، وتضيف قيمة مهمة للعربية بتعليمها والإسهام في مكنونها الأدبية والفكرية. سنقترب في الحوار الآتي أكثر من حياة ضيفنا الدكتور عيسى والرابط الذي يجمعه باللغة العربية.

 

 

قضايا مجمع دمشق

الدكتور عيسى علي العاكوب، أستاذ البلاغة والنقد في جامعة الشام، كما يدرس البلاغة العربية في جامعة حلب، ويدرس النصوص الإنجليزية، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق منذ عام 2008م، يقول: "أشكر الله إذ من عليّ أن أكون عضوا به، فهو مجمع قديم، تم إنشاؤه في مطلع القرن العشرين، ويعد أول مجمع لغوي عربي في الوطن العربي. ويهتم مجمع اللغة العربية بمسائل عديدة، أهمها: قضية التعريب بهدف الحفاظ على العربية من الدخيل اللغوي الأجنبي، وتذليل الصعوبات التي تواجه تدريس العربية وتعليمها، وعلى الرغم من تعدد اهتماماته، إلا أن اهتمامه الأكبر يكمن في محاولة إصلاح شأن اللغة العربية، وكذلك إنمائها وتمكينها، كما يهتم المجمع بنواحي كثيرة، أبرزها المصطلحات العلمية الأجنبية التي تمطر كل يوم بكميات هائلة، وتترجم إلى اللغة العربية لحفظ اللغة من الضياع الذي قد تسببه هذه الإضافات المتتابعة والمتسارعة".

 

إسهامات وترجمات

قدم الدكتور عيسى عددا من المؤلفات والكتب، منها: (المفصل في البلاغة العربية)، (التفكير البلاغي عند العرب)، وكتاب في النقد، وكذلك لديه مؤلف في تأثير الحِكم الفارسية في الأدب العربي في العصر العباسي الأول، وكتب أخرى كثيرة. يضيف: "عملت على ترجمة ما يزيد على 30 كتابا من الإنجليزية إلى العربية، ومن الفارسية إلى العربية، وأخرى كثيرة فيما يتصل بالترجمات والنقد الادبي، وبعضها بالمفكر الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، فأنا مهتم جدا بهذه الشخصية، وقد ترجمت أثارها إلى الفارسية، وترجمت منها إلى الإنجليزية، وفي مؤلفاتي الأخيرة كنت مهتما ومركزا على البلاغة العربية والجمال الأدبي والطاقة البيانية في اللغة العربية بما يتصل بإعجاز القرآن الكريم".

 

موضوع الزيارة

نظّم قسم اللغة العربية وآدابها ممثلا عن كلية العلوم والآداب بجامعة نزوى محاضرة عن فلسلفة بناء الذات للشاعر محمد إقبال، قدّمها الدكتور عيسى. يقول عن موضوع المحاضرة: "هي فلسفة مفيدة، إذ يرى محمد إقبال أن الإنسان يجب أن يفكر، بل يجب أن يظهر جوهر قوته الكامنة، فالله خلق الإنسان وأودع فيه طاقات هائلة من الفهم والإدراك، وعلى الإنسان أن يحول هذه القوة إلى قوى ظاهرة، وهي فلسفة تجدها حاضرة عند الأنبياء والرسل والشخصيات القوية والبارزة على امتداد التاريخ".

 

وقد تناولت المحاضرة تجربة محمد إقبال شاعرا ومفكرا إصلاحيا، وعرضت رؤيته الفلسفية في بناء الذات وانعكاسها على تجربته الشعرية. واسترسل الدكتور عيسى في حديثه عن محمد إقبال الذي ولد في القرن 13 هجري، من أصول هندية، إذ كان نابغًا منذ صغره، ولأنه كان محبًا للعلم ومقبلًا على القرآن، أخبره والده قائلًا: "يا محمد إن أردت أن تقرأ القرآن فاقرأه كأنه أنزل عليك". ومما جاء في حديث العاكوب عن إقبال، قوله إنه أقام في مدينة لاهور عشر سنين، وأتم دراسته الفلسفية هناك، ثم التحق بعدها بجامعة كامبريدج البريطانية ليكمل دراسته فيها حتى الدكتوراة، وكان عنوان رسالته: (تطور ما وراء الطبيعة في بلاد فارس). كما ذكر المحاضر أن محمد إقبال -في حقيقة الأمر- لم يقم وزنًا لحضارة أوروبا، بل خاطب ساكني الديار الأوروبية بقوله: "يا ساكني ديار الغرب ليست أرض الله حانوتًا، إن الذي توهمتموه ذهبًا خالصًا سيزول بعد حين". في حين، نجد فكره الفلسفي فكرا يدعو إلى الأمل والعمل والجهاد؛ فقد ألّف كتابا عنوانه: (أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات).

 

فيما دعا الأستاذ الدكتور عيسى العاكوب أن تكون هذه الشخصية موضوعا لمحاضرته كونها تكتنز من العلم والفكر ما يدعو إلى الاستفادة. وقد طرح سؤالا على الحاضرين مفاده: ما الذي يستلزم بناء الذات؟ ليجيب عنه: أن يستخرج الإنسان كل ما حباه مولاه من مواهب، ويستثمر ذاته في قوله وفعله. الجدير بالذكر أن هذه المحاضرة جاءت ضمن فعاليات الموسم الثقافي الذي انطلق في السادس من فبراير 2024م، ويستثمره قسم اللغة العربية على الدوام باستقطاب شخصيات بارزة من شتى الأقطار في مجالي اللغة والأدب.

 

 

لذلك أحببته ...

إن المطالع لسيرة الدكتور العاكوب سيجد اهتمامه البالغ بالأدب الفارسي، وتركيزه على ترجمته إلى لغات مختلفة؛ لذا سألناه عن سبب الكامن وراء هذا الدافع فأجاب: "اخترت من الأدب الفارسي آثار جلال الدين الرومي، الذي أعدّه ذهنية كونية عالمية، تعرفت إليها وانجذبت لها، إذ إنني وجدت نفسي بينها وبين مطالبها، وملت إليها؛ لذا أخذت أترجمها من الفارسية إلى العربية، على اعتبار أن ما قدمه قيّم يستحق الاهتمام، كما لاحظت أن هذه الكتب المترجمة إلى الإنجليزية هي أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة الأميركية، وهناك جمهور في العالم يحب أشعار الرومي، حتى أنّ أشعاره تنشد في بوليود، فهو شخص جميل، وشعره دائما ما يدعو إلى حب الحياة والانفتاح، كما أن على الإنسان أن يقرأ أشعارا تحييه وتزيد طاقته، وجلال الدين مترجم للقرآن الكريم، الذي لا تموت به عناصر الحياة ولا تنقطع عجائبه". 

 

وسيط أساس

ارتبطت معالم تقدّم حياة الإنسان وعلومه في العقود الأخيرة بذلك الدور الجوهري الكبير الذي تعلبه الترجمة؛ التي اشتغلت أداة تقرّب الثقافات وتنقل المعارف؛ لتصنع جسرا بين الحضارات بمختلف أنماطها ومآربها. ويعلّق الأستاذ الدكتور العاكوب على هذا السياق بقوله: "الترجمة وظيفة إلاهية، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، فالتعرف قصد إلهي واضح، وتكمن أهميته في كسر الحاجز اللغوي بين المجتمعات، ونقل المعاني التي أبدعها قوم إلى لغتنا العربية، فعندما فتحنا نوافذ صرحنا العقلي في العصر العباسي، أشرقت شمس الثقافات المختلفة، ومنها الثقافة الفارسية، فأودع شعر هائل ومعاني هائلة، ونمى الأدب العربي نموا كبيرا، وحتى في مسائل فهم القرآن الكريم وتفسير، فالأعاجم كان لهم باع كبير في هذا الفهم، إذ إن العقول مختلفة، وكل لديه خصائص عقلية مختلفة، فلا بد من فتح نوافذ العقول لفهم ما أنجزه هؤلاء لكي يتطور الفهم لدينا".

 

تجربة خاصة

ومن جملة القضايا التي عنيت بها دراسات الأستاذ الدكتور عيسى العاكوب وبحوثه، ما عرضته محاضرته في جامعة نزوى إبّان زيارته لها؛ إذ إن شخصية موضوعه لها ما يميّزها في رؤيتها الفلسفيّة في بناء الذات وانعكاسها على تجربتها الشعريّة في السياقين التاريخيّ والثقافيّ اللذين ترعرع فيهما محمّد إقبال في باكستان والهند، إذ كانت الهويّة الإسلاميّة تعاني من الضعف؛ لذلك سعى إقبال إلى شحذ اعتزاز المسلم بنفسه، ودفعه إلى بناء ذاته استقلالًا عن التبعيّة التي تجاذبتها التوجّهات السياسيّة والفكريّة آنذاك.

 

ومن ملامح البحث التي استنتجها العاكوب تجاه هذه الشخصية، أن اهتمام حرب إقبال كانت حربًا ضدّ الاستلاب، وتجربته كانت حركة مقاومة فكريّة، عزّزها بدعوة المسلم إلى تنمية فرديّته واسترجاعه حقّه في التفكير وعدم السماح لغيره بصناعته. وظهر ذلك بشكل واضح جدًّا في تجربته الشعريّة أيضًا. واستند بناء الذات عند إقبال على الاعتزاز بالانتماء إلى أمّة الإسلام، وإلى دعوتها إلى المعرفة، واستند أيضًا على الجانب الروحيّ الوجدانيّ المتعلّق بطلب التميّز في الدنيا والآخرة، تميُّزًا يجعل المسلم مسؤولًا عن تنمية ذاته لأجل تنمية الأمّة ككلّ. هذا البناء يتحوَّل إذن إلى رسالة دينيّة وليس مجرّد رغبة فرديّة. يقول محمّد إقبال: "إن كان لي نغم الهنود ولحنهم لكن هذا الصوت من عدنان".

 

بحث موسوعي

وعن المؤلّف بروفيسور عيسى العاكوب، شدّنا سيرته العلمية الغزيرة، التي استوعبت طرحًا شائقا يغري المهتم والقارئ على حدٍّ سواء؛ وذلك لموسوعيته في علوم عدة. ولد المؤلّف في الرقة عام 1950، وهو أديب ومترجم وشاعر سوريّ. حصل على الدكتوراة في النقد والبلاغة من جامعة دمشق، ونال الجائزة العالميّة للباحث المتميّز في الدراسات الإيرانية. درّس في جامعة حلب، وشغل منصب رئيس قسم اللغة العربيّة في جامعة قطر، وهو عضو في مجمَع اللغة العربيّة بدمشق. اشتغل على الدراسات الأدبيّة والفكريّة والترجمة، فمن مؤلّفاته في الدراسات: (تأثير الحِكم الفارسية في الأدب العربيّ)، و(التفكير النقدي عند العرب)، و(موسيقا الشعر العربيّ)، و(العاطفة والإبداع الشعريّ: دراسة في التراث النقديّ عند العرب إلى نهاية القرن الرابع الهجريّ).

 

وحقّق: (عقود الجمان في المعاني والبيان للسيوطيّ). وله في الترجمة من الفارسيّة: (رسائل مولانا جلال الدين الروميّ)، (يد العشق: مختارات من ديوان شمس تبريز لمولانا جلال الدين الروميّ)، و(المجالس السبعة: أحد كتب مولانا جلال الدين الرومي النثريّة)، وغيرها. وله في الترجمة من الإنجليزيّة: (الخيال الرمزيّ، لروبرت بارت اليسوعيّ)، و(أبعاد صوفيّة للإسلام لآن ماري شيمل)، وغيرها كثير. كما ترجم مؤخَّرًا كتبًا لتوشيهيكو إيزوتسو هي: (الله والإنسان في القرآن)، و(علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم)، و(المفهومات الأخلاقيّة-الدينيّة في القرآن)، و(مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلاميّ: تحليل دلاليّ للإيمان والإسلام).



 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة