صفحات تغلق وأُخَرى تفتح... رحلة خريجة ولحظاتها التي لا تنسى
ذكريات خريج
في كل مرة كنت أحاور فيها خريجًا أجد في عينيه بريق الفرح، وأستلذ في أحرفه نبرة ممزوجة بالانتصار، غُصتُ كثيرا في مشاعرهم، وسافرت معها بخيالاتي البعيدة. كنت أستشعر جمال كل حرف تزفره حناجرهم المكتظة بشتى الكلمات، وألتمس في ذكرياتهم تفاصيل تميز تجربة كلٍ منهم عن الآخر. مضت الأيام وانقضت السنون لأصبح أنا الخريج الذي يشاطر ذكرياته مع صحيفة "إشراقة" في عددها المخصص للاحتفاء بخريجي الجامعة، وإنه لشرف كبير لي، رغم بساطة الذكريات وتواضعها.
شغفي ومؤهلي
اسمي ريهام الحضرمية، ولدت في قرية معمد بولاية منح وترعرعت بها، وتنقلت في دراستي الابتدائية والإعدادية بين عدد من مدارس الولاية حسب المرحلة الدراسية التي تتبع كل مدرسة، وتخرجت في مدرسة الشيخة نظيرة الريامية للبنات عام 2012م، لألتحق بجامعة نزوى بعد حصولي على بعثة دراسية مقدمة من وزارة التعليم العالي آنذاك، فدرست بالجامعة تخصص الهندسة الكيميائية والبتروكيميائية مدة خمس سنوات، عشقت الهندسة كثيرا، ووجدتها تشبهني، لم تكن رحلة الدراسة بها سهلة، فالهندسة من التخصصات المعروفة بصعوبتها؛ لكن دائما ما يجد الإنسان نفسه فيما يحب.
تجربتي الجامعية الأولى كانت مختلفة تماما من حيث التوجه والاهتمامات؛ ففي بداية دراستي كنت أواجه تحديات الدراسة واللغة والتحول الكبير الذي طرأ على مسيرتي التعليمية، وعلى تفاصيل يومي الدراسي بشكل خاص من حيث زمن التعلم وطول اليوم الدراسي؛ إذ واجهت الكثير من الصعوبات، كانت اللغة الإنجليزية أكبرها، التي استطعت التغلب عليها مع الوقت، كما أن التغير الجذري الذي يخضع له الطالب الجامعي في سنته الدراسية الأولى يمثل ذروة التحديات التي كان يتسيدها مستواي الدراسي، الذي شهد تفاوتًا ملحوظا بين ما كنت عليه في المدرسة من تميز وبين الكبو في مواد الهندسة بالتحديد؛ ولكن أينما وجدت العزيمة والإصرار انقشعت أمامها اصعب العراقيل، واستطعت التكيف مع التخصص، وإثبات قدرتي خصوصا في سنوات الدراسة الأخيرة. بعدها انقضت الأيام بحلوها ومرها، بيسرها وعسرها، وتخرجت بدرجة البكالوريوس، وبدأ فصل جديد في حياتي.
رحلة البحث عن أمل
بعد تخرجي بدأت رحلة البحث عن الوظيفة، والتحقت في هذه الفترة بالتدريب الميداني التطوعي في العديد من المؤسسات الخاصة والحكومية، وسعيت جاهدة للحفاظ على معرفتي التي اكتسبتها من الجامعة، وإنعاشها بين الفينة والأخرى بالممارسة خشية فقدانها، وبقيت باحثة عن عمل مدة عامين؛ مما شكل الأمر صدمة لتوقعاتي التي تشتت. ولم يخطر ببالي يوما أن هذه الطاقة المتقدة في داخلي لن تجد بريقها الذي سيشع بها... لكنها حقيقة سوق العمل المريرة التي أصبحت قناعة تزداد يوما بعد يوم؛ إلا أن الفراغ لم يجد في حياتي مقعدا؛ فكنت دائما ما أسعى لخوض تجارب جديدة، وفي مجالات مختلفة مثال عليها ريادة الأعمال.
وكانت من ضمن التجارب التي زالت ملتصقة بي تجربتي مع الكتابة الصحفية؛ فمنذ مرحلة مبكرة كانت الكتابة الأدبية تستهويني كثيرا، وكنت أقرأ في الشعر والقصص والأدب، كما شاركت في عدد لا بأس به من المسابقات التي تقيمها وزارة التربية والتعليم، بالإضافة إلى مشاركاتي الداخلية في المسابقات التي تقيمها المدرسة. ورغم الدعم والثناء اللذين كنت أتلقاهما من المحيطين، إلا أنني لم أكن أعي قيمة الكتابة في حياتي، حتى عمدتها متنفسا لتفريغ طاقتي؛ فالشعور المريح الذي كنت أشعر به بعد كل نص أكتبه وإن كان متواضعًا ومليئًا بالأخطاء؛ إلا أنه كان السبب الذي دفعني إلى إنشاء مدونتي الخاصة "متنفس قلم"، التي كانت متنفسا حقا لي، وكنت أشارك بعض كتاباتي بها، ومنها حصلت على فرص للكتابة في الصحف المحلية في أعمدتها العامة، ثم أصبحت صحفية متعاونة مع مجلة التكوين التي أعدّها من أثمن التجارب وأكثرها ثراءً؛ إذ انخرطت في العمل مع أساتذتي الكُتّاب الذين لهم وزنهم ومكانتهم في مجال الصحافة.
قرار العودة
بعد رحلة البحث الطويلة، انبلج بريق الأمل، ولكن للأسف لم يكون البريق كافيا ليضيء روحي؛ إذ التحقت بالعمل في إحدى مؤسسات القطاع الخاص. لم تكن التجربة طويلة، ولكن كانت كفيلة بأن تريني الصورة الممتدة خارج جدران الصندوق. فبدأت أشعر بالضيق الذي يحاصر طاقتي، ويضيق علي أحلامي وطموحاتي. فنفضت يدي بعد موجات تفكير متحشرجة، وتركت كل شيء لأعود مرة أخرى إلى جامعة نزوى طالبة، ولكن هذه المرة عدت وأنا أم لطفلين، والتحقت بكلية العلوم والآداب لأدرس تخصص الكيمياء ثم التأهيل التربوي في نقلة جذرية من تخصص الهندسة إلى تخصص التربية. لم أكن في تجربتي هذه بغريبة عن جامعة نزوى كسابقتها، فجميع الأماكن تألفني كما أألفها، وأغلب الوجوه قد طبعت في ذاكرتي؛ فقد كانت التجربة مختلفة تماما، استطعت في أثناء عودتي للجامعة الاستفادة أكثر من الخدمات المقدمة للطالب، كما استفدت من البرامج المقدمة وانضممت إلى الكتابة في صحيفة "إشراقة" إذ قوبلت برحابة الصدر والتقدير التي أعدها إضافة رائعة تعلمت منها الكثير.
تحديات الدراسة
إن العودة إلى الدراسة مرة أخرى بعد انقطاع وبمسؤوليات أكبر لم يكن بالأمر الهين؛ فقد واجهت العديد من التحديات، ومنها تحدي إدارة الوقت؛ إذ إن الجدول الدراسي المضغوط مع واجباتي الأسرية شكل تتضاربا حادا في حياتي، ولكن دائما ما أقول إنها العزيمة، سلاح لا يمكن لمالكه أن يُهزم. اضطررت في أيام كثيرة أن أذهب إلى محاضرتي في الصباح بعد ليلة طويلة لم أهنأ بها لأجل رعاية طفلتي الصغيرة، أو أذاكر لامتحاناتي تحت ضوء خافت كي لا أزعج نوم أطفالي، وغيرها من التحديات التي جعلتني أدرك مدى قوتي التي لو لم تخضع لهذه التحديات لما أدركتها. حاولت أن أستمتع بالتجربة التي كانت حقا ممتعة بوجود رفقاء الدراسة والكادر الأكاديمي المتميز، الذي آمن ووثق بقدراتنا ودعمونا منذ البداية وحتى اللحظة الأخيرة. كما أن جهود الأسرة ودعمها الدائم والمستمر هو سر من أسرار النجاح والصمود أمام الانتكاسات التي وقعت بها؛ فهم الجنود الخفية التي ساندتني حتى وصلت إلى لحظة التخرج هذه.
بطلة قصتي ...
دائما ما يقال إن خلف كل قصة نجاح سر ودعم، وأمي هي السر وراء نجاحي؛ فهي الداعم الأول لي، منذ لحظة اتخاذي لقرار العودة إلى الدراسة؛ إذ رافقتني بتشجيعها الدائم ودعواتها الصادقة، وكانت دائما ما تسألني عن مستواي الدراسي وتحاول أن تهيئ لي الظروف التي تعينني على أداء مهامي الجامعية بكل أريحية؛ لذا كانت أمي دائما حاضرة نصب عيني، وسعيتُ جاهدة أن أجعلها فخورة بي وبإنجازاتي، وهذا ما رأيته في عينيها الحنونتين ليلة تخرجي؛ فقد خرجت مشاعرها معبرة عن الفرح على هيئة دموع طاهرة، غسلت تعب الليالي، وشحنت طاقتي لأكمل المشوار بالعزيمة ذاتها.
الأب الروحي
كما أن للجامعة فضل علي؛ حيث وجدت بها وزملائي الطلبة من التسهيلات والدعم الكثير، وخاصة بالنسبة لمن هم مثل قصتي، العائدين لتغير خططهم، فمن المعروف دائما أن الأستاذ الدكتور أحمد الرواحي، رئيس الجامعة، يقدم دعمه الدائم لطلبة الجامعة؛ فكان دائما مستعدا لتلبية طلباتنا خاصة فيما يتعلق بالجوانب المالية؛ إذ التمست منه أن مصلحة الطالب مقدمة لديه على كل شيء؛ لذا كنا دائما ما نراهن على دعمه، ولم يخب ظننا به؛ فلولا التسهيلات التي حصلنا عليه، التي جعلت الطريق أسهل لاشتغلنا بأمور من شأنها أن تؤثر على تحصيلنا الدراسي، فكلمة شكر تقال في حق جامعة نزوى التي على رأسها الدكتور أحمد الرواحي الأب الروحي والداعم الأول لطلبة العلم.
هدفي منذ البداية
شعور الوصول شعور لا يمكن وصفه؛ إذ إن الكلمات مهما كتبت ونطقت لن تستطيع وصف ما نشعر به، فعلى الرغم من المخاوف التي انتابتني في البداية، والقلق الذي رافقني في قراري، إلا أنني بتّ أرى اليوم أنه كان قرارًا صائبًا بذلت في سبيل تحقيقه المال والجهد والصحة، رغم يقيني أنني دفعت به عن نفسي شعور الندم الذي كان من الممكن أن أعيشه بعد فوات الأوان، ولله الحمد وبقدر ما بذلت جنيت، تخرجت بتقدير "امتياز" ولم أسعَ إلى أقل منه منذ البداية. وها أنا اليوم أكمل فصلي الأخير في جامعة نزوى في تخصص التأهيل التربوي، راجية من الله أن لا يطفئ لي شغفا، وأن يعينني على تحقيق ما يحب ويرضى، ولن أتوقف -بإذن الله- عن طلب العلم ما استطعت إليه سبيلا، فلدي خطط وتطلع لإكمال مسيرتي والحصول على درجات علمية عليا في تخصص الكيمياء مستقبلا.
سحر اللحظة، الصعود على المنصة، استلام شهادة، هتاف الأهل وتبريكاتهم، حصاد ثمرة التعب، جميعها مشاعر تستحق أن نسعى من أجلها، قد يكون ثمنها لحظات كثيرة تنازلنا فيها عما نحب، وخرجنا فيها عن منطقة الراحة، فكما يقال: "الجهد مفتاح النجاح، والإصرار المحرك الذي يدفعنا إلى تحقيق أحلامنا".