السنة 19 العدد 178
2024/04/01

قراءة في كتاب (صَائِغُ الْكَلَامِ)

بحثٌ في المسيرةِ الأدبيّةِ لابن رشيق.

 


 

 

د. فوزية بنت سيف الفهديّة.

تقديم: أُميمة بنت سُليمان الحاتميّة.

الصفحات: 620 صفحة.

 

توطئة:

سيجد القارئ في هذا الكتاب فضوله حيال تاريخ النقد الأدبي من أمهات وبطون الكتب الأدبيّة القديمة، إذ حاولت الدكتورة فوزية الفهديّة في صائغ الكلام أن تُلملم آراء نتاج ابن رشيق النقديّة والفكريّة، فالذي بين أيدينا بحث علميّ وأدبيّ في سيرته وفلسفته الأدبيّة؛ كونه عُمدة النقد في حظيرة العربيّة، وما ميّز هذا الكتاب من غيره أنه جاء شاملًا لجميع الجوانب المُهمة لمشروع ابن رشيق الفكري التي أغفل عنها الباحثون في طرح جهوده. 

 

 جاء هذا الكتاب محاولة لتسليط الضوء على الخطابين الشعري والنقدي للقيرواني، فقد جعلت الكاتبة بحثها مُقسمًا على أبواب ثلاثة؛ وذلك لتحديد السياق العلمي الذي يندرج تحت كلّ عمل من أعمال ابن رشيق. الباب الأول يتمحور في تحليل الكلام الشعري الإبداعي، الذي يُصنف تحت بند الشعر وصناعته، بينما الباب الثاني فهو للقول الذي يأتي في النقد وكيفية إعمال الذوق والتفكير الأدبي الخاص لابن رشيق، أمّا الثالث فخُصص للخطاب النقدي عندما يُصبح كلامًا عن النقد وتفكيرًا في كلّ ما أورده السّابقون في نقد الكلام والشعر مثلما جاء في الكتاب. 

 

بيانات الكتاب:

الكتاب سيرة أدبيّة للأديب ابن رشيق، صَدَرَ عن الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء الصادر عن دار الرافدين للدكتورة فوزيّة الفهديّة، الطبعة الأولى، يناير 2023.

الكاتبة:

الدكتورة فوزية الفهديّة، أكاديمية وأستاذة مُتعاونة مع قسم اللغة العربيّة وآدابها في كلية الآداب والعلوم الاجتماعيّة بجامعة السلطان قابوس، حاصلة على درجة دكتوراة الفلسفة في اللغة العربيّة وآدابها تخصص الأدب والدراسات النقدية في التراث الأدبي القديم 2017، جامعة السلطان قابوس، حاصلة على درجة الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها في الدراسات السرديّة 2006، من جامعة السلطان قابوس، ومؤسس أكاديميّة ضاد الإلكترونيّة 2022.

 

 

جوهر الكتاب:

ضمّن الكتاب السيرة الأدبيّة للشاعر والناقد الأدبيّ ابن رشيق القيرواني، مؤلف العديد من الكتب النقديّة، أشهرها "العمدة في صناعة الشعر"، الذي يحوي آراء النقّاد والأدباء السابقين له في النقد الأدبي. حاولت الباحثة في هذه النسخة تقفي خُطى مسيرة القيرواني الأدبيّة والنقديّة، في ضروب الأدب المختلفة، التي تشمل سيرته ورسالته وجهوده النقديّة. فما وجدته الباحثة في تتبع مسيرة القيرواني هو السلك الناظم لمشروعه الحضاري والأدبي، والنسق التي تخضع له أمّهات أعماله.    

الفصل الأول: الكلام/ شعر ابن رشيق.

 الفصل الأول كان على ثلاثة مباحث، الأول مفهوم الشعر ومعناه في اللغة، وفي الدراسات والتراث النقدي، لما كان للنقد آنذاك مزيّة عظيمة عند العرب وإبرازهم له من جانب المضمون بدلًا منها الشكل، إلى جانب تعريف ابن رشيق لمفهوم الكلام، الذي قال عنه إنه ليس بألفاظ موزونة ومقفّاة فقط وإنما "الشعر يقوم بعد النيّة من أربعة أشياء، هي: اللفظ والوزن، والمعنى والقافيّة، فهذا حدّ الشعر؛ لأن الكلام قد يأتي موزونًا مقفّىً ولكنه ليس بشعر، لعدم القصد والنيّة، كأشياء اتّزنت من القرآن، ومن كلام النبي ﷺ وغير ذلك ممّا لم يُطلق عليه أنّه شعر"، في هذا السياق لم يخرج ابن رشيق بعيدًا عمّا ذكره السابقون، ولكنه أضاف إلى التعريف مفهومًا آخر هو "النيّة"، على أن تكون شرطًا لتمييز الشعر عن النثر، لعدم خلط النصوص القرآنيّة به.

المبحث الثاني: دَلالات الهُوِيَّة في شعر ابن رشيق، استهلّها في تعريف معنى الهُوِيَّة، فهي كما تداولها العلماء أنها لفظ اُستُمِدَّ من الإرث الفلسفي الأرسطي، أتى بمعنى الوجود، أمّا الدلالات فإنه -بطبيعة الحال- الخطاب الشعري حمّال دلالات عند تفكيك مكونات النص الأصليّة إلى بُنى بلاغيّة ولغويّة ونحويّة.

المبحث الأخير كان يتحدث عن العلامات النّموذجيّة، بوصفه أن العمل الأدبي منذ أن صاغه العرب كان -ولا يزال- أنموذجًا وصورة انتهجها الأدباء في كتابة أعمالهم؛ فحُفِظَ هذا الإرث وتناقل بين الحِقَب.

 

الفصل الثاني: نقد الكلام/ كتاب قراضة الذهب في نقد أشعار العرب.

تناولت الكاتبة في هذا الفصل أربعة مباحث: معنى نقد الكلام/ نقد الشعر، فقد تطرقت إلى معنى الكلام والنقد لغة واصطلاحًا عند ابن رشيق، فضلًا عن المراحل التي مرّ بها نقد الكلام منذ نشأته في القرن الخامس الهجري، انطلاقًا من مرحلة ما قبل التدوين إلى مرحلة التدوين.

 

المبحث الثاني فهو لقراضة الذهب (الماهيّة، والمنهج، وجهاز المصطلحات)، الذي يُعدُّ من الكتب المُهمة في مجال النقد الأدبي عند العرب، تحدّث فيه ابن رشيق عن القضيّة السائدة لدى نقّاد العرب القدامى، هي "السرقات الشعريّة" فأدّى هذا الموضوع إلى أخذهِ لأبعاد اجتماعيّة وأخلاقيّة في المجتمع حينها. " قراضة الذهب" صورة النتاج الفكري لابن رشيق الشخصيّ في موضوع السرقات.  

 

بينما المبحث الثالث فقد كان عن مقياس نقد الكلام بين الذاتيّة والموضوعيّة، تحدثت فيه عن رأي ابن رشيق في مفهوم الذوق الأدبي، فهو كما ورد عنه أنه جزء من تكوين الشخصيّة يدخل حيّز اختيارات الإنسان الفنيّة لأي أمر من أمور حياته، بينما عوامل تشكله عنده تلّخصت في نقاط عدّة، أهمها: الاستعداد الفطري، والبيئة، والزمان وأهم العوامل المستحدثة فيه عند تقدمه، بالإضافة إلى التربيّة الدينيّة والأدبيّة، ولما للتنشئة والثقافة أيضًا أثر واضح في تنميّة الذوق الشخصيّ.

 

أمّا عن مقومات ومؤشرات توظيف الذوق الأدبي في نقد الكلام في ضوء قراضة الذهب فكانت تلك المقومات كالآتي: ثقافة ابن رشيق وقدرته على الاستنباط من طريق فصله بين عمل الذوق في الإبداع، وعمله في تلّقي النصّ، ووعيه بالسياق والمقام، وبلغة النص وأساليبه، وأخيرًا وعيه بالجوانب الفنيّة.

 

فيما تناولت الكاتبة في المبحث الأخير مؤشرات إعمال الذوق الأدبي في نقد الكلام وإشكاليّة الخطاب النقدي في قراضة الذهب، ففي هذا الكتاب طبّق ابن رشيق نقد الكلام مُستعينًا بذوقه الشخصيّ الذي استطاع منه تحديد مواضع السَّرقة في أشعار العرب في الجاهليّة حتى عصره، وذلك من طريق رؤيّة ذوقيّة واضحة، احتوت عناصر عدّة، منها: الموازنة العلميّة بين الذوق السليم والذوق السقيم، التعليل المنطقي في ردّه وإنكاره لتهمة السّرق، والحكم على صور الأخذ من أبواب البلاغة المختلفة، وأخيرًا دقّة الأحكام النقديّة ومصطلحاتها على مستويّات الأخذ بين الشعراء.

 

الفصل الثالث: الكلام على النقد/ العمدة في محاسن الشعر وآدابه.

 

تناول هذا الفصل ثلاثة مباحث، أولها الكلام على النقد بين مفهومه عند القدماء وصورته في الدراسات المعاصرة؛ كون أن الكلام مكمن القوّة عند العرب قديمًا، استعملوه ليقيّموا به خطابهم، مستخلصين إلى أن جُلّ الكلام بمعناه الجديد مُتعلق بكلام قديم؛ وإن ما جعل الباحثون يُدركون قيمة الكلام على النقد، هو ما وجدوه من إرثٍ نقديّ عظيم في أُمهات الكتب العربيّة النقديّة، التي كانت تحشد آراء النُقاد والأدباء، وتذكر رأيهم وفكرهم الخاص بالمسائل النقديّة. ومع ذلك يبقى المفهوم السائد عنه في أنه نشاط أدبيّ وفكريّ قديم في المادة والطرح، ولكنه حديثٌ في مصطلحه.

 

أمّا بالنسبة للمبحث الثاني فهو للجانب النظري للمنهج الذي اتبعه ابن رشيق في عرض النقول النقديّة، فالعلماء العرب عامة لم يكتفوا بتكرارهم آراء من سبقوهم من القدماء، بل عملوا على النصوص الأدبيّة والنتاج الأدبي على العموم، وأضافوا نظرتهم العميقة لها وآراءهم التي بُنيت على التنظير والتطبيق، ومما لا شك فيه أن العُمدة أراد لها صاحبها أن تكون عُمدة في صناعة الشعر ونقده؛ فأصبح من أُمهات الكتب. وأن من أهم المناهج التي لا بد أن يتبعها الناقد استيعابه آراء النقّاد ممن سبقوه من العلماء، بالإضافة إلى إلمامه بظروف إنتاج النص وحيثياته.

 

وللجانب التّطبيقيّ في المبحث الثالث كان له بالغ الأهميّة في التعرف على الكيفيّة التي وَرَدَ عليها ابن رشيق، فقد تناول الكتاب أيضًا المنهجية وأنواع الاستجابات النقديّة التي ظهرت في العُمدة. اعتمد ابن رشيق على التوأمة الفكريّة بين الجانبين النظري والتطبيقي عند العرب؛ وذلك "لأنه يوضح المبادئ التي يبني عليها النّقاد أحكامهم، ويوضح طريقتهم ومنهجهم في أثناء العمليّة النقديّة"، ويثبت عمدة الشعر للعلماء والأدباء أن النصّ هو الأسبق في الوجود، وأن النقد يتوّلد من النص، وذلك من المعالجات الدقيقة لكل من الشواهد الشعريّة والنثريّة من طريق تحليلها وتفسيرها في ضوء المقاييس والمبادئ والأسس النقديّة والبلاغيّة التي وُضعت؛ فأعطت بذلك صورة متكاملة وشاملة للنص الأدبيّ.

 

الفصل الرابع: نقد أعلام الكلام/ كتاب أنموذج الزّمان في شعراء القيروان.

 

تناول هذا الفصل أنموذجًا من كتب ابن رشيق القيرواني، وهو أنموذج الزّمان في شعراء القيروان. جاء هذا الفصل في أربعة مباحث، أولها التعريف بالكتاب، فوضعه ابن رشيق على أنه أنموذج تطبيقي للشعراء والنقّاد ممّن يأتون بعده، يُحاكي فيه ابن رشيق كتب الطبقات التي سادت في الحقب المتقدمة من تاريخ الأدب، جاء في صورة موجزة، صوّر فيه سر جماليّة النصوص الشعريّة لتراجم شعراء القيروان وأبعادها، فلم يسرد فيه حياة الشعراء وأخبارهم، وإنما اهتماماتهم الشعريّة، والأحكام التي جاءت على نصوصهم. الكتاب كان إثباتًا للنصوص التي قد كانت من المرجح أن تضيع أو تُنسب إلى غير قائليها.

 

المبحث الثاني ذُكرت فيه خصائص الكلام على المتكلمين في الأنموذج، جاء هذا المبحث لطرح الطرائق التي اعتمدها ابن رشيق في جمع النصوص العربيّة في الأنموذج، وذلك باستدعاء المحفوظ لديه من طريق المخالطة العلميّة، واستعمال المراسلة، وأخيرًا اعتماد النقل المباشر.

 

بينما المبحثان الأخيران تطرّق فيهما إلى الجانبين النظري والتطبيقي، فقد تميّزت طريقة ابن رشيق النظريّة بالاختصار، وعدّ كلًا من مقياس التكلّف والصنعة والطبع والبلاغة ومحاسن الكلام سمات أوردها في مقاييسه النقديّة في الأنموذج. وما جاء في الجانب التطبيقي ما هو إلّا استكمال لما ذُكر في الجانب النظري، بالإضافة إلى أن ابن رشيق لفت النظر إلى مسألة جدليّة مُهمّة كانت قائمة، ولا تزال حاضرة في عصرنا الحاليّ، وهي إشكاليّة الحكم على الشعراء القدماء وشعر المحدثين، وقد وضّح منه القاعدة النقديّة التي استخلصها من جُملّة اطلّاعه، قال في ذلك "كلّ قديم من الشعراء فهو محدَثٌ في زمانه، بالإضافة إلى مَن كان قبله"، واستخلص أن العلاقة بينهما علاقة تكامليّة، على أن يكون الفيصل في الحكم النقدي جودة الشعر والصنعة لا زمان الشاعر.

 

الخاتمة:

 

إن ما جاء به القيرواني من نتاج أدبي غزير للأدب العربيّ ككتاب العمدة، ما هو إلًا مصدر للدراسات الأدبيّة والنقديّة على مختلف الأزمنة الأدبيّة، وقد جمع مادته ممن سبقه من العلماء والأدباء وممن عاصره أيضًا، ووضعت ونُظمّت تلك الاجتهادات ضمن رؤيّة ومنهجيّة علميّتين على أُطرَ نظريّة وتطبيقيّة واضحة لمشارب الباحثين بمختلف غاياتهم ومقاصدهم. 





إرسال تعليق عن هذه المقالة