السنة 19 العدد 176
2024/02/01

إبداع "التــــلي" وروعته ... بين ثقافتين

 

 


 



أقلام:

رحاب رجب - الريم الكلبانية - وريف المنذرية 



حقا المتاحف على ما تبدو عليه من واقعية، وما تنطوي عليه من توثيق أصيل ومعلومات جادة، هي فرحة ونبع إسعاد في كل بلد، تُظهر أصوله وعمق حَضارته وتثبت أصالته. تستنطق الماضي؛ لتفسح له في الحاضر مساحة، وتحجز له في المستقبل بقعة مضيئة ملهمة. تلهم كل جيل حاضر وقادم، وتطمئن قلوب أبنائه، وتلهب حماسهم؛ بأن لهم تاريخا أصيلا، وقاعدة انطلاق لِطموح وثّاب إن شاء الله.

 

المتاحف عروس البلاد 

 

منذ التحاقي بجامعة نزوى، وجدت نفسي أن أول ما حرصت على زيارته المتاحف، فكانت زيارتي آنذاك إلى المتحف الوطني ومتحف بيت الزبير بمسقط، وبحكم التخصص كانت قاعات عرض الأزياء التقليدية محطة الوصول، أبهرني جمال ودقة تلك الأجزاء البراقة التي تخطف الأبصار بِتلألئها وإشعاعها بين مساحات ملونة رشيقة، أو على خلفية سوداء تستظهر بريقها بقوة، إنه تطريز "التلي".

 

ولعلمي أن لـ "التلي" لدينا في مصر تقنيات وحكايات أخرى، فكان شغفي -ومعي بعض الطالبات المجدات ببرنامج تصميم الأزياء بجامعة نزوى- أن نقترب من ذلك الفن البديع أكثر فأكثر، ونكتشف أسراره بين ثقافتين، على أيادٍ أصيلتين: المرأة العمانية وشقيقتها المصرية؛ لنقدمه لك أيها القارئ العزيز عبر روافد "إشراقة"؛ لتتأمل وتستمتع معنا. 

 

بداية.. ما هو فن "التلي"

 

"التلي" أسلوب من التطريز اليدوي بأشرطة معدنية، كان منتشرا عبر العصور منها المصري القديم والإسلامي، إذ يتم الاشتغال على أقمشة قطنية أو حريرية أو شبكية. كما يطلق اسم "التلي" أيضا على الأشرطة المعدنية ذاتها التي لا تتعدى الـ 3ملم، وعادة ما تكون فضية اللون وقليلا ما تكون ذهبية.

في الماضي كانت الشرائط المستعملة في "التلي" مصنوعة من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة، ويطلق عليها اسم "التل"، ونظرا لارتفاع سعرهما استبدلا لاحقا بأنواع أخرى. 



"التلي" بين يدي عمانية

 

يعرف "التلي" أيضا في عمان بالـ "السين"، تصنعه المرأة العمانية عادة من ستة خيوط قطنية، يفصل بينها خيط فضي في المنتصف، يتم نسجها معا بمهارة يدوية كبيرة على شكل شرائط ملونة. تنسج هذه الشرائط على أداة تسمى "كاجوجة"، وهي قاعدة معدنية تعلوها وسادة اسطوانية تمرر عليها الخيوط.

أحيانا يأخذ النسج أشكالا لزخارف هي رموز مرتبطة بالحياة والصحراء والبحر. هذه الحرفة اليدوية متقنة جدا لدرجة أن ما يقرب من متر من "التلي" يمكن أن يستغرق يوما كاملا للتضفير. ويعد "التلي" للمرأة العمانية أكثر من مجرد جمال لِمظهرها، إذ بارتداء ملابس تحوي زخارف "التلي" يعني أن المرأة ترتدي الثروة أينما ذهبت؛ وبذلك يمكنها بيع المعادن الثمينة وقتما شاءت! 

ونجد "التلي" على لباس المرأة العمانية في السراويل التقليدية وأكمام الكندورة ومنطقة أعلى صدر الثوب؛ وذلك حسب المنطقة التابع لها الزي التقليدي. وتحرص المرأة العمانية على ارتداء ملابس "التلي" في الأعياد والمناسبات الخاصة مثل الأعراس. وللـ "التلي " بعمان أسماء أخرى متعددة حسب أشكال الزخارف المطرزة وحسب المنطقة، منها: "النثرة" - "الغولي" - "السور" - "البيت" و"فند"، ولزخارفه أحجام مختلفة منها الكبير ومنها الصغير، وما هو على شكل مساحات كاملة مشغولة أو زخارف خطية. 

 

"التلي" بين يدي مصرية

 

للـ "التلي" بمصر تقنيات وأشكال مختلفة، إذ تطرز كل غرزة مباشرة على القماش، الذي يكون غالبا شفافا أو شبكيا من التل Tulle، وتكون الغرزة منفردة نقطة نقطة؛ ليكتمل الشكل الزخرفي بتجاور النقاط معا من طريق العدد والتكرار. 

فن "التلي" المصري فن زخرفي تعبيري، مليء بالقيم التراثية والثقافية والاجتماعية، والزخارف ذات دلالات تختارها الفنانة من البيئة المحيطة، فمثلا المثلث يدل على الحجاب الذي يحمي من العين والحسد، والعروسة ترمز إلى الزواج، كما يحوي أيضا الزخارف الهندسية وأخرى مستوحاة من الوحدات النباتية، أو حتى الوحدات الدينية كسجادة الصلاة. 

ويعتمد شغل "التلي" المصري على إبرة خاصة يصل طولها الى 4 سم مفلطحة، أحد أطرافها مدبب والآخر به ثقبان لخيط التلي العريض. وهو فن معروف بصعيد مصر اشتهرت به سوهاج، وخاصة أسيوط التي اكتسبت سمعة عالمية في هذا الفن. غالبا ما تشغل وحدات التطريز مساحة كبيرة من القماش، لتعطي أحيانا نوعا من الخداع البصري والتكامل الشكلي لقطعة القماش بالكامل. 

وأحيانا ما تجسد المشغولة الفنية بالـ "التلي" حكاية رمزية على ثوب العروس مثلا، وانتقالها من بيت أهلها إلى بيت زوجها: فالخط المنكسر يرمز إلى النيل الذي تطل عليه القرية، والمثلث هنا يرمز إلى الجبال التي تمر عليها، وتكتمل اللوحة الحكائية بأشكال الشمس، المحمل، الشموع، الجمل، البيت، حقول القصب وغيرها. كل عروس وما تختاره من زخارف تحكي فيها قصتها. 

رغم خفة خامة "التل" إلا أن قطعة شال صغيرة على الكتف بعد شغلها بالـ "التلي" قد يصل وزنها إلى 1.5 كجم. وكما ذكرنا يتمتع "التلي" الأسيوطي بشهرة عالمية ويتم توظيفه في تصميمات معاصرة بأشكال ومنتجات عدة. 

 

خلاصة العرض

 

لقد برعت المرأة العربية في كل ثقافة في ممارسة إبداعها؛ لذا عرض المقال توظيف الخيوط الفضية العريضة المعروفة بفن "التلي" بأسلوبين إبداعيين مختلفين لإنتاج أعمال فنية يدوية أصيلة على أروع ما يكون، إذ تثبت بها المرأة العربية الجدارة الفنية وكم المثابرة والإتقان … هلا فشمروا سواعد الجد يا زهرات الأجيال الحاضرة والقادمة، على درب الأمهات والجدات الرائدات.



نماذج من التلي في الأزياء العمانية:

 

 

 

 

 

 






نماذج من التلي في الأزياء المصرية: 

 

   

 

 

 

 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة