السنة 19 العدد 175
2024/01/01

 

رغم انفتاحها على مصادر المعرفة لغاتٍ وعلوماً ...

تدين للكتّاب بجذوة العلم التي اشتعلت في داخلها منذ أوّل حرفٍ قرأته

 


 

 

 

 

وُلِدتُ ونشأتُ في الجزائر العاصمة، من أسرة محافظة وشديدة الحرص على العلم. والدي له حسٌّ ذوقيّ وفنّيّ عالٍ، كان يحبّ الشعر ولكنّه لم يكن يجيد العربيّة لأنّه تعلّم في مدارس استعماريّة كانت تفرض عليهم الفرنسيّة؛ ولذلك حرص على أن يعلّمنا أنا وإخوتي اللغة العربيّة قبل  اللغة الفرنسيّة والعلوم الأخرى، وكان مولعًا بمصاحبتنا إلى المكتبات واقتناء الكتب التي تتجاوز مستوانا البسيط في كثير من الأحيان. أذكر أنّه أعجبه مرّة كتابٌ بالفرنسيّة فكان يشرحه لي لنترجمه إلى العربيّة وأنا بعدُ في العاشرة من العمر. والدتي تعلّمت العربيّة في الكتاتيب، وهي راوية للسيرة الهلاليّة وبعض السير الأخرى، فربّتنا على حبّ التاريخ والسرد والتشبّث بالانتماء إلى الأرض والثقافة والدين. كان هناك جوٌّ من التنافس نحو العلم والمعرفة بيني وبين إخوتي، وعزّزه الوالدان بتشجيع يستبق عصرهما ومجتمعهما. 

البيت الذي تربّيتُ فيه مجاور للمسجد الذي تطلّ منارته مباشرةً على غرفة جدّي عليه، رحمة الله، وفيها كنتُ أعيد عليه عصرًا ما تعلّمتُه في أثناء اليوم. ورغم أنّني تربّيتُ في العاصمة، فقد اهتمّ والداي بتعليمنا في كُتّاب المسجد لحفظ القرآن والمتون التعليميّة والمدوّنات الأدبيّة؛ ولذلك أدين للكتّاب بجذوة العلم التي اشتعلت في داخلي منذ أوّل حرفٍ قرأته، إذ ما زلتُ أعيشُ كلّ لحظةٍ الدهشةَ الأولى التي التقيتُ فيها باللغة حين سألني شيخ الكتّاب "هل تعرفين القراءة؟" وأومأتُ أن "لا"، فرسم بأصبعه على الأرض حرف الباء ثمّ قرأه. يومها شعرتُ بصدمة كبيرة وأنا أتخيّل هذا الخطّ الجامد الذي انتقل من يد الشيخ ليتحوّل إلى شيءٍ حيّ يتحرّك في فمه وفي عقل طفلةٍ في الرابعة، بقيت إثْرها شهرًا أرسم الباء على جدران البيت والشارع وأنطقه بطبقات تغنٍّ مختلفة. دخلت بعدها إلى المدرسة ولكن بقيتُ أرتاد الكتّاب إلى أن توفّي الشيخ عليه رحمة الله.

إنّها مقدمة شائقة تسيل فيها لهفة معرفة صاحبها ماء رقراقًا؛ ففي ضيافة شخصية عدد "إشراقة" 175 الأستاذة الدكتورة شفيقة بغدادي وَعِيل، أستاذة الأدب الحديث المشارك ... نصحبكم في السطور القادمة لنتعرّف عليها أكثر.

 

س/ ماذا عن مساركم التعليمي؟ كيف كان طريقه من المدرسة إلى الجامعة وصولا إلى الدراسات العليا؟

تعلّمتُ في مدارس الجزائر زمن طلائع التعريب؛ ولأنّي أتيتُ من الكتّاب لم أتعب كثيرًا وكانت المدرسة بالنسبة لي متعة كبيرة. ثمّ التحقت في الثانويّة بتخصُّص الرياضيّات وحصلت على الباكالوريا فيها. وكنت في مفتَرَق طرق بين الرياضيّات والآداب والعلوم الإسلاميّة؛ لأنّي كنت شغوفةً جدًّا بالعلوم وأيضًا باللغة وعلم الكلام، فرتّبتُ التخصّصات: درستُ العلوم الإسلاميّة فالبرمجة التقنيّة فاللغة العربيّة. ثمّ اخترتُ أن أكمل الماجستير في الدراسات الإسلاميّة في تخصُّص دقيق يُعنى بلغة القرآن الكريم. سجّلتُ وبعدها دكتوراه في الدراسات القرآنيّة في الجزائر، ثمّ توجّهتُ إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت وحصلتُ على الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، ثمّ على زمالتَي ما بعد الدكتوراه بالمعهد الألمانيّ للأبحاث الشرقيّة وبالمجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة في بيروت. وأنهي الآن الاشتغال على الدكتوراه الأولى في الجزائر.

 

 

 

س/ أطلعينا على تكوينكم البحثي والأكاديمي واهتماماتكم بهذين المجالين ونشاطاتكم فيهما؟

صدّقتُ الحديث الشريف "اعملوا، فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له،" فأعددتُ نفسي لأكون باحثةً عن المعرفة منذ أوّل دهشةٍ لي مع الحرف. ولأنّي شُغِفتُ بالعربيّة شغفًا كبيرًا، كانت اهتماماتي البحثيّة ضمن كلّ ما يتعلّق بالفكر اللغويّ وتبعاته المعرفيّة، فغصت في أعماق اللغة من حيث لسانيّاتُها وآدابُها وفلسفتُها وفكرها لأعيد مراجعة المفاهيم تاريخيًّا وفكريًّا. ساعدني ذلك في فهم رؤية الوجود التي تقدِّمها النصوص العربيّة القديمة والحديثة، ومكّنني من أن أجد الشجاعة لأقتحم التأويل، وأنتِج مقارباتي الخاصّة فيه، وأعيد النظر في الأدوات اللغويّة والفكريّة التي تسمح للنصّ أن يُبين أكثر، وبشكلٍ خاصٍّ القرآن الكريم والنصّ الأدبيّ الصوفيّ والشعريّ. من جهة أخرى، ولأنّي أؤمن أنّ المعرفة تراكميّة فقد تبنّيتُ إطار الجهد الجماعيّ؛ لذلك لا تشتمل منجزاتي العلميّة على أبحاثي الخاصّة فحسب، بل وتتضمّن أيضًا أعمالًا مشتَركة مع باحثين عرب وغربيّين.

 

س/ استرجعي معنا أبرز إنجازاتكم وبصماتكم وذكرياتكم في الجامعات التي انتسبتم إليها؟

دراستي في جامعة الجزائر كانت مرحلة التأسيس المتين، والتحدّي فيها كان أن أرسّخ معارفي اللغويّة والفكريّة في التراثين العربيّ والإسلاميّ. وساعدني في هذا المقصد النبيل مشايخ وأساتذة على مستوًى عالٍ من التأسيس التراثيّ. أمّا الجامعة الأمريكيّة في بيروت فقد فتحت أمامي آفاقًا علميّةً كبيرة على كلّ المستويات، والانتقال إليها كان نقطة التحوُّل المعرفيّ في حياتي. ففيها انفتحتُ على مصادر المعرفة باللغات الأخرى، واطّلعتُ على كنوز معرفيّةً بالفرنسيّة في مكتبتها (جافث)، كما اشتغلتُ على لغتي الإنجليزيّة فقرأتُ وكتبتُ وحاضرتُ بها. وحين شعرتُ أنّ أبحاثي تحتاج الألمانيّة تعلّمتُها، ثمّ بدأتُ أتعلّم لغاتٍ أخرى وإنْ لم أستمرّ فيها بسبب ثقل الاشتغال على الدكتوراه. الجامعة الأمريكيّة في بيروت خليّةَ علم نشطة: محاضرون من كلّ مكان  في العالم يحاضرون بلغات مختلفة ومواضيع جديدة بشكل يكاد يكون يوميًّا في بعض المواسم، ونوادٍ للنقاش الفكريّ، وضيوفٌ أدباء وشعراء، وأماسٍ أدبيّة، وسيميناراتٍ فاعلة، ومؤتمرات علميّة عالية. بل إنّ بيروت بالأساس مدينة مشتعلة معرفيًّا صَقلتْ شخصيّتي العلميّة بفضل ما أتاحتْه لي من الاحتكاك بمنارات المعرفة فيها وخارجها: المراكز الثقافيّة ومراكز الأبحاث الدوليّة، والمتاحف، والجامعات، والمكتبات، وغيرها. ولعلّ كلّ ذلك أتاح لي أن أتقدّم بمنظور تأويليّ جديد للقرآن الكريم والنصّ الصوفيّ هو "الأنطو-دلالة"، الذي أثبت فاعليّته فيما اشتغلتُ عليه لاحقًا من دراساتي على الشعر العربيّ قديمه وحديثه، وأبحاثي إلى اليوم استكمالٌ معرفيّ لهوامش الأطروحة. 

ولم تغنِ الجامعة الأمريكيّة شخصيّتي العلميّة فحسب، بل وكذلك خطّي الشعريّ؛ فبعد مشاركتي في أمير الشعراء تفرّغت لبناء رؤيةٍ شعريّة لا تكتب الشعر لمجرّد البوح بل تكتبه للمعرفة، وبيروت منحتني المنابر والأمسيات وأمكنتني من لقاء قامات أدبيّة. كلّ ذلك ترك بصمته على قصيدتي، ليتحوّل الشعر عندي إلى فعل دهشة فلسفيّة.

 

 

 

س/ أين يجد القارئ أبرز الإنجازات التي حققتها في حياتك العلمية والعملية؟ 

أبحاثي منشورة في مجلّات محكّمة ذات تصنيف معتَبَر، وفي مخرجات المؤتمرات العالميّة، بعضها منشورٌ في موقعي في أكاديميا، لكن كثيرٌ منها لا تتوفّر مقتطَفاتُه بسبب عدم حصولي على المجلّة أو عدم تصويري له، خاصّةً وأنّ مكتبتي ما تزال في بيروت. وتتوفّر بعض الكتب الجماعيّة على البكة العنكبوتية، مثل: تقرير حال ومستقبل اللغة العربيّة، لكن أكثرها في المكتبات: مائة كتاب وكتاب، مائة مبدعة ومبدعة، Sufism and Ethics in Islam، الأخلاق الإسلاميّة: المصادر المركزيّة والمؤسّسون، سؤال الأخلاق في الحضارة العربيّة والإسلاميّة، سؤال المنهج في الأبحاث الاجتماعيّة، وغيرها. أمّا كتبي الفرديّة فستكون متوفّرة تباعًا ابتداءً من بداية السنة القادمة -بإذن الله- في المكتبات والمعارض، وهي: قيافة المعنى: من التأويل إلى الميتا-تأويل، الذي رأى: قراءة أخرى للنفّريّ، صناعة المجهور في التراث الإسلاميّ. وعن محاضراتي ولقاءاتي التلفزيونيّة وأمسياتي الشعريّة فبعضها متوفّرٌ في اليوتيوب.

 

س/ ما رسالتك التي تستعينين بها في سبيل العلم والعمل؟

تعلّمتُ من مشايخي وأساتذتي أنّه لا تخلو لحظة من "واجب الوقت"، والمعرفة عندي واجب كلِّ وقتٍ تعلُّمًا وتعليمًا؛ ولذلك آخذ المعرفة والكلمة والرأي على محمل الجدّ جدًّا، ليس لأقول فحسب، وإنّما لأكون صادقةً مع عقيدتي المعرفيّة التي ترتكز على الوصايا الشريفة: "اعقلها وتوكّل" و"اتّقِ الله حيثما كنت" تحت مظلّة ﴿وقِفوهم إنّهم مسئولون﴾.

 

س/ كيف تتعاملين مع نقاط القوة ونقاط الضعف التي تواجهينها؟

أمّا القوّة فأحمد الله فيها ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون﴾، وأسأله الثبات عليها. وأمّا الضعف، فأستذكر فيه أنّي أمَةٌ تفتقر إلى رحمات الله وأمداده كي تقوى على المواجهة. وكلُّ ما عند الله خير. المحصّلة بالنهاية أنّه من الواجب أن أواجه الأمرَين، لكن لا يجوز لي أن أتجبّر في القوّة ولا أن أنكسر في الضعف.

 

س/ ما توجيهكم لنقل العمليّة التعليميّة والبحثيّة نقلة نوعيّة كبيرة في مختلف المجالات ... خصوصًا في ظلّ الثورة الصناعيّة والتكنولوجيّة الحديثة؟

في زمن الذكاء الصناعيّ صارت المعرفة إنسانيّة: انفتحت مصادر المعلومة، وصار الوصول إليها بضغطة زرّ، وتجاوزنا حواجز اللغة والمسافات فأتيحت لنا فُرَص التواصل الافتراضيّ مع العلماء والباحثين من مختلف المرجعيّات والبلاد. وعليه، لا يحقّ لنا أن ننزوي وننغلق، فنحن مسؤولون أمام الله عن الأجيال القادمة، وعلينا أن نؤسّس لهم أرضية معرفة حقيقيّة وصلبة، وأن نأخذ بأيديهم إلى عالم المعرفة الواسع ونخطو بهم خطًى رشيدة؛ لذا أعوِّد طلبتي على فتْحِ آفاقهم، والجرأة على السؤال والمطارحة المعرفيّة، والانفتاح نحو قنوات المعرفة حيثما كانت، والتأسيس الصحيح للثوابت كي يصمدوا في صخب التيّارات.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة