الثقافي بين الواقع والافتراضي
أ.د محمد إسماعيل بصل
قسم اللغة العربية
تجاوزت التحولات الجذرية في عصر ثورة الاتصالات العقل والعقلانية في حدة تناقضاتها وسرعة انتشارها حتى وصلنا إلى اليوم الذي استباحت فيه لاقطات الأقمار الصناعية حياتنا. إن رقم مليار ونصف المليار من البشر ينخرطون في عالم الفيسبوك اليوم ... لأمر مدهش ومثير، وثمة ملايين من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تطالعنا يوميا بملايين المنشورات والصور التي تحمل في طياتها فعلا ثقافيا يتداخل ويتنازع فيه الواقعي مع الخيالي، الحقيقي مع الافتراضي، المثبت مع المنفي، المادي مع الوهمي.
جملة هائلة من الثنائيات المتعاكسة تطرحها اليوم الثقافة الفيسبوكية، وكم من كاتب وأديب ومفكر ومثقف وشاعر ومسرحي وفنان حقيقيين ترددوا كثيرا في امتطاء موجة هذه الثقافة، ثم سرعان ما انخرطوا فيها، وانكبوا عليها معلنين فضاءات المنشورات الفيسبوكية بؤرا ثقافية يجب ألا تبقى في أيدي العابثين والأميين والجاهلين وغيرهم ... وقد يبدو الأمر مقنعا ومسوّغا، إذ كيف بإمكاننا أن نتجاهل الاستقطاب غير المسبوق للجماهير الذي يحققه عالم الفسبكة هذا. فلقد تحول في فترة وجيزة إلى فضاء للإعلان والإعلام والتجارة والصيرفة والفن والشعر والأزياء والسياسة والحب والحرب، وبات يشكل قاعدة حقيقية لمنهل الثقافة الرئيس لدى قطاعات واسعة من الجماهير، وأصبح لدى علماء النفس والاجتماع والانتربولوجيا وغيرهم مدونات متنوعة لدراسة طبائع البشر والتعرف إلى أزمات المجتمعات وأمراض الناس. فهل نستطيع بعد ذلك كله، أن ندس رؤوسنا في الرمال والاكتفاء بالتصريح؟ إن هذا جنون، تخلف، غزو ثقافي ... أزمة عابرة، حالة طارئة، أم أنه يتوجب علينا الإحاطة بهذه الثقافة الوليدة ووضعها في دائرة البحث العلمي الموضوعي، ومحاولة استكشاف أبعادها، ووضع برامج مستقبلية تكون دليلا للأجيال القادمة.
إن الإدانة والشجب غير قادرتين على استكناه حجم هذا التعارض القائم بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي، فالفضاء مفتوح ويتكاثر سرطانيا حتى أصبح عالم النت وملحقاته من مواقع التواصل الاجتماعي وغيره قارة قائمة بذاتها، ولعلها هي الأكبر بين القارات في هذه الآونة. كنا قبل سنين عدة نحذر طلبة الماجستير والدكتوراه من اللجوء إلى عالم النت في أي نشاط متعلق بالبحث العلمي، وكان لنا مسوّغاتنا في دعم هذا التحذير باعتبار أن الثقافة الافتراضية ليست رصينة ويمكن أن تضم في ثناياها الأكاذيب والخدع والأباطيل والتضليل، وكل ما يمكن أن يشوش العقل العلمي الموضوعي المسؤول، بل إننا ذهبنا إلى أبعد من ذلك وشبهنا عالم الفيس بوك بالقمامة التي تحوي كل ما تخلفه وراءها قوافل المهمشين والمقصيين والممنوعين والمحجوزين والأميين، الذين لم يكن لهم فضاء أو يتعاطى المتعلمون والمثقفون والعلماء والباحثون والفنانون الذين وجدوا ألا مناص -كما ذكرنا سابقاً- من ولوج هذا المنبر كي لا يبقى حكرا على أولئك ... واضطررنا في نهاية المطاف أن نسمح لطلبتنا بالعودة إلى عالم النت والاستزادة من معارفه؛ لأنه يوفر طريقة سريعة للبحث قد لا توفرها أي وسيلة تقليدية أخرى، فانخرط البحث العلمي الرصين بالعالم الافتراضي غير النزيه، وضاعت ملامح الثقافة اليدوية النظيفة التي تعتمد على البحث والتقصي والملاحظة والتدوين والتأمل والاستقراء والتحليل والتأويل، وحدثت هذه الانعطافة الهائلة والخطيرة في مسار الفكر ... في الواقع لا يستطيع أحد أن يمنع أحدا من البحث عن معنى كلمة أو ترجمة مصطلح أو كشف اسم أو قراءة بيت شعر بعينه أو التحقق من سلامة قراءة آية قرآنية أو الاطلاع على سيرة ذاتية أو البحث عن فرصة عمل أو حجز فندق أو تصفح بيان سياسي أو إحصاء مؤلفات كاتب أو التأكد من قافية قصيدة أو معرفة تاريخ وفاة هذا الشاعر أو ذاك أو من تزوج وماذا كان يحب وماذا كان يكره وما قصصه وحكاياته ومغامراته ... ولا معرفة قيمة الفاتورة في هذا المطعم أو ذاك، أو أسعار الهواتف الذكية عبر العالم، وأسعار البيوت والإيجارات، وحركة الطرقات، والطقس، والحروب، والنزاعات، والفرق الرياضية، وأجمل الأهداف، والأرقام القياسية، ووو ... لا يستطيع أن يمنع أحد أحدا من استخدام أصابعه وعينيه في كشف ذلك كله عبر هذا الجهاز العجيب الذي غزا العالم في وقت واحد وبشكل مخيف.
حتى أنه يخيل إلينا أن هذا الغزو جاء بقرار واحد ليعمم على العالم الواحد الأوحد، ولكل أمة من رصانة ثقافتها ورقي حضارتها، قدر في الحماية الذاتية والصمود في وجه هذا القرار الخطير.
كنا نسأل فيما سبق كم نسخة من هذا الديوان أو من هذه الرواية طبعت، واليوم أصبح السؤال كم إعجابا ومشاركة حصل هذا الشاعر أو ذاك القاص، وهنا تكمن طامة الطامات، إذ إن شاعرا من العالم الواقعي كان يطمح كي يصل إلى ألف قارئ لقصيدته ويعد ذلك فتحا مبينا، بينما يصل (شاعر) من العالم الافتراضي إلى خمسة آلاف قارئ يطلعون على قصيدته في ساعات قليلة، بالإضافة إلى مشاركات عدة قد تصل إلى بضعة خمسة آلاف أخرى. من أجل ذلك نلاحظ أن أدباء من العالم الواقعي زجوا بأنفسهم في هذا العالم الافتراضي بلا هوادة؛ كي لا تبقى أعمالهم مركونة على رفوف المكتبات، وأصبح الافتراضي اقعيا، وصار الواقعي في مهب الافتراضي.
إنه نزاع هائل بين قبائل فيسبوكية لا يمكن عدها أو حصرها، وهنا يطرح السؤال الآتي: هل الثقافة العربية الراهنة قادرة على تحصين نفسها في وجه هذه التحديات الكبرى؟ مما لا شك فيه أن الإجابة سلبية، وإننا وسط هذه الأمواج العاتية من هيمنة الآخر ثقافيا ومعرفيا بحاجة إلى فعل معرفي قائم على النقد الموضوعي الذي ينتجه العقل الحرّ في مناخ حر ... يؤسس له اجتماعيا وثقافيا دون أن يأخذ بالحسبان تلك التقسيمات النمطية التي تمخضت عن المفكرين والمثقفين العرب الذين عاشوا وقضوا حياتهم في أوروبا. لقد أثبت التاريخ أن المثقف العربي في الغرب متعال على المجتمعات العربية، يعيش اغترابا داخليا يجعله غير قادر على الخوض في هموم مجتمعه، وتعّرف طموحاته، واستكناه آماله، واستشراق مستقبله ... إن الحال يكمن في تأسيس بؤر ثقافية وطنية بعيدة عن الأيديولوجيا وتضخم الذات، وتقديس التراث. يجب أن تكون هذه البؤر جديرة بما لديها من حضارة باستيعاب حضارتها أولا، ومن بعد تشييد حوار حضاري ندي مع الآخر.. مهما كان هذا الآخر.. ولأية حضارة ينتسب. إن المرحلة القادمة ستكون أشد خطورة وضراوة على الأجيال القادمة، ولا بد للمؤسسات الحكومية التي تمثل الدولة والسلطة من الالتفات إلى بؤس هذا المأزق التاريخي الذي وضعنا فيه ... إننا في عنق الزجاجة تماما، وكي نخرج من المكان الضيق إلى فضاءات أرحب تسمح لأجيالنا القادمة بالنهوض والارتقاء بالمجتمع يجب أن يسكن الدولة هاجس الهم الثقافي، فالثقافة ليست فعلا فرديا إنما فعل جماعي يحتاج إلى جهود مخلصة ومؤمنة بقيمة الإنسان.