جولة مع الكتابة المسمارية
أ. د نائل حنون
مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية
جامعة نزوى
تعد حضارة وادي الرافدين القديمة الأولى من بين الحضارات الأصلية القديمة التي توصلت إلى ابتكار الكتابة بإمكانياتها الذاتية. وكان ذلك في نحو 3200 قبل الميلاد، أي قبل أكثر من 5200 سنة من الوقت الحاضر. والكتابة هي الحد الفاصل بين عصور ما قبل التاريخ، التي استغرقت مئات الآلاف من السنين من عمر البشرية على الأرض، والعصور التاريخية التي لا تشمل سوى خمسة آلاف سنة الأخيرة من عمرها. وللمقارنة فيما بين المرحلتين من عمر البشرية يفترض علماء الحضارات أنه إذا كان خمسة آلاف جيلاً من البشر عاشوا في عصور ما قبل التاريخ، فإن عدد الأجيال التي عاشت في العصور التاريخية لا يتجاوز خمسين جيلاً. وكان ما شهدته البشرية من تطور في العصور التاريخية (الخمسة آلاف سنة الأخيرة، من ابتكار الكتابة إلى اليوم) يمثل أضعاف ما شهدته في مئات آلاف السنين من عصور ما قبل التاريخ، "اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم" صدق الله العظيم.
لقد سرَّع ابتكار الكتابة تطور البشرية حتى وصولها إلى عصرنا الذي نعيشه الآن؛ ذلك أن الكتابة تحفظ الذاكرة الإنسانية وتنقلها عبر الزمان والمكان، وبعد ابتكارها لم تعد تجربة الجيل وخبرته تموت بموته، إنما تنتقل إلى الأجيال اللاحقة لتضيف عليها وتطورها. وبذلك ازداد إيقاع خطى التحضر سرعة بتراكم الخبرات والمعارف والمهارات.
الطين والشكل المسماري للكتابة
ورافق ابتكار الكتابة اختيار عبقري للطين مادة للألواح الكتابية، فالطين متوافر في كل مكان ويسهل الحصول عليه في كل وقت، كما أنه غير قابل للاندثار عبر آلاف السنين بعد جفافه أو شويه بالنار، وبهذا يختلف عن مواد الكتابة الأخرى، مثل: الرقوق أو لفافات البردي. وقد كانت علامات الكتابة تنقش على لوح الطين حين يكون طرياً، ثم يترك ليجف وينمُ تداوله وحفظه. أما القلم (أو المرقام) فكان يصنع من القصب أو الخشب، وأحياناً من المعدن. وحين تنفذ ضربات القلم على لوح الطين الطري؛ لرسم العلامات الكتابية المتألفة من خطوط مستقيمة عدة، كان الكاتب يضطر إلى أن يميل القلم على الجهة اليمنى، لأنه يمسك اللوح الطيني بيده اليسرى، ليقتلعه من الطين، وهذا ما أدى إلى أن يكون لكل خط أو ضربة قلم، رأس مثلث عند أحد طرفيه مما يعطيه شكل المسمار. ومن هنا أطلق العلماء المحدثون تسمية "الكتابة المسمارية" على الكتابة الأولى في تاريخ البشرية.
مجموعة رقم طينية تحمل نصوصاً مسمارية يعود تاريخها إلى نحو 3800 سنة قبل الوقت الحاضر، استخرجها كاتب المقال في أثناء التنقيب الأثري الذي قام به في تل السيب (موقع مدينة ميتران القديمة).
كانت طريقة الكتابة أن رقيم الطين (لوح الكتابة) يكتب على الوجه ويكمل على القفا. وإذا كان اللوح كبيراً ومعداً لنصوص طويلة يقسم وجه اللوح بخطوط عمودية إلى "أعمدة" (مشابهة لأعمدة الصحف في يومنا هذا)، وتكتب الأسطر في الأعمدة واحداً بعد الآخر من اليسار إلى اليمين. وبعد ملئ أعمدة وجه اللوح يقلب بحركة شاقولية لتتواصل كتابة النص في أعمدة القفا ولكن البداية تكون من العمود الأيمن وتنتهي بالعمود الذي على اليسار. وكان عدد الأعمدة يختلف من نص إلى آخر بحسب حجم اللوح وطول النص. وقد بلغ عدد الأعمدة على أحد الألواح ثمانية وعشرين عموداً، أربعة عشر منها على الوجه ومثلها على القفا. وتجدر الإشارة إلى أن نصوصاً ملكية لأربعة ملوك قدماء من الألف الثالث قبل الميلاد قد استنسخت على هذا اللوح. وأحد هؤلاء الملوك كان سرجون ملك أكد (حكم في نحو 2340 – 2284 قبل الميلاد)، الذي كتب نصه باللغتين السومرية والأكدية، عموداً بالسومرية يتبعه عمود بالأكدية وكلاهما بالخط المسماري نفسه الذي كان يستعمل لتدوين كلتا اللغتين المختلفتين تماماً عن بعضهما. وفي هذا النص نفسه ورد ذكر وصول سفينة مجان إلى ميناء العاصمة أكد.
اللوح الطيني الذي يحمل النص المسماري ثنائي اللغة للملك سرجون في العمودين الخامس (سومري) والسادس (أكدي)، مع نصوص أربعة ملوك آخرين جمعها كاتب قديم بعد سقوط سلالة أكد. تعرض اللوح للتهشم، وتبدو في الصورة جميع كسره المكتشفة. قام كاتب المقال بترجمة نصوص هذا اللوح كاملة في كتابه "نصوص ممارية تاريخية وأدبية"، (بيروت، 2015م).
انتشار الخط المسماري
في الحقيقة لم يقتصر استعمال الخط المسماري على تدوين اللغتين السومرية والأكدية فقط، إنما اقتبس هذا الخط لتدوين اللغة العيلامية في بلاد فارس، ودونت به لغات الحثيين في بلاد الأناضول، وهي: اللغة النسيالية الرئيسية واللغتين الثانويتين البلائية واللوائية. واستعمل الخط المسماري نفسه لتدوين نصوص اللغة الحورية في سورية وبلاد الأناضول. وآخر اللغات التي اقتبس الخط المسماري لتدوينها هي الفارسية القديمة (البهلوية). وحين ابتكرت أول أبجدية في التاريخ في مدينة أوغاريت، في شمال – غربي سورية، ابتدعت لحروفها علامات مسمارية خاصة بها قبل أن يبتكر الخط الأبجدي الأرامي لتدوين نصوص اللغتين الآرامية والكنعانية. واليوم يقدر عدد ما اكتشف حتى الآن من نصوص مسمارية بما يراوح بين أربعمائة وخمسمائة ألف نص. وهذه النصوص تتوزع على المتاحف في جميع أنحاء العالم وعلى المتاحف والمجموعات الخاصة. وما تزال عشرات أضعاف هذا العدد مطمورة في آلاف المواقع الأثرية المنتشرة في الشرق الأدنى.
قصائد عمودية على ألواح الطين
من أشكال الكتابة بالخط المسماري على ألواح الطين كتابة القصائد الشعرية العمودية (المشطرة). وهذه القصائد لا تكون مدونة بشكل أعمدة مثل النصوص التي وصفت آنفاً، إنما في شكل أبيات شعرية باللغة الأكدية والخط المسماري مشطرة على غرار القصائد العربية العمودية، ولكن تاريخها يعود إلى ما قبل تدوين الشعر العربي العمودي بأكثر من ألف سنة. وكان وجود هذه القصائد على الألواح الطينية المسمارية مجهولاً حتى قيام الكاتب بترجمة النصوص المسمارية مباشرة إلى اللغة العربية؛ ذلك أن العلماء الغربيين الذين كانوا يترجمون هذه النصوص لا يتبعون سوى نمط الشعر الذي يعرفونه، وهو الشعر المرسل. وفي الحقيقة أن كلا النوعين من الشعر، العمودي والمرسل، نظم ودون في النصوص المسمارية.
استنساخ لنص مسماري يتضمن جزءًا من قصيدة عمودية تروي قصة الخليقة البابلية مؤلفة من 1092 بيتاً شعرياً مدونة بالخط المسماري وباللغة الأكدية على سبعة ألواح طينية كبيرة. وقد أصدر الكاتب قراءتها وترجمتها العربية في كتاب كامل عنونه: "أسطورة الخليقة البابلية: النص المسماري الشعري"، (بيروت، 2021م).
المدارس والمعاجم اللغوية
منذ السنوات الأولى لابتكار الكتابة في حضارة وادي الرافدين، تحقق منجزان حضاريان مقترنان بالكتابة، وهذان المنجزان هما: المدارس والمعاجم اللغوية، الأول لتعليمها والتدريب على ممارستها، والثاني لتيسير استعمالها وتوسيع معارفها. وقد اكتشفت أدلة على وجود المدارس في بعض المعابد من عصور مختلفة. كما حفظت لنا النصوص المسمارية نفسها تفاصيل مهمة عن وجود المدارس وإدارتها وطرق التعليم فيها. فضلاً عن ذلك اكتشفت "نصوص مدرسية" كثيرة، وهي عبارة عن رقم طينية قرصية الشكل يقوم المعلم بتدوين السطر الأول فيها ويعيد التلامذة كتابة السطر نفسه أكثر من مرة على الرقيم نفسه. كان الطلبة المتقدمون في الدراسة يقومون باستنساخ نصوص متطورة، مثل: النصوص الأدبية أو المعجمية. وكان التعليم يقوم على أساس ثنائية اللغة (السومرية والأكدية) في العراق القديم أو ثلاثية اللغة (السومرية، الأكدية والحثية) في بلاد الأناضول أو رباعية اللغة (السومرية، الأكدية، الكنعانية والحورية) في مدينة أوغاريت. ومن المثير للاهتمام أن بعض المؤلفات القديمة لم تصلنا بنسخها الأصلية، إنما من طريق نسخها التي تعد في أثناء التدريب على الكتابة.
لوحة حجرية بالنحت البارز، من قصر الملك الآشوري تجلات – بلاصر الثالث (في نحو 730 قبل الميلاد) في موقع العاصمة الآشورية كلخ، تصور كاتبين، الأول يدون نصاً مسمارياً أكدياً على لوح الطين باستعمال المرقام، والثاني يدون نصاً آرامياً بالقلم على رق الكتابة.
أما المعاجم فكانت من بين أقدم النصوص المدونة بالخط المسماري، وكانت تعد بأصناف مختلفة بحسب مواضيعها. فهناك معاجم خاصة بأسماء الحيوانات وأسماء الأسماك والطيور أو النباتات والمدن. ووجدت معاجم لغوية بالعلامات المسمارية أو بالمفردات السومرية – الأكدية، وكذلك بالمفردات الأكدية – الأكدية. وقد تواصل تأليف تلك المعاجم وتدوينها على ألواح الطين طوال ثلاثة آلاف سنة، وهي عمر التدوين بالخط المسماري للغتين السومرية والأكدية. ولأسباب تختلف الآراء بشأنها كان على الكتبة بالأكدية أن يتقنوا اللغة السومرية وكتابتها أيضاً.
اللغتان السومرية والأكدية في العصر الحديث
بعد ثلاثة آلاف سنة حافلة بالإنجازات الحضارية وتدوين مئات الآلاف من ألواح الطين بالنصوص السومرية والأكدية، التي تمثل مؤلفات تندرج في معظم التخصصات التي يؤلف بها في العصر الحديث، توقف استعمال الخط المسماري وماتت اللغتان السومرية والأكدية مع تحول الناس في المنطقة إلى استعمال اللغة الآرامية ثم اللغة العربية.
وعلى مر السنون نسي ذلك الخط وتلكما اللغتان. وحينما بدأ الرحالة والمستكشفون الأوربيون يطلعون على نماذج من الخط المسماري في مواقع أثرية مكشوفة في بلاد فارس أولاً، اعتقدوا أنها زخارف جدارية. وفي القرن السابع عشر الميلادي تم التوصل إلى أنها نوع من الكتابات الغامضة. ومنذ ذلك الحين ابتدأت أولى المحاولات لحل رموز الكتابة المسمارية علامة بعد أخرى. وساعد كثيراً اكتشاف نص منقوش على جبل بهستون في إيران بثلاث لغات على تحقيق تقدم في تلك المحاولات. وكان ذلك النص مدوناً بالعيلامية والأكدية البابلية والفارسية القديمة. ولما كانت بعض مفردات اللغة الأخيرة معروفة ومتداولة عند كهنة المجوس في الهند، فقد استعملت للتعرف على ما يقابلها في اللغتين الأخريين. وبعد مائتي عام من المحاولات المتواصلة أمكن حل رموز الكتابة المسمارية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
منذ حل رموز الكتابة المسمارية بشكل أولي وجهود العلماء، تتواصل في قراءة نصوصها وترجمتها إلى اللغات الحديثة. وتخصص بعض هؤلاء العلماء باللغة السومرية فيما تخصص آخرون باللغة الأكدية. وأخذت الجامعات الكبرى في الغرب، ولاحقاً في الشرق، تدرس هاتين اللغتين وتخرج أجيالاً من العلماء المتخصصين بهما. على أننا يجب ألّا نتصور قراءة هذه النصوص القديمة للغتين ميتتين مشابهة، من قريب أو بعيد، لترجمة نصوص من لغات حية إلى أخرى. فقراءة النص المسماري لا بد أن تمر بخطوات من البحث والتقصي والاستنباط والتدقيق، مع استحضار مفاهيم الحضارة القديمة ومحاولة فهم ما يريد أن يقوله كاتب عاش قبلنا بآلاف السنين.
وعند اكتشاف رقيم طيني مسماري، مضت عليه عشرات القرون تحت أطنان من التراب والأنقاض في الموقع الأثري، يجب تنظيفه باحترافية عالية وصيانته وترميمه، إن كان تعرض للتهشم، ثم تكوين فكرة عامة عن موضوعه ونوعه. بعد ذلك تبدأ عملية استنساخه يدوياً. وهذه عملية معقدة لا يستطيع تنفيذها إلا متخصص قد كون فكرة عن لفظ كل علامة يريد استنساخها، وإلا يكون ابتعد الاستنساخ عن القراءة الصحيحة. ومن هنا تبدأ قراءة العلامات بالألفاظ الصحيحة.
لقد كان لكل علامة مسمارية ألفاظ عدة مختلفة قد تزيد على العشرة. ومما يزيد على تعقيد القراءة، وحاجتها إلى البحث المتأني والتعمق، أنه كان لكل علامة مسمارية أشكال عدة متغيرة بتغير العصور التي بلغ عددها عشرة عصور، وباختلاف المواقع الجغرافية التي طبعت أشكال العلامات المسمارية بطابع محلي خاص بها. وحتى في العصر الواحد كانت العلامة المسمارية الواحدة تختلف في شكلها باختلاف موضوع النص وباختلاف المادة التي يكتب عليها. فلم تقتصر الكتابة على ألواح الطين التي كانت الأكثر استعمالاً، إنما دون على الحجر، مثل المسلات والألواح الجدارية، وعلى الألواح المعدنية والآجر والخشب أيضاً. وبذلك بلغ معدل عدد أشكال العلامة المسمارية الواحدة في العصر الواحد ما بين 6 – 8 أشكال، ووصل أحياناً إلى 12 أو 14 شكلاً. أي أنه كان هناك ما معدله نحو 40 شكلاً للعلامة المسمارية الواحدة على مر عصور الحضارة القديمة. أضف إلى ذلك أن خط الكتابة على الرقم الطينية كان يختلف من كاتب إلى آخر لأنه كان ينقش يدوياً. فيما كان العدد الكلي للعلامات المسمارية، بعد اختزالها، يصل إلى 513 علامة!
علامة مسمارية واحدة (من 513 علامة) أخذت 48 شكلاً في نصوص ثمانية من العصور الكتابية لحضارة وادي الرافدين من الشكل الصوري الأول حتى الشكل الأخير. وهذه العلامة ترمز إلى النبات، ولها سبعة ألفاظ صوتية، وهي: شام، أو2، سان، شا17، بو11، ﭘﻮ11، با6.
قراءة النصوص الأكدية
المرحلة اللاحقة في قراءة النص المسماري، بعد قراءة علاماته، تكوين كلماته. ذلك أن كتابة الكلمات الأكدية كانت تتطلب تقطيعها أولاً من قبل الكاتب إلى مقاطع لفظية (syllables)، كما يفعل المختصون في اللغة العربية حين يعملون على العروض بتقطيع الشعر العربي. ثم ترسم العلامة المسمارية التي ترمز للفظ كل مقطع؛ ولذلك يتحتم على قارئ النص المسماري في عصرنا هذا أن يكون ملماً بالمفردات الأكدية حتى يتوقع أي كلمة تكونها مجموعة معينة من المقاطع. ومن الصعوبات التي تكتنف هذه الخطوة أن الكتابة المسمارية، في السومرية والأكدية، لا تفصل بين مقاطع كلمة وأخرى. فهذا الفصل لم يحدث إلا في الكتابات الأبجدية اللاحقة في الكنعانية والآرامية. وبعد تكوين قراءة الكلمات يتم الانتقال إلى ترجمة النص بكل الاحتمالات المتوقعة من الكلمات التي تكونه.
إحدى المواد القانونية في شريعة حمورابي (في نحو 1750 قبل الميلاد). النص المسماري على الجهة اليسرى هو النص الذي نقشه حمورابي على مسلته. وعلى الجهة اليمنى النص نفسه والعلامات نفسها بخط يد كاتب المقال بالخط المسماري القياسي. في الأسفل، على الجهة اليسرى قراءة ألفاظ العلامات مع إضافة الفواصل من قبل الكاتب لتسهيل فرزها والمقاطع المكتوبة بأحرف كبيرة (capital) هي مقاطع سومرية كتبت بها الكلمات الأكدية؛ ولكنها كانت تقرأ بالأكدية كما في الجهة اليمنى. وعلى الجهة اليمنى كلمات النص بعد تكوينها تمهيداً لترجمتها.
قراءة النصوص السومرية
كان ذلك في قراءة النصوص الأكدية، غير أن الأمر مختلف في قراءة النصوص السومرية. فعلى الرغم من أن الخط المسماري هو نفسه، إلا أن كل علامة مسمارية في النص السومريكلمة قائمة بذاتها وليست مقطعاً لفظياً كما هو الحالفي النصوص الأكدية. فعلى سبيل المثال أن الكلمة "إكبُس" الأكدية، وهي فعل ماضٍ بمعنى "كبس" في العربية، كانت تكتب بثلاث علامات مسمارية من اليسار إلى اليمين: إك – بو – وس. ولكن كل واحد من هذه المقاطع يمثل كلمة لها معنى في النصوص السومرية على النحو الآتي: مصراع باب – طويل – وزة. ومن الغريب أن كل كلمة في السومرية تكون اسماً وفعلاً وصفة في آن. فمثلاً العلامة التي تعني "طويل" يمكن أن تعني "طال، أطال، طول، مطول". وعلى العكس من هذا نجد أن للفعل في اللغة الأكدية 107 تصريفاً يمكن أن تطبق جميعها على الفعل العربي الذي يستعمل له عدد محدد من هذه التصاريف لا يتجاوز الاثني عشر. وهذا ما يدل على القوة الكامنة في اللغة العربية ووجود خصائص فيها غير مستعملة بعد.
لم تكن جميع الكلمات في السومرية مقتصرة على علامة واحدة في تكوينها. فهناك كلمات تتألف من مقطعين، وأخرى من ثلاثة مقاطع أو أربعة في بعض الأحيان. ولكن المشكلة أن هذه الكلمات كونت من جمع مقاطع مختلفة المعاني لإيجاد كلمة جديدة بمعنى مختلف لا علاقة له بأي من معاني الكلمات التي تكونها. ولو أتينا على الجملة السومرية لوجدنا تكوينها يختلف عن تكوين الجمل في أي لغة على وجه الأرض قديماً وحديثاً. فحين كان الكاتب القديم يعتزم تدوين جملة في السومرية يبدأ بتنزيل الأسماء التي تتضمنها أولاً، من اليسار إلى اليمين، أو من الأعلى إلى الأسفل في النصوص المبكرة، ويلحق كل اسم بصفته إن كانت هناك صفات في الجملة. وبعد أن ينتهي من الأسماء يعود بعكس السطر لينزل الأدوات اللغوية التي تعمل عمل حروف الجر، لعدم وجود حروف جر في السومرية، وأسماء الإشارة والضمائر الشخصية. وفي هذه الأدوات اللغوية يقوم بدمج كل حرف صحيح تنتهي به الكلمة مع حرف العلة الأول من الكلمة التي تتبعها، وبذلك يكون مقاطع جديدة لا معانٍ محددة لها. أما عناصر الجملة الأساسية فكانت ترتب على النحو الآتي: الفاعل، المفعول لأجله، ظروف الزمان والمكان، المفعول به وأخيراً الفعل. كل هذه العناصر في الجملة يلحق بها ما يخصها من مكونات وأدوات، أما الفعل فيأتي في تركيب يتضمن أدوات ورموزاً تشير إلى وجود كل ما سبق مع رموز تدل على كون الفعل لازماً أم متعدياً مع ترتيب التركيب الفعلي ليدل على زمن الفعل بالماضي أم الحاضر.
كل هذه الاختلافات فيما بين اللغتين السومرية والأكدية، المدونتين بالخط المسماري نفسه، لم تمنع من حدوث تداخل فيما بينهما في النصوص الأكدية. وهذا التداخل لا يتيح قراءة النصوص الأكدية دون معرفة السومرية. فكثير من الكلمات الأكدية لم تكن تكتب بمقاطعها الأكدية، إنما بما يقابلها في السومرية، رموزاً أو مفردات، ولكنها تقرأ بالأكدية. ولا يعرف حتى الآن السبب الذي جعل كتاب الأكدية يلتزمون بهذه الممارسة في الكتابة. فمثلاً حينما كان الكاتب يأتي على ذكر كلمة بيت، وهي نفسها في العربية، ويمكنه أن يكتبها مقطعياً: بي – ي – تو مثل بقية كلمات النص، ولكنه يختار دون سبب واضح أن يكتبها بالرمز السومري لها: أي2، ولكنه يقرؤها بلفظ الكلمة الأكدية. ولو افترضنا أن النص الأكدي يتضمن جملة الجار والمجرور "في البيتِ" فإن كتابتها تكون: إ – نَ (في) أي2 – تِ (البيتِ). وهنا يكون الكاتب قد ألحق الكلمة السومرية، التي لا تعرب ولا تثنى ولا تجمع، بالنهاية الإعرابية -تِ ليخبر القارئ أن يقرأها "بيتِ" وليس بالسومرية. ومن الملفت أن عدد الكلمات الأكدية التي تكتب بهذه الطريقة كان في ازدياد كلما تقدم الزمن، حتى أن آخر نص أكدي مدون (في العام 79م) كانت جميع كلماته الأكدية مكتوبة بالكلمات السومرية ولكنها تقرأ جميعاً بالأكدية.
هذا جزء بسيط من تعقيدات الكتابة المسمارية التي تمثل تحدياً حقيقياً للمختصين بها. وبسبب كون حل رموز هذه الكتابة حديثا نسبياً (قبل نحو 170 سنة)، فإن عملية تطوير علم المسماريات لا تزال متواصلة، ذلك أن حل رموزها ما كان كاملاً في أي وقت، إنما تتخلله ثغرات وإشكاليات كثيرة يواصل علماء المسماريات حلها يوماً بعد يوم. وهذا ما يجعل النصوص المسمارية التي قرأت وترجمت قبل ما يزيد على خمسة عقود بحاجة إلى إعادة ترجمة. ولو تذكرنا هذا وعرفنا أن نصوصاً جديدة تكتشف بشكل مستمر مع تواصل عمليات التنقيب الأثري في بلدان الشرق الأدنى التي انتشرت فيها الكتابة المسمارية: (العراق، سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، مصر، شبه الجزيرة العربية، إيران وتركيا)، فضلاً عن وجود نصوص في متاحف العالم والمجموعات الخاصة مما لم يقرأ بعد، لعرفنا أن هناك مهاما كثيرة تنتظر المختصين ليقوموا بها. ويقابل هذا قلة عدد المتخصصين الحقيقيين بالكتابات المسمارية وصعوبات دراستها مع بقاء التخصص مقتصراً على إحدى هاتين اللغتين دون الأخرى؛ مما يعيق التوسع في ترجمة النصوص المسمارية خصوصاً الطويلة منها ذات المواضيع المهمة، مثل: النصوص الأدبية والقانونية والتاريخية.
مواضيع النصوص المسمارية
وقد يظن بعضهم أن النصوص المسمارية عبارة عن مؤلفات بسيطة محدودة المواضيع والمعالجات، ولكن الواقع غير هذا تماماً. فقد تطورت هذه النصوص في الألف الثالث قبل الميلاد واستمرت في التطور في ألفي سنة لاحقة. وشمل تطور النصوص المسمارية تنوع مواضيعها وطولها وأهميتها؛ بما كان له تأثير كبير في تطور الفكر الإنساني عموماً. فمن ناحية المواضيع نجد أن الكتابة المسمارية شملت مجالات رئيسة في القانون، الأدب، الاقتصاد والتجارة، التاريخ، العلوم، الرسائل، المعاهدات والاتفاقيات والمعاجم.
ـــ النصوص القانونية تشمل القوانين، مثل شريعة حمورابي المكونة من 283 مادة قانونية مع مقدمة وخاتمة، الدعاوى القضائية وأحكامها، العقود الشرعية ومنها عقود الزواج والطلاق والتبني والإرث والبيع والشراء والقروض وسندات التملك.
ـــ النصوص الأدبية تشمل المؤلفات الأدبية في أبواب الأدب المختلفة من الروايات والقصص، الأساطير والملاحم، المرثيات، الأدب الساخر والهجاء، أدب السحر، الرسائل الأدبية، أدب الحكمة، المناظرات والحوارات الأدبية، التراتيل والأناشيد والنصوص الشعرية. ومن هذه النصوص ما دون بمئات الأسطر على ألواح طينية كبيرة عدة، مثل: أسطورة الخليقة البابلية (1092 بيتاً شعرياً على سبعة ألواح) وملحمة جلجامش (3150 سطراً على اثنى عشر لوحاً). لغة النصوص الأدبية كانت إما سومرية أو أكدية، ولكن عدداً منها كان ثنائي اللغة، أي نصف النص باللغة الأكدية ونصفه الآخر بالسومرية.
نص مسماري أدبي ثنائي اللغة، وهو عبارة عن ترتيلة دينية نقشت على لوح طيني باللغتين السومرية والأكدية. جزء من الرقيم مفقود. والنص ينتهي بتذييل (السطرين الأخيرين) يتضمن اسم الناسخ القديم ومرجعية اللوح.
ـــ النصوص الإدارية والاقتصادية والتجارية تتضمن تداول البضائع وتفاصيل الصفقات وتثبيت الأسعار والكشوفات المخزنية وقوائم توزيع الأرزاق.
ـــ النصوص التاريخية تشمل طيفاً متنوعاً وتم تصنيفها بحسب مواضيعها، فمنها النصوص الملكية بمختلف مواضيعها من نصوص حوليات ونصوص تذكارية ومراسيم ومراسلات ملكية. ومن النصوص التاريخية الوقائع ونصوص التاريخ التعاصري.
ـــ النصوص المسمارية التي تتناول المعارف العلمية متنوعة وكثيرة. فهناك النصوص الرياضية التي تتضمن مسائل رياضية، ومنها نظرية المثلث القائم الزاوية التي تسبق زمن فيثاغورس بمئات السنين. النصوص الطبية تتناول العلاجات والوصفات الطبية وتشخيص الأمراض وصناعة الأدوية وحتى العمليات الجراحية. وقد اكتشفت نصوص زراعية كثيرة ونصوص في علم الأحياء والكيمياء فضلاً عن النصوص الفلكية وتحركات الأجرام السماوية، والنصوص التي تخص المعلومات الجغرافية والمساحة وغيرها.
لوح طيني استعمل في تدريس الرياضيات في جنوبي العراق قبل أكثر من 3500 سنة، يحمل رسوماً هندسية وشروحاً باللغة الأكدية توضح كيفية احتساب مساحات الأشكال المرسومة.
ـــ الرسائل دونت على الطين في مختلف عصور حضارة وادي الرافدين، وكانت على أنواع. فهناك الرسائل الشخصية التي يتبادلها الأفراد والرسائل الرسمية، مثل الرسائل التي يتبادلها الملوك مع مسؤولي الدولة والأدباء والأطباء ورجال الدين. وكانت بعض الرسائل توضع في أغلفة طينية قد تعاد عليها كتابة نص الرسالة مع طبع الأختام عليها.
رسالة مسمارية على رقيم طيني مع غلافها الطيني الذي يحمل طبعات أختام.
ـــ المعاهدات والاتفاقيات تشمل المعاهدات الدولية بين دول وادي الرافدين والدول الأخرى، وهناك أيضاً الاتفاقيات الداخلية والعهود التي تقطع للملك أو الحكام. ومن أشهر الاتفاقيات المسمارية تلك التي عقدها الملك الآشوري أسرحدون (680-668 ق.م)، التي جاءت ترجمتها الإنكليزية في كتاب كامل.
ـــ أما المعاجم فقد تطرقنا إليها آنفاً، وما يهمنا هنا المعاجم اللغوية. فبسبب تعقيدات الكتابة المسمارية، سواء بعلاماتها الكتابية أم بمفردات لغتيها (السومرية والأكدية)، دأب كتاب حضارة وادي الرافدين القدماء على إعداد كثير من المعاجم للعلامات الكتابية وقيمها اللفظية وللمفردات الأكدية ومرادفاتها السومرية، وكذلك لمفردات اللغتين مع اللغات الأخرى، مثل المصرية القديمة والحثية، وحتى ظهرت في العصور المتأخرة معاجم أكدية مع المرادفات الإغريقية.
في العصر الحديث أدرك علماء المسماريات أهمية إعداد معاجم لغوية تساعدهم على دراسة النصوص المسمارية وعلاماتها أو قراءة النصوص السومرية والأكدية (بلهجتيها الرئيستين: البابلية والآشورية) وترجمتها إلى اللغات الحية. ولم تكن عملية إعداد هذه المعاجم باليسيرة؛ لأنها ليست مفردات مترادفة فيما بين لغتين حيتين، مثل الإنجليزية والعربية وغيرها، وإنما بين لغتين ماتتا قبل عشرات القرون ولغات حديثة. في عدد قادم من "إشراقة" نعرض ما عمله العلماء المحدثون بهذا الصدد ودخول جامعة نزوى، ممثلة في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية، على الجهود الرامية إلى إعداد أحدث المعاجم وأشملها، وأول معجم للغتين السومرية والأكدية معاً بعد أن تعثر إعداد معجم للغة السومرية في كبريات الجامعات الأجنبية. وهذا المعجم سيكون موضوعنا القادم.