السنة 19 العدد 175
2024/01/01

الماء في نصوص الثقافة الشعبية العمانية: 

التمثلات والمعتقدات 

 


 

 

د. ناصر بن سيف السعدي*

كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج، جامعة نزوى

 

يحضر الماء كل تفاصيل حياة الإنسان وممارساته اليومية. وهو العنصر الذي لا يستطيع الإنسان العيش دونه. فهو موطن الجمال، وصانع البهاء، وواهب الخضرة. ولولا الماء ما كان هناك ظل، ولا عود مورق، ولا منظر جميل. ويعد صوت خرير الماء من الأصوات التي تبعث البهجة في النفس، كما أن جريانه في الجداول من الصور التي تتجلى في نصوص الثقافة، كما أن مفردات الطبيعة وقاموسها، وخاصة كلمة الماء، حاضرة بكثرة بهدف تأثيث النص الثقافي وبنائه.

 

لقد ترجمت الأمم والشعوب أهمية الماء بطرق عدة؛ وذلك من طرق الاحتفاء، وتخصيص مناسبات معينة، وتضمين الماء أساطيرها، وقصصها الشعبية، وأشعارها، والأمثال الشعبية. إذ إن التراث الثقافي لأي أمة تعبير عن ضميرها الاجتماعي، وعاء لتطلعاتها وأفكارها، وانعكاس لمشاعرها وأحاسيسها تجاه عناصر الطبيعة، بما في ذلك عنصر الماء.

 

وقد خلقت ندرة المياه وشحها مواقف وثقافة ومشاعرا وقصصا وأساطير تجاه عنصر الماء. نحاول أن نبحث فيها ونكتشف منها المعاني التي ترسخت في المورث الثقافي العماني تجاه عنصر الماء من رموز وأساطير ومشاعر. 

 

وأولا وقبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى أن هذه الدراسة لا تسعى إلى مناقشة مكانة المياه وأهميتها من الناحية البيولوجية أو الفطرية، بمعنى الاحتياجات الإنسانية أو الزراعية... إلخ. فالماء جزء من الاحتياجات الفسيولوجية كالحاجة إلى الغذاء والملبس والمسكن... إلخ. بل نريد أن نتحدث عن مكانة الماء في الثقافة الشعبية العمانية من منظور آخر، وهو منظور يهدف إلى تبيان دلالات الطقوس والمعتقدات والتصورات التي رسمتها الثقافة الشعبية عن عنصر الماء. هذا أولاً، وثانياً، نحاول الخوض في الجوانب الاجتماعية والمعنوية لعنصر الماء في وجدان الإنسان العماني. وتكمن أهمية دراسة صورة الماء في نصوص الثقافة الشعبية في عدم علم الباحث بدراسة جادة تناولت هذا الموضوع. وأما عن أهداف وغايات الدراسة فهي تهدف إلى تحقيق أهداف عدة، أهمها: الكشف عن التمثيلات الاجتماعية للمياه في نصوص الثقافة العمانية، بالإضافة إلى توضيح دلالات حضور الماء في الأساطير والمعتقدات. ولتحقيق أهدافها ستعتمد الدراسة على منهجين، أولهما المنهج الأنثروبولوجي، خاصة لرصد ملامح التمثيلات الاجتماعية للماء. ثانياً: المنهج الأسطوري في دراسة الخرافات والمعتقدات الشعبية عن الماء.

 

الماء موجود كموضوع للعديد من القيم والتمثيلات الاجتماعية، وقد اتجهت الثقافة الشعبية في عمان إلى استخدام مفردات الماء للارتقاء ببعض القيم والسلوكيات، إذ يقال: "الوالي مثل عين الماء وسائر العلماء مثل السواقي، فإذا كان أصل العين صافيا لم يضر كدر السواقي، وإن كان أصل العين كدرا لم ينفع صفاء السواق". 

 

وفي كتاب شفاء القلوب يعد الماء أحد عوامل الغنى والرخاء والمكانة الاجتماعية وأسبابها. وقد عبر مؤلف الكتاب عن هذا المعنى في أكثر من موضع، بل وقال إن امتلاك الماء من أفضل الممتلكات التي لا أمل في فقدانها. وسنجد هذه الصورة واضحة في قصائد العديد من الشعراء. يقول ذو الغبراء: سألت صاحبي عن حرفة بني آدم ما أحسن منها لطلب الرزق؟ قال: من كان معه الماء فهو الأصل الأول الذي لا يشارك مشارك ولا يحتاج فيه إلى معاناة ولا معونة وهو كالذهب الخالص. قلت له: والنخيل والزرايع ... قال إذا لم يكن لها ماء فغلتها لصاحب المباء للقعد. وأما إذا كان لها ماء فتحتاج إلى معاناة ومشاركة كالبيادير".

 

وارتبط الماء بالبركة واستمرار الخير وثباته، فأصبحت مصادر المياه مزارات لطلب الخير والبركة. وكانت هذه الممارسة من الممارسات قبل الإسلام، وكانت معروفة أيضًا لدى كثير من الأمم. وهي إحدى الممارسات الأسطورية، ويعد الماء ومصادره من أهم الوسائل التي يلجأ إليها العامة للتبرك والنذور والشفاء، وقد ظلت هذه الطقوس سارية في عمان، وربما إلى هذا الزمان من الناس في بعض النواحي.

 

ويوجد في عمان العديد من العيون ومصادر المياه، التي يقصدها الناس للتبرك، وإيمانًا منهم بالشفاء والعلاج من العديد من الأمراض، مثل: العقم والأمراض النفسية وغيرها. ومن أهم هذه العيون، عيون ولاية بوشر، وعين غلا، وعين الحمام، وعين نامه، وعين الفج، وعين المسفاة، وعين وضاح، وغيرها.  

 

استخدم الشعراء مفردات الماء أداة للتعبير عن المفاهيم والقيم الاجتماعية والممارسات اليومية، ومنها: السخاء والكرم، وقدوم الضيوف، ووصف النساء الجميلات. واستخدموا جريان الوديان للتعبير عن قوة الحشود والجيوش، كما استخدموا المطر للتعبير عن نيران المدافع التي تنهمر على الخصوم والأعداء، وللتعبير عن طلاقة اللسان، ولارتفاع الصوت استخدموا مفردات الرعد والبرق. وتحتوي قصائد الشعر الشعبي على العديد من المفردات التي تشير إلى الماء، ومن أهم الأسماء الواردة: العيون، طامية، التيار، الشط، النهر، الوادي، الخول، المزن، الوادي، الهطل، البرق، السنا، القهب، المخايل، الفلج، السيل، الورد، الرثام، الخصب، المحل، الرعد، السقي، الغدران، الرعد، الغيث، الوابل، الرهام، الحيا، المطر، السحب. 

 

والقصص الشعبية من أهم الأدوات التي يستخدمها الإنسان لتعبر عن  انفعالاته وأحلامه، وتطلعاته ورؤيته لما حوله من مظاهر طبيعية،  وهي الوعاء الذي جعله الإنسان مخزناً لخلاصة تأملاته وتصوراته وأفكاره، أو أداة لترسيخ القيم والمفاهيم والمبادئ التي يراد لها أن تتجذر في وجدان أفراد المجتمع. ونهدف من دراستها إلى فهم طبيعة حضور عنصر الماء في النص القصصي والأسطوري والوقوف عليها. ومن أشهر القصص الشعبية التي يعد الماء من أهم مكوناتها: قصة فلج العفريت، قصة فلج الغنتق، النبي داود عليه السلام والأفلاج العمانية، فلج الدن الجن، فلج الشياطين فلج المبروك، وغيرها من القصص الشعبية والأسطورية. 

 

أما حضور الماء في الأمثال الشعبية العمانية فإن معانيها ودلالاتها متعددة، ومن أهم الأمثال العمانية المتعلقة بعنصر الماء، هي: "اسقي العطشان ولو رجوله في الشريعه"، "طالع من الخب طايح في الطوي"، "صم عن الرعد وعور عن البرق"، "سيل ما يبلك... ما يهمك"، "اسكن على الماي ولا تسأل عن الرزق"، وغيرها من الأمثال.

 


 

 

*قدم الباحث هذه المقالة تزامنا مع محاضرته التي ناقش فيها ذات الموضوع يوم الإثنين 27 نوفمبر 2023م.









إرسال تعليق عن هذه المقالة