كيف تُولِّد القراءة الفضول للبحث والاكتشاف؟
شغف منذ صغره بقراءة كل ما يقع بين يديه
بذل جهدا لتسليط الضوء جوانب مهملة في البحث التاريخي لعُمان
دراسة أهل عمان تاريخهم بعناية، تمكنهم من وضع اليد على الإخفاقات والعبر، والمراحل المشرقة في تاريخهم
التاريخ بحاجة إلى الاهتمام بالمعارف التقليدية التي ابتدعها الإنسان العماني في شتى المجالات
إشراقة: حوار العدد
أعده: ريهام الحضرمية
تتلألأ مسارات العطاء والتعلم كأنها خيوطٌ متشابكة من الثقافة والبحث، تصوغ مسيرة حافلة بالتحديات والإنجازات، حيث ينسجم صوت العلم والعمل البحثي مع تجارب الحياة وتحولاتها، لتخطو خطوات ثابتة نحو رسم مساهمات ترصد عبق الماضي وتقود نحو مستقبلٍ مشرق. دعونا نغوص سوياً في حوار مع الدكتور ناصر بن سيف السعدي، أستاذ مساعد وباحث في كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى، يكشف لنا عن أسرار شغفه بالعلم والمعرفة، وكيف شكّلت رحلته التعليمية مصدر إلهامٍ دائم.
يحمل البحثُ والتعليمُ الشغف والعطاء، ففي هذا الحوار تجلى تفاني الباحث وحرصه على تسليط الضوء على تاريخ عمان، بكلِ تفاصيله وجوانبه المُلهمة، كما تظهر تجاربه الحيوية ومسيرته الأكاديمية، بحق الدافع والإلهام لكل من يسعى إلى تحقيق النجاح والتميز، فلنستمع دائماً لصوت البحث والتعلم، لأن فيهما سر تطور العقول وازدهار الحضارات.
-
حدثنا عن مسيرتك التعليمية منذ الصغر؟
تلقيت التعليم في مدرسة أبو مالك عامر بن خميس المالكي، وهي أول مدرسة يتم افتتاحها في ولاية وادي بني خالد. وأكملنا فيها المرحلة الابتدائية والإعدادية، ثم انتقلنا لإكمال المرحلة الثانوية في مدرسة المتنبي الثانوية بولاية إبراء. ثم أكملت مرحلة البكالوريوس في التربية تخصص تاريخ، من كلية التربية –سابقا- بولاية صور، ومرحلتي الماجستير والدكتوراة في كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس.
-
ما الدافع الذي قادك إلى البدء في مجال البحث؟
القراءة والمطالعة هي البذور الأولى للبحث والتنقيب، وأحسب أني شغوفا منذ الصغر بقراءة كل ما يقع بين يدي لاسيما في المرحلة الثانوية. وهذه الهواية تعمل على تنمية حس الكتابة وشحذها؛ لأنها توفر مورداً لغويا وثقافيا لدى كل من لديه شغف القراءة والاطلاع.
-
كيف تستطيع المحافظة على الإلهام والحماس للعمل البحثي على مر الأعوام؟
إن إبقاء النفس متوقدة دائما، ومتحفزة للمطالعة والبحث ليس بالأمر الهين، والواحد منا قد يشعر بالملل ويتملكه الضجر كعادة النفس البشرية، ولكن إذا آمنت بهدف تسعى إلى تحقيقه، سيظل الحماس متوهجاً في كل ساعة وكل حين.
-
هل تذكر تحدٍ واجهته في مسيرتك البحثية والأكاديمية وكيف تعاملت معه؟
التحديات كثيرة وقد لا تنتهي أبداً، وعلى كل واحد منا إذا واجهت طريقه العثرات وقابلته الصعاب، أن يتمثل لقول الشاعر أحمد شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
-
شاركنا تجربة خاصة أو لحظة تعدُّها أبرز إنجاز في عملك البحثي؟
في الواقع، كل اللحظات والتجارب ينبغي أن تكون بارزة في حياتنا، حتى الإخفاقات هي علامة بارزة أيضا؛ لأنها تحدد لنا نقاط الضعف. ولكن إذا اضطررت إلى اختيار مرحلة ما، فهي لحظة الفوز بجائزة معالي عبد الله العلي النعيم لخدمة تاريخ الجزيرة العربية، فقد حصلت على هذا الجائزة بأول دراسة منشورة.
-
ما أهم القيم والمبادئ التي توجّه حياتك الشخصية والمهنية؟
أسمى القيم والمبادئ التي تحكم حياتي، سواء في الجانب الشخصي أم المهني، تتمثل في الأمانة والإخلاص، إذ إن هاتين القيمتين تشكلان الأساس الذي أقوم على بناء حياتي، فالأمانة تمثل لدي النزاهة والتزام الوفاء بالوعود والمسؤوليات، بينما الإخلاص يمثل الاستقامة والتفاني في أعمالي والوفاء للغير.
-
كيف تدير وقتك وتنظم أنشطتك اليومية لتحقيق الإنجاز في مجال البحث والعمل وأيضًا الاستمتاع بحياتك الشخصية؟
لا أرغب أن أكون مثالياً، وأعترف أنني لست دائما منظماً تماماً، ولكنني أعمل بجد، وأحاول الموازنة بين الحياة العملية والبحثية والشخصية.
-
ما اختصاصك الأكاديمي وما مجالات البحث التي تركز عليها؟
تخصصي الدقيق هو التاريخ العماني، وهناك مجالات أحاول التركيز عليها في هذا المجال، مثل: تاريخ البنى الاجتماعية والثقافية، وتاريخ الأفكار والنظم، وتتركز اهتماماتي البحثية حاليا على دراسة المعارف التقليدية، خاصة المتعلقة بنظام الأفلاج العمانية والمفردات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بهذا النظام.
-
ما الجوانب التي تميز أبحاثك من غيرها؟ وما الإسهام الرئيس الذي قدمته؟
في الحقيقة لا أستطيع تزكية الدراسات والأبحاث التي أنجزتها، وأعتقد أن مهمة الباحث الكتابة والبحث والدراسة فقط، وترك الحكم للمتلقي. ومع ذلك، أحاول أن أبذل جهدي لتسليط الضوء على بعض الجوانب المهملة في مجال البحث التاريخي في عمان.
-
كيف يمكن أن تصف تأثير أبحاثك على مجال العلم الذي تشتغل عليه؟
أعتقد أن كل الأبحاث والدراسات التي أنجزتها لبنة من لبنات البحث التاريخي في عُمان، ولبنة واحدة لا تكفي لتشكل بناء فعالا، فلا بد أن تتضافر اللبنات معا حتى يكتمل التأثير.
-
اذكر لنا مشروعا بحثيا معينا أحببته كثيرًا واستغرقت وقتًا طويلاً في تطويره؟
أكون صريحا، ليس لدي علاقة عاطفية مع الدراسات والأبحاث التي قمت بها، لأنها أفكار قابلة للتبدّل والتغيير، وهذه هي طبيعة البحث في العلوم الإنسانية، فالحقائق في هذا المجال ليس ثابتة إنما متغيرة. ورغم كل هذا، هناك دراسة تمنيت كثيرا أن أكملها، وتحقق هذا الحلم، وهي تتعلق بتاريخ المعرفة الأجنبية التي أنجزت عن عمان، ونشرت هذه الدراسة في العدد الأخير من مجلة "أسطور للدراسات التاريخية".
-
كيف تقيّم التحولات الرقمية وتأثيرها على مجال البحث الخاص بك؟
الثورة الرقمية قربت المسافات وسهلت الصعاب، فالكتاب الذي من أجله تقطع المسافات قبل الثورة الرقمية، أصبح بإمكانك الحصول عليه في لحظة غمضة عين.
-
كيف يمكن لبحوثك أن تسهم في تطوير المجتمع أو حل إشكالاته؟
التاريخ أحد مكونات الهوية الثقافية، وتاريخ الأمم والشعوب مخزن للتجارب، وكلما درس أهل عمان تاريخهم بعناية، تمكنوا من وضع اليد على الإخفاقات والعبر والعظات، وتسليط الضوء على المراحل المشرقة في تاريخ هذه الأمة. إن الأمم التي تتكأ على تاريخ حافل بالإنجازات لديها الإمكان في النهوض أكثر من غيرها، إذا ما درس التاريخ بحيادية تامة، فلا بد أن يكون التاريخ عاملاً للنهوض، وليس جرعة تخدير.
-
شاركنا جانبا من أحدث أبحاثك الأكاديمية أو أعمالك المنشورة؟
من الأعمال المنشورة:
-
الكتب: الأوروبيون في مدونات التراث العماني 1489-1950م، وكتاب العلماء والسلطة في عمان 1749- 1013م. وهنالك كتاب جديد في طريقه للنشر نتركه إلى حينه.
-
الأبحاث والدراسات:
-
المعرفة الاستعمارية البريطانية للحالة العُمانية: المقاربات والتوظيف السياسي (1970-1798). مجلة أسطور للدراسات التاريخية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة.
-
نسخ الأفلاج في عمان تاريخها وضوابط العمل بها، ناصر السعدي. عبد الله الغافري، بالاشتراك مع الدكتور عبد الله بن سيف الغافري. مجلة الخليل للدراسات التاريخية والاجتماعية، جامعة نزوى.
-
البحر من خلال كتب الجوابات والنوازل الفقهية العمانية (النظم، العلاقات، الحوادث)، مركز الدراسات العمانية، جامعة السلطان قابوس، سلطنة عمان.
-
الجالية الهندية في منطقة الخليج العربي قبل الطفرة النفطية: دراسة في جذور علاقة الهند بالخليج، المركز العربي للأبحاث والدراسات، الدوحة.
-
المجتمع والسياسة في عمان من خلال جوابات الإمام محمد بن عبد الله الخليلي، مجلة الخليل، جامعة نزوى، سلطنة عمان.
-
نظام التفريق في التاريخ العماني بين الظرف السياسي والأثر الاقتصادي 1482-1915م، مداولات اللقاء العلمي لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي، المنامة.
-
الأوبئة والأمراض المعدية منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى منتصف القرن العشرين، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، سلطنة عمان.
-
ملامح التعايش السلمي من خلال جوابات فقهاء مدينة نزوى في عهد اليعاربة، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، سلطنة عمان.
-
هل لك مشاركات في أنشطة أكاديمية أخرى خارج البحث، مثل اللجان والمؤتمرات؟
شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات، يفوق عددها الثلاثون مؤتمراً على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، كما شاركت في عضوية العديد من اللجان العلمية، وعضوية الجمعيات، مثل: جمعية الكتاب والأدباء، وعضوية جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي.
-
بكل تأكيد لديك مشاريع بحثية مستقبلية تخطط للعمل عليها ... ناقشها معنا كي نمهّد طريقها للبروز والاهتمام؟
أعمل حاليا على العديد من المشاريع البحثية، المتعلقة باهتمامات كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج، وذلك بالاشتراك مع أساتذة الكرسي وباحثيه، منها ما يتعلق بمبادئ إدارة النزاعات في موارد المياه وطرق تسويتها، والفوارق الاقتصادية في ملكية حصص الأفلاج، والموارد المائية والاستعمار، وغيرها من القضايا المتعلقة بالمعارف التقليدية، والمبادئ والقيم والحلول التي ابتدعها الإنسان العماني للتغلب على مشاكل الزراعة والبيئة وندرة المياه.
-
ما الاتجاهات البحثية المستقبلية التي تروّج لها وتعتقد أنها ستكون محطّ أنظار المعنيين؟
من أهم عوامل النهوض بمجال البحث العلمي، رعاية الباحثين وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، وإذا ما توفرت هذه الشروط، فكل الصعاب سوف تذلل، وأما الاتجاهات التي يجب أن تحظى بدعم كبير من قبل المؤسسات الحكومية والخاصة، تقديم الدعم السخي للاهتمام بالبحث في مجال العلوم الإنسانية عامة، وفي مجال التاريخ نحن بحاجة إلى الاهتمام بالمعارف التقليدية التي ابتدعها الإنسان العماني في شتى المجالات، كالزراعة وإدارة المياه والغذاء والصناعات الحرفية والطب التقليدي، وغيرها من المعارف.
-
نجدك نشطا متفاعلا في وسائل التواصل الاجتماعي ... كيف أفادتك وكيف استفدت منها؛ علميا ومهنيا وشخصيا؟
وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أحد مظاهر الحياة المعاصرة، ولها فوائد ولها سلبيات، ومن فوائدها، أنها توفر ساحات لتبادل الأفكار ومناقشتها، ورصد اتجاهات الجمهور في بعض الأفكار البحثية المنجزة.