استقطب أسماء كبيرة ومتنوعة من نقّاد الأدب ...
"إشراقة" تستطلع آراء الباحثين المشاركين في المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية
البوسعيدي: النص النثري العماني كأي نص أدبي سره في لغته وجمالياته الإبداعية الخلاّقة من خيال ورمز ووفرة
الفهدية: يتميز النص النثري العماني بالبحث والتجريب وتوظيف التقنيات الفنية التي تعطيه الفرادة
الشمالي: النصوص العُمانيّة قراءة مُتصلة بالتراث العُماني
محمد صابر: جماليّات الأدب العربي في عُمان فيها تمثيل عالِ؛ لمرجعيّته الاجتماعيّة والثقافيّة العُمانيّة
الغافرية: التجمعات العلمية تُكسب اللغة تجددا في موضوعاتها ودراسة قضاياها المعاصرة
سعيد يقطين: خلود النص مسألة نسبية، وقد تظهر قيمتها بمرور الزمن
بسّام قطّوس: الصنعتان الفنية والجمالية قد يخلّدان النص
بلقاسم مارس: لنا في القرآن الكريم خير مثال لخلوده ببراعة تركيبه ولغته ومعانيه
إشراقة: ملف العدد
استطلاع: ثريا الغافرية وأميمة الحاتمية
تعدّدت اللغات السامية وتنوعت قواعدها، إلا أنها بادت واضمحلّت ولم يبق منها قائم بذاته مستقل بكيانه غير اللغة العربية، وهي بالله والقرآن محفوظة، وبأهلها مصانة مدروسة ... وعليه فكُلُّ الحضارات الغابرة والحاضرة، البائدة والباقية ما قامت ولا ازدهرت إلا بلغاتها؛ فأصلُ الحضاراتِ لُغَاتُها، ومَرْجِعُ القوم لغتهم، وفخر الرجل لُغَتُه، واعلم أنَّ اللغةَ هي الوجهُ الذي يمثّل عِزَّ كلِّ أمَّةٍ ورِفعتها؛ فمتى ما ارتقتْ أُمَّةٌ وسَمَتْ؛ فتيقَّن أنّ لِلُغتها نصيبَ الأسدِ مِن هذا السُّمُو.
ولكن إذا لم نُرد للغتنا الضَّعف والهوان؛ فعلينا صونها وتدارسها، ومن مظاهر هذه الدراسات، المؤتمرات الدَّولية التي تُعنى باللغة العربية؛ لذلك ارتأت صحيفة جامعة نزوى "إشراقة" استثمار هذا التجمع الثقافي المهم الذي التقى فيه الباحثون والعلماء والنقاد المهتمون بالدراسات العربية والمطلعون على الأدب العماني بما تضمنه موضوع المؤتمر، وهو: "الخطاب النثري العماني الحديث في ضوء نظريات القراءة"، فقد عملت الصحيفة على استطلاع آراء هؤلاء المشاركين في المؤتمر عامة والأدب العمانيّ خاصةً.
بحث المعنى
وفي أثناء مشاركتهما بورقة علمية في المؤتمر، نظرنا إلى مكانة هذا التجّمع لديهما، يقول الدكتور محمد الشيزاوي، أستاذ النحو والصرف بجامعة السلطان قابوس: "لا تخفى الأهمية العلمية والتربوية لإقامة المؤتمرات العلمية، فهي ملتقى العلماء والباحثين"، ويصفها أنها فرصة لطلبة العلم الصِّغار في التعرف على أساتذة ربما لا يعرفونهم. فيما أكّد هذه الأهمية كذلك الدكتور سالم البوسعيدي، محاضر في قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، إذ قال: "هذه الأعراس الثقافية، ضرورة لتوجيه الحياة الأدبية، ولفت عناية الباحثين، ووضع يد النقّاد على النصوص، فضلا عن أهميتها للباحثين أنفسهم". وأردف قائلا: "إنّ اللغة العربية أحوج ما تكون إلى مؤتمرات عامة، تناقش المصطلحات التي أنهكتها، وافتضت حرماتها، وهتكت ستار جلالها، حتى أحالتها إلى جسد مشوّه، إذ تنجح هذه المؤتمرات بقدر ما تكون لغتها (عربية حقيقية)، لا مجرد صوت عربي يفتقر إلى المعنى ويسافر في فضاءات اللامعنى، معانقًا تأويلات غامضة ودلالات هلامية، فقد أكد المؤتمر حاجتنا إلى باحثين يقدمون المعنى على طبق البحث دون تأويلات أخرى".
اتساع وثراء
يقول الأستاذ الدكتور بسّام قطوس، أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة اليرموك في المملكة الأردنية الهاشمية، في سياق استقرائه لعنوان المؤتمر (الخطاب النثري العماني الحديث في ضوء نظريات القراءة)، الذي ألقى فيه كلمة المشاركين: "لا شك أنّ المؤتمر الدولي الثاني الذي يقيمه قسم اللغة العربية في جامعة نزوى مؤتمر ناجح بأدلة عدّة: أولا بحضور أسماء كبيرة ومتنوعة من النقاد من أوطاننا العربية أو الذين أسميهم (حرّاسًا نوعيًا)، واستقطب هذا المؤتمر أقلامًا متنوعة من أوطاننا العربية، والإعداد للمؤتمر كان ممتازًا، وهي فرصة أيضا أن أشكر جامعة نزوى ممثلة بأخي الدكتور مسعود الحديدي، رئيس قسم اللغة العربية ورئيس اللجنة التحضيرية، وبأخي الدكتور عيسى المصري. وأشكر أيضًا زملائي في اللجنة التحضيرية وأثمن جهودهم الكبيرة. استقطب المؤتمر أكثر من ثلاثين ورقة، وقد بدا فيه نوع من النشاط والفكر العلمي الكبير والمناقشة الهادفة.
وأضاف الدكتور علي الكلباني، من قسم اللغة العربية في جامعة السلطان قابوس، رأيه في المؤتمر بقوله: "في تقديري فإن أهم مخرجات هذا المؤتمر أنه يسلط الضوء على الأبعاد الفكرية العميقة للنصوص النثرية العمانية الحديثة، وهذه الأبعاد في العادة مخفية خلف السرد لكن القراءة هي التي يمكن أن تكشفها". في حين، قالت الدكتورة فوزية الفهدية، من وزارة التربية والتعليم: "يؤطر المؤتمر لغنى النص النثري/ السردي وخطابه في صورة تكشف عن غنى معطياته وتعدد قراءاته ويكشف عن مضمرات الخطاب فيه. ويقدم خطاطات منهجية حديثة يبني عليها الباحثون دراسات وأبحاثا تفتح لهم آفاقا واسعة في تقديم أطروحات معرفية متجددة". وقد أشار الأستاذ الدكتور بلقاسم مارس، أستاذ الأدب الحديث بالجامعة التونسية إلى سعة مضمون المؤتمر، بقوله: "والحقيقة أن الخطاب النثري العماني أصبح خطابًا ثريًّا لدرجة أنه في حاجة إلى مقاربة من مناهج مختلفة: المنهج السيميائي، المنهج البنيوي، المنهج النفسي، المنهج الاجتماعي".
ونجد الدكتور نضال الشمالي، من جامعة صحار، يبدي رأيه في المؤتمر بقوله: "في بادئ الأمر هذا المؤتمر يُعد متخصصا في وقت تكثر فيه المؤتمرات العامّة التي يشارك فيها أي باحث وفي أي موضوع كان، ولأنه مؤتمر متخصص في قضية واحدة، هي النثر العماني، أعطى لنفسه امتيازًا، ثم أن جميع الأوراق التي قُرأت عناوينها ابتداءً في جلسات المؤتمر كلها تندرج تحت عنوان المؤتمر، وهناك يوجد اتساق وتوّزع بين أوراقٍ تتحدث عن الروايّة وعن القصة القصيرة أو القصة القصيرة جدًا وأخرى تتحدث عن فنون القول النثريّة المختلفة، كما لامست في هذا المؤتمر تنوعًا في المشاركات ما بين الأساتذة العمانيين وغير العمانيين ممن يعملون في عُمان، أو ممن قطعوا مسافاتٍ من بلدانهم للمشاركة في هذا المؤتمر؛ هذه المعطيات تمنح المؤتمر امتيازًا وكأنها تقول أنه يسير بالاتجاه الصحيح".
ويوافقه الدكتور محمد صابر عبيد، أكاديمي وناقد وأديب عراقي، القول: "هذا المؤتمر يكتسب أهميته من أنه ينظُر في قضيّة مُحددة وهي السرد في عُمان، أو حسب ما سُميّ بالسرد العُماني، وأنا أُفضل الأولى مثلما ذكرت في كلمة الافتتاح؛ وذلك بسبب أنه ينبغي أن تكون هنالك مواصفات كثيرة تؤهلنا للقول بوجود سرد عُماني خاص يختلف عن السرد العراقي مثلًا، واقترحت في الكلمة على الأقل أننا نتحدث مثلًا عن ثلاثة أنواع من السرود في الوطن العربي، كالسرد المشرقي، والسرد المغربي والسرد الخليجي على سبيل الافتراض إذا استطعنا أن نجد ملامح لكل نوع من أنواع السرد. هذا المؤتمر يكتسب أهميته من أن البحوث المُشاركة فيه تشتغل جميعًا على السرديّة العُمانيّة أو السرد في عُمان، وتناولت روايات وقصصا وبعض النصوص السرديّة الأُخرى".
وعبّرت الأستاذة شريفة التوبية، قاصة وروائية عمانية عن رأيها قائلة: "بالنسبة لي يعد هذا الحضور الأول لي هنا في جامعة نزوى، ومما لا شكّ أن المواضيع التي طُرحت رائعة جدًا وخصوصًا فيما يتعلق بالرواية وتقنيّات كتابة الروايّة، ومتأكدة أن المؤتمر ناجح جدًا، ونتمنى في مثل هذه المؤتمرات أن تستمر أيام عدَّة وليس يومين فقط".
جمالية النص العماني
إنّ الأعمال الأدبية التي تشهدها الساحتين المحلية والعالمية تدل على قوة هذا الأدب وأصالته وتمكن أصحابه منه وقدرتهم عليه، وقد جاء موضوع هذا المؤتمر ليؤكد هذه الأهمية ويبرزها ويسلط الضوء على أهمية دراسة النتاجات الأدبية العمانية. فقد أشار الدكتور علي الكلباني، إلى أهمية هذا الموضوع بقوله: "تكمن جمالية النص النثري العماني في أنه أصبح واعيا بخصوصية الثقافة العمانية، واستطاع أن يقدمها أحيانا باحترافية فنية لا تقل شأنا عن النصوص التي ترتبط ببيئات أخرى". وعقب الدكتور سالم البوسعيدي قائلاً: "النص النثري العماني كأي نص أدبي سره في لغته وجمالياته الإبداعية الخلاّقة من خيال ورمز ووفرة، إضافة إلى حمولته المعرفية وانطلاقته للتعبير عن الهوية والذات. وجماليات هذا النص متجلية في كل مفاصل حياتنا، حين تعبّر عنا لنا، أو تعبّر عنا لغيرنا، فتعبر مسافات شاسعة وجغرافيا متعددة لتضعنا أمام القارئ العربي أو العالمي. وجماليات هذا النص في لغته المتطورة لتعبر عنا في زماننا ومكاننا، وفي مضمونه الذي يعانق قضايانا ويسافر في ذواتنا".
وقد أكدت الدكتورة فوزية الفهدية جمالية النص العماني بقولها: "تكمن جمالية النص النثري العماني في خصوصية خطابه ومحليته ومعطياته الثقافية التي تكشف عن مضمرات خاصة. ويتميز الخطاب كذلك بالبحث والتجريب وتوظيف التقنيات الفنية التي تعطيه الفرادة والتميز. ويكشف كذلك عن مبدع باحث ومجتهد مخلص لهويته وتراثه الثقافي الذي يهتم بأن يستثمره في أعماله".
وأضاف الدكتور نضال الشمالي، أستاذ السرديات والنقد الحديث في جامعة صحار، قائلاً: "حاليًّا تتجه جماليّات النص الروائي نحو الرواية أكثر من أي جنس أدبي آخر، والدليل أن هناك كُتّابا عُمانيين حصلوا على جوائز عالميّة وعربيّة يُشار إليها بالبنان، وحاليًّا أنا عاكف على قراءة الروايّة في عمان وأجد أنها تُزاحم الروايّة العربيّة في مكانتها، فنعم ليس الإنتاج بالكم المتوقع، ولكن نوعيّة الإنتاج نوعيّة تُحقق رواجًا على صعيد الوطن العربي. وقراءة النصوص العُمانيّة النثريّة وخاصة الروايّة قراءة مُتصلة بالتراث العُماني اتصالًا وثيقًا، حتى تكاد لا تنقطع روايّة من الروايّات العُمانيّة عن قضايا الوطن المعاصرة أو في قضايا الوطن القديمة، أو حتى ما كان منها تُراثيًّا تاريخيًّا ذا صلة بعُمان".
وأضاف الدكتور محمد صابر قائلًا: "إذا شاء الله لنا أن نتحدث عن الجماليّات الخاصة بالأدب العربي في عُمان، يمكن أن نقول إنّ فيها تمثيل عالِ؛ يرجع ذلك للمرجعيّة الاجتماعيّة والثقافيّة العُمانيّة، أي أن هناك نوعا من التطابق أو التماثل بين كتابة النصوص وبين المرجعيّة، فالكثير من الروايات العُمانيّة عندما نبدأ بقراءتها فالقارئ غير الخليجي -على الأقل- سيتعرف على مفردات كثيرة في البيئة والثقافة العُمانيّة، وكأن الأدب هنا أصبح وسيطا لنقل الثقافة والبيئة الاجتماعيّة وطريقة التفكير وطريقة تعبير الإنسان العُماني عن الأشياء؛ فالأدب من وجهة نظري وسيلة، أمّا بالنسبة للجماليّات فهي مُشتركة في عموم الأدب العربيّ ولا نستطيع أن نتحدث عن جماليّات خاصّة إلا بدراسة أكاديميّة دقيقة جدًا عن نماذج مُتنوعة نستطيع أن نصل بها إلى الكشف عن جماليّات خاصة للأدب العُماني تختلف عن بقيّة الآداب العربيّة الأُخرى".
وللدكتورة مريم الغافرية، باحثة وكاتبة في الدراسات الأدبية، رأي في هذا، إذ قالت: "تكمن جمالية النص العماني في توظيفه ضمن مصانعه الأصيلة، وإحياء مكنونه بالدرس والتحليل، وتقديم إضافة جديدة تكون منطلقا للدارسين". فيما تبلورت رؤية الأستاذة شريفة التوبية، في قولها: "جماليّة النص الأدبي من وجهة نظري تعتمد غالبًا على الفكرة أو على الموضوع الذي يتناوله الكاتب؛ لأني أرفض التكرار؛ لذلك عندما كتبت روايتي (سجين الزُرقة) ما ركزت عليه في بداية الأمر هو الموضوع الذي كان مُغيّبًا ومُهمّشًا، وهو موضوع الُلقطاء أو موضوع المرأة الزانيّة كما يُقال عنها، وهذا الموضوع بطبيعة الحال موضع حساس في مجتمعاتنا المُحافظة، وهي مٌغامرة في الوقت ذاته. تهمني أيضًا جماليّة النصّ في لُغتهِ وفي طريقة السرد والروي. ولكن يبقى الموضوع هو الأساس، فأنا لا أريد أن أُكرر، ولا أتمنى من الكتَّاب والأدباء أن يطرحوا أفكارًا مُتداولة ومُكررة في آن واحد".
واقع العربية
لغة المُتَسَيِّد سائدة، واللغة جسر الثقافة؛ لذلك نرى المستعمرين رَسَّخوا لغاتهم في أيِّ مكان ينزلون به، وكما قال شيخنا العلامة أحمد بن حمد الخليلي: "عارٌ على المسلم أنْ يحسن لغة المستعمر الذي استعبده وأذلَّه، ولا يحسن اللغة التي خاطبه الله بها ليحرره من العبودية لغير لله"، ونحن اليوم في استعمار فكري يجب علينا هزيمته والعودة إلى لغتنا العظيمة، التي هي معقد تفاخرنا وأصل عروبتنا ووعاء قرآننا، وهي قادرة بلا ريب على احتواء كافة العلوم.
وبتسليط الضوء على واقع لغتنا العربية اليوم، وباستطلاع آراء المشاركين في المؤتمر في واقع اللغة العربية، يقول الدكتور بلقاسم مارس: "اللغة العربية تمر بامتحانات، فهي على علاقة بالمؤسسات الأخرى، ففي ظل هذا الزخم وهذه الأجواء تتعرض لامتحان، حتى في الاستخدام الحالي أصبح الكلام لا يخضع لقواعد العربية المتعارف عليها، فإذا لم نصنها ولم نحاول المحافظة عليها فإن التيارات الأخرى المحاذية والمجارية لها يمكن أن تضر بها. وهذا المؤتمر من شأنه أن يؤسس لعلاقة اللغة العربية؛ لأن خطاب النثر العماني في نهاية الأمر خطاب لغته العربية، وجميل جدًا أن تكون هذه المناسبة ليلتقي فيها الإخوة العرب من كل البلدان لمناقشة بحوثهم وإثرائها والتعرف إلى مكامن هذا الفن وطرق تحليله والنظر فيه".
وأيضًا للدكتور نضال الشمالي رأي قال فيه: "صار للعربيّة الفُصحى تأن الآن في وسائل الإعلام، تأن في الاستخدام اليومي ومواقع التواصل الاجتماعي، والعربيّة الفُصحى الآن أصبحت محصورة في أماكن ضيقة، مثل: دور العبادة ودور التعليم وبعض دور الصحافة، عدا ذلك لا نرى العربيّة موجودة؛ لذلك هذه المؤتمرات توسّع من دائرة الُلغة العربيّة السليمة وانتشارها وثباتها واستخدامها؛ لأن اللُغة تنتشر بالاستخدام، فإذا أحجمنا عن استخدام الفُصحى، وحتى المؤتمرات أُديّت بالعاميّة نكون قد أسدينا خدمة لأعداء العربيّة الذين يُراهنون على انقراضها وزوالها، وهذا الأمر -بإذن الله- لن يتحقق، فهذه المؤتمرات مع هؤلاء الطلبة والباحثين دعم مباشر للغة العربية الفصحى وانتشار موفق لها".
وقد عرض الدكتور محمد صابر رأيه بقوله : "أما بالنسبة لواقع اللُغة العربيّة الآن للأسف واقع رديء جدًا؛ يرجع ذلك بسبب وسائل التواصل الاجتماعي المُتقدمة؛ لذلك نجد بأن اللهجات العاميّة هي المُسيطرة، ولا توجد أي عناية باللغة العربيّة حتى في الجامعات والمؤسسات التعليميّة؛ فأصبح من الطبيعي جدًا أن نجد أساتذة لُغة عربيّة يُخطئون في اللُغة، وهذا بطبيعة الحال أمر غير مقبول ولا يجوز إطلاقًا، وتعد كارثة، والسبب في ذلك عدم وجود عنايّة كبيرة بهذه اللُغة المعطاءة؛ لذلك علينا أن نجدد كثيرًا في فهم فلسفة اللُغة من ناحية وفي طريقة الاستخدام من ناحيّة أُخرى، لكن أنا أعوّل كثيرًا على الضبط الاعرابي اللغوي، إذ لا يمكن لأديب أو لشاعرٍ أو قاص، أو حتى روائي أن يقول إنني أكتب الروايّة وهو يُخطئ في اللُغة، وهذا بطبيعة الحال أيضًا لا يجوز إطلاقًا، فلابد من اهتمام كبير لهذه القضيّة حتى نحفظ لهذه اللُغة تاريخها وجمالياتها.
كما عززت الدكتورة مريم الغافرية هذا النسق بقولها: "واقع اللغة العربية بصورة عامة يحتاج إلى إعادة طريقة الاهتمام باللغة العربية. ويدخل ضمن الاهتمام بها إقامة مؤتمرات وندوات دولية تقف على التحديات، وتستقطب الباحثين والمشتغلين بعلومها، إذ إن الحاجة للتجمعات العلمية تكسب اللغة تجددا في موضوعاتها ودراسة ومناقشة لقضاياها المعاصرة".
النص الخالد
ورد للجاحظ في كتابه الحيوان: "قد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره". إن مسألة خلود النص الأدبي لا تقوم على عامل بذاته، إنما نتيجة اتّحاد عدد من العوامل، وقد استطلعنا آراء المشاركين في المؤتمر في مسألة الخلود هذه، فيقول الأستاذ الدكتور سعيد يقطين: "مسألة خلود النص مسألة نسبية، ولا يمكن أن نتوقع أي نص يمكن أن يكون خالدًا، فبعض النصوص لا يعترف بها بداية، وتظهر قيمتها بمرور الزمن، وكثير من النصوص كانت لها قيمة خاصة في زمنها ولكن في زمن آخر لا يلتفت إليها؛ لذلك فمسألة الخلود مسألة نسبية وتتصل بخصوصية النص، والكاتب الحقيقي هو الكاتب الذي يفكر بالخلود في أثناء كتابته، ولكن عليه أن يجعل نصه قابلًا للقراءة في زمانه، ومتى ما كان قابلا للقراءة في زمانه يمكن أن يكون مقبولاً في زمن آخر".
"خلود النص مسألة تثير إشكالية كبيرة، فقد يخلد نصّ أو يعرف أو يشتهر في بلده ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز بلده أو إقليمه؛ لا يستطع أن يتجاوز مثلاً الجغرافيا العربية". هذا رأي الأستاذ الدكتور بسّام قطوس في هذه المسألة. ويضيف: "لكن النصوص الخالدة لكي تتجاوز الجغرافيا العربية وتنتشر في مناطق كثيرة لابد أن تحتوي على الكثير من الشروط، أهمها أنها تعالج قضايا الإنسان، وقضايا التحرر، وقضايا القيم والدفاع عن كرامة الإنسان، ولا تكفي المضامين فقط، فلابد من اجتماع المضمون والشكل لكي يخلد النص، فالشكل الفني يجب أن يكون متميزًا، وهذا لا يحصل إلا إذا كان صاحب هذا العمل متمكنًا من أدواته وجنسه الأدبي ولغته، ولديه رؤية إنسانية ورؤية عالمية، إذ لا يقتصر على المحلية؛ وإن كانت بعض النصوص تنطلق من المحلية. مثلا لو أخذنا الروائي المصري الكبير الحاصل على جائزة نوبل (نجيب محفوظ)، صاحب الكثير من الأعمال. وقد تتدخل أحيانا ظروف سياسية في هذا التقييم، وهناك نصوص خالدة في الأدبين العربي والإنجليزي، مثل نصوص شكسبير والمتنبي في المقابل؛ فسبب الخلود إذن من وجهة نظري تحقيق شرطين مهمين: القضية المطروحة، والشكل الفني؛ أي "الصنعتين الفنية والجمالية".
ويشير الدكتور بلقاسم مارس إلى مسألة خلود النص بقوله: "يكون النص خالدا متى توفر فيه التلقي؛ أي متى قبله القارئ وتلقاه وقرأه قراءة يستطيع معها أن يكون دومًا نصًا حيًّا خالدًا لا يزول، فجمالية النص بلغته ومعانيه وتراكيبه، وهي سمات النص الخالد، ولنا في القرآن الكريم خير مثال لبراعة تركيبه ولغته ومعانيه، كذلك بعض الشعراء الخالدة نصوصهم". وللدكتورة فوزية الفهدية رأي في ذلك، إذ تقول: "يكون النص الأدبي خالدا بمقدار تعدد قراءته وقدرته على تقديم أطروحات فكرية متجددة عن الإنسان، وكل ما يتصل به من قضايا وأفكار وتاريخ. ويكون خالدا بالانزياح نحو الرمزية والخيال التي يقدمها وفق رؤية خاصة تكتب بأسلوب مختلف ومعجم زاخر".
بل كان رأي الدكتور سالم البوسعيدي في مسألة خلود النص بقوله: "يكون النص خالدا متى ما امتص عقار الخلود، في لغته وموضوعه وحيويته وروحانية إبداعه، ويكتسب ذلك الخلود استحقاقا لا مجاملة، فبعض النصوص خلودها في قضاياها التي تعالجها، وبعضها تكتسب خلودها من لغته وفنياتها، وبعضها يجمع بين هذا وذاك عبر (نظم) بديع، و(فن) رفيع ... فالخلود يمنحه الناس للنص، بقدر ما يتعلقون به ويتعالقون معه".
اتفق الدكتور نضال الشمالي في مجمل الموضوع قائلًا: "لا شكَّ في أن هناك سمات عديدة لخلود النص الأدبيّ: أولهما جودّة النص، وثانيها مدى اتصاله بأذواق القُرّاء وحاجاتهم، وثالثها اتصال النص بالبيئة مكانًا وزمانًا، وهذه الأخيرة هي التي تصنع من النص عالميّة، ونستطيع أن نقدّمه للعالم بطريقة مناسبة جدًا، فكلّما تحدّث النص العُماني عن خصوصيّة الوطن والمكان؛ عرَّف الناس في العالم أجمع على عُمان؛ من هنا خلود أي نص ينبع من اتصاله ببيئته يكون بمراعاة أذواق القُرّاء وحاجاتهم، ويرتقي بالنصوص الأخرى".
واختتمنا مع الأستاذة شريفة التوبية وجهات النظر تجاه موضوع خلود النص الأدبي، قائلة: "حتى يكون العمل خالدًا لابد أن يكون الموضوع الذي يُناقش موضوعًا يدعو إلى الخلود. من جانب آخر لابد للمصداقيّة أن تكون واضحة في النص الأدبي، فحينما يكتب الكاتب بصدق وإيمان يصل إلى القارئ بسرعة، ويلامس مشاعره، وبذلك يُكتب الخلود لهذا النص، فبمقدار ما يؤمن به الكاتب يؤمن به القارئ".