مخاطر العولمة الإعلامية على الهوية الثقافية
كتبه الطالب: عبدالرحمن الرواحي
لقد ضاقت نفسي وحار عقلي وشرد ذهني مما أسمعه وأراه وأعايشه وأقرأه؛ لذا أقولها جازما؛ لا يخالطني شك ولا تساورني ريبة في أننا نعيش أزمةً كبرى ومصيبةَ عظمي تزداد ثقلا وتكبر حجما يوما بعد يوم، فنحن مقبلون على ما هو أشد وأنكى في عُمُر هذه الأزمة، بل جيل الشباب وأبناؤنا وبناتنا هم المكتوون بلهيبها أكثر من غيرهم، ولربما من يكبرهم سنا يتأثرون الآن بشررها. إنّها العولمة الإعلامية وتأثيرها على الهوية الثقافية في المجتمع، إذ بدت تنشر ضرباتها الموجعة وهجماتها الشرسة منظمة وغير منظمة، مقصودة وغير مقصودة، سواء داخليا أم خارجيا، أفراد أم جماعات أم مؤسسات.
إنّ العولمة ظاهرة أثّرت على العالم أجمع، وارتبطت باقتصادات وتكاملات مختلفة؛ مما جعل العلامات التجارية الكبرى تتطور في دول عديدة (الشركات العابرة للقارات)، وهنا نشير إلى أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أعاد العالم بناء عملية تدويل الأوطان ودمجها؛ باستعمال خطط واستراتيجيات مختلفة، وهذا تطوير لحدودنا الحالية وعولمة لأساسيات دعوتها.
في بداية الأمر، بدا لنا أن العولمة لها أهمية اقتصادية فحسب، إلّا أنّ تأثير هذه الظاهرةلم يكن كذلك، بل كان يؤثر أيضًا على مختلف إرهاصات الحياة؛ ولهذا السبب، فإن العولمة -من طريق تأثيرها الواسع- لديها ما يمكن تسميته بالثقافة السياسية العالمية، على سبيل المثال: احترام حقوق الإنسان، ونوعية الحياة، والديمقراطية، والتوظيف، والاهتمام البيئي، وغيرها من المسائل المدرجة في جدول الأعمال العالمي.
من زاوية إيجابية، إن أكثر خصائص العولمة عالميا قد نوجزها في: الزيادة الحادة في: التواصل ورأس المال والسلع والخدمات والمعلومات والأفكار والنماذج التقنية والثقافية. أما سلبياتها، فقد شهدنا تضخما في الثروات، واتساع مذهلا في الفجوة في قضية التهميش الاجتماعي بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة في العالم. وعند الحديث عن العولمة، ظهرت وجهات نظر كثيرة، سرعان ما قابلها دعم واعتراضات، وقد كان واضحًا تأثير هذه الظاهرة على الحياة اليومية في دول عديدة؛ لأن العولمة تحتمل أفكارا ومفاهيم متفاوتة، بيد أنها قد تبدو غير مواتية للتأثير في جميع الدول على حدٍّ سواء، وكذلك يُظهر الحديث عن العولمة فقدان سيادة بعض الدول تجاه هذه الظاهرة.
الأثر الثقافي للعولمة:
تعد الثقافة مجموعة من الأشكال والتعبيرات التي تميز مجتمعا معينا، إذ منها يمكن للمرء أن يفهم المعتقدات والممارسات، والأعراف والملابس والأديان والطقوس، وطرق العيش ونمط الحياة في كلّ المجتمع. وهكذا نرى أن الثقافة تعد مجموعة التعبيرات والتقاليد التي تميّز مجتمعا بعينه؛ ولكن كيف تتأثر هذه التقاليد والعادات عندما ينغمس المجتمع في العولمة؟ أي بمعنى أن ذلك يحدث، كما هو الحال في العديد من المجالات الأخرى، فتتأثر الثقافة بظهور العولمة في الدولة. ومنذ ذلك الحين، دخلت العادات والأفكار الجديدة مجتمعًا جديدًا منغمسا في هذا التطور، وعندما نتحدث عن تأثير العولمة على الثقافة، سوف نناقش استعمال هذه الثقافة وممارسة المستهلك لها؛ بما في ذلك استعمال بعض العلامات التجارية المعمول بها، واستهلاك الوسائط والرموز، واستخدام المشاهير للتعبير عن المجتمع.
ويعد تأثير العولمة على الثقافة والهوية الوطنية أحد أهم القضايا التي كانت -ولا تزال- تشكّل قلقًا للدول المتقدمة، نظرًا لأن بعض الدول (مثل: كندا والدول الأوروبية) لا تزال تعاني من هذا الهاجس، بل إنها تشعر بالقلق من الثقافة الأمريكية الغارقة في مجتمعها، خوفا من أن تصبح نسخة مكررة من الولايات المتحدة؛ حتى لا يطمس الواقع هويتها الثقافية، ويصبح قياسا على ذلك عدم امتلاك ثقافة خاصة تعزز كيانها دولة ذات سيادة مستقلة؛ لأن الثقافة الوطنية مهمة لتنشئة شخصية ثقافية مستقلة، وجسرا لتوسيع التفاهم الخارجي والتعاون والثقة بالنفس والسلام.
إن معالم تسارع الدول في تسجيل تراثها الثقافي والحضاري في منظمة اليونسكو العالمية، مثال بارز يوضح أهمية حفاظ الدول على منجزاتها، خصوصا في ظل الثورة الرقمية التي أتاح للعالم التعرّف إلى ثقافات الآخرين دون حدود. لِنطالع مثلا قضية اختراق العولمة للثقافة العربية، وما أحدثته من تغييرات ثقافية في السنوات الأخيرة، ليعيد جدولة المعايير والأيديولوجيات المرتبطة بالقيم والسلوكيات والعادات تحت سيطرة غربية كبيرة؛ وذلك باستثمار أدواتهم في مجالات ثورة الاتصالات والمعلومات؛ مما أدى إلى ظهور قيم دون مرجعية في ثقافتنا العربية خالصة ... وقد أفرزت هذه الإرهاصات ارتباكا وفقدانا للتوازن في الهوية الثقافية خلّف وراءه إشكالات جوهرية في هذا الشأن.
لعلّنا يجب أن ندرك أن التمسك بالهوية الوطنية وصف للمخزون النفسي لتراكم التراث وتفاعله مع الواقع؛ لذا فإن انتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى في سياق من سياقات النهضة والتطوّر، لا يعني بالضرورة انفصال عن الماضي، إنما استمرار لحضارته بما يتوافق مع احتياجات هذا العصر.
ختاما ...
إن نجاح أي مجتمع في الحفاظ على هويته والدفاع عن خصوصيته يعتمد على عمق المشاركة الواعية في تبعات العصر التكنولوجي المعيش؛ وذلك بتبني الإمكانات ذات الأثر الإيجابي التي توفرها العولمة نفسها؛ أي لا يجب أن أكون أمريكيًا أو فرنسيًا أو أيًا كان، بل يجب أن أحافظ على هويتي وثقافتي وعاداتي وأخلاقي دون ترك الاستفادة من الازدهار العلمي والثقافي في شتى المجالات الذي تجلبه العولمة.