التحول الرقمي في مؤسسات التعليم العالي
د. رضية بنت سليمان بن ناصر الحبسية
أستاذ الإدارة التربوية المساعد بقسم التربية والدراسات الإنسانية – كلية العلوم والآداب
شهدت مؤسسات التعليم في الألفية الثالثة تحديّات جمّة وتطورات متسارعة، فرضت عليها حتمية الاستجابة لتلك المستجدات لضمان البقاء والاستمرار؛ لذا نجد أن التحول الرقمي أصبح أمرًا لازمًا وحتميًا في هذه المؤسسات. ويُعد التحول الرقمي تطورًا استراتيجيًا يؤثر على جميع الجوانب الأساسية للتعليم العالي، بدءًا من التخطيط وصولًا إلى التنفيذ والتقويم؛ ولذلك، تتحمل مجالس الحوكمة والإدارة مسؤولية كبيرة لاستيعاب هذا التحول والتعامل مع التحديات والفرص التي يمكن أن تعزز من فرص التطوير المستمر، وتوفير بيئة تعليمية تفاعلية تستوعب التقدم التقني والرقمي. وفي هذه المقالة، سنحاول التركيز على التحول الرقمي في إدارة مؤسسات التعليم العالي.
ويشير التحول الرقمي Digital Transformation إلى دمج التكنولوجيا الرقمية في جميع مجالات المؤسسة، وإجراء التغييرات اللازمة الاستراتيجية والثقافية والتنظيمية والتشغيلية، ومواكبة المستجدات العالمية، وتلبية تطلعات وتوقعات المستفيدين، ومنه تحقيق الميزة التنافسية محليا وعالميا. وفي قطاع التعليم يشير مفهوم التحول الرقمي، إلى استعمال التكنولوجيا الرقمية والوسائط المتعددة لتحسين عملية التعلم والتدريس والإدارة؛ بهدف تعزيز الوصول إلى المعرفة وتنمية مهارات الطلبة في العصر الرقمي، في حين يُشير مفهوم التحول الرقمي في إدارة مؤسسات التعليم العالي إلى استعمال التكنولوجيا الرقمية والتحول من الأساليب التقليدية إلى التقنيات الحديثة في إدارة مؤسسات التعليم العالي.
ويعد التحول الرقمي في مؤسسات التعليم العالي توجهًا مهمًا، تتمثل أهميته في تعزيز الكفاءة وتحسين جودة الخدمات الأكاديمية والإدارية، وتحسين إدارة البيانات والمعلومات وتحليلها؛ لاتخاذ قرارات استراتيجية مستنيرة. كما يوفر التحول الرقمي فرصًا واسعة تتمثل في تحسين الوصول إلى التعليم والموارد التعليمية، كذلك توفير فرص التدريب والتنمية المهنية الرقمية، بالإضافة إلى تعزيز التعلم التعاوني والتفاعلي مع المختصين والمهنيين في مجالات مختلفة، وتوفير فرص التعلم عبر شبكة المعلومات والتعليم عن بُعد، كذلك تعزيز مهارات الطلبة الرقمية، فضلًا عن تسهيل عملية التواصل بين أعضاء هيئة التدريس والإدارة والطلَبة وأولياء الأمور.
بالإضافة إلى ما تقدم، فإن التحول الرقمي يحقق تكاملًا وتعاونًا مع مؤسسات التوظيف في سوق العمل؛ بتوفير البرامج التعليمية المتخصصة والتدريب العملي والتوجيه المهني للطلبة المنتسبين إليها، وملاءمة مخرجاتها مع متطلبات سوق العمل. كذلك فإن التحول الرقمي يسهم في تحقيق نوع من الاستدامة البيئية، في الانتقال إلى الوثائق الرقمية، وتنفيذ البرامج والورش التدريبية عن بُعد، واستعمال المنصات الرقمية في عقد اللقاءات والاجتماعات المهنية، والتواصل عبر البريد الإلكتروني، كل ذلك يُساعد في الحفاظ على بيئة تعليمية مستدامة، ناهيك عن تطوير قدرات أعضاء هيئة التدريس والعاملين كافة في استعمال التكنولوجيا والتعامل معها بفعالية.
ويتضمن التحول الرقمي في إدارة مؤسسات التعليم العالي جوانب عدة، أهمها: البنية التحتية الرقمية، وتوفير الأجهزة والشبكات والبرمجيات المناسبة لتنفيذ العمليات الرقمية، وتطوير التعلم الرقمي، بتكييف الدروس وتقديم المحاضرات للتعلم عبر شبكة المعلومات، واستعمال تقنية الواقع الافتراضي والواقع المعزز، إذ يسمح للطلبة بتجربة ومحاكاة واقعية وتفاعلية لتعزيز عملية التعلم. كذلك فإن التحول الرقمي يجوّد عملية جمع البيانات والمعلومات الفنية والإدارية وتخزينها وإدارتها، وتحسين العمليات الإدارية في كافة مجالات العمل الأكاديمي.
وللتحول الرقمي تأثير على العملية التعليمية أيضا في مجال التعلم الذكي والتحليلات التنبؤية؛ بتوظيف الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط السلوك الأكاديمي، والكشف عن التصرفات المشبوهة في استخدام البيانات، والبحث عن حلول وطرق لمعالجة تلك السلوكيات غير الأخلاقية، وذلك لتحقيق النزاهة الأكاديمية وفق معايير الجودة الشاملة في التعليم. كذلك في مجال تقييم وتقويم عمليتي التعليم والتعلم، إذ يمكن ابتكار أنظمة تقييم تفاعلية رصينة، تتواءم والتعلم الرقمي أو التعلم عن بُعد؛ لضمان نزاهة الاختبارات والتقييمات ومكافحة سوء السلوك الطلابي الأكاديمي.
إن التحول الرقمي في إدارة مؤسسات التعليم العالي، لا يخلو من تحديات قانونية وأخلاقية؛ لذا يتطلب تطبيقه جاهزية تامة، تتمثل أبرزها في حماية البيانات الأكاديمية والمعلومات الإدارية، وكذلك البيانات الشخصية لمنتسبي المؤسسة، وضرورة توفير إجراءات أمنية قوية لمنع انتهاك الخصوصية. بالإضافة إلى سن قوانين واعتماد لوائح صارمة، تحفظ سرية البيانات، وفي نفس الوقت حق الاستعمال الآمن للتكنولوجيا، وأيضا مكافحة اختراق البرامج والأنظمة الرقمية الجامعية، أو التلاعب بالبيانات وإخفاء المهمة منها لمصالح شخصية.
كما قد يواجه التحول الرقمي، كأي استراتيجية حديثة، تحديات بشرية تتمثل في مقاومة التغيير، إما اتجاهات سلبية نحو التحول الرقمي بالاستغناء عن العنصر البشري واستبداله بالآلات والتقنيات الحديثة، أو خوفًا من اكتشاف القصور في المهارات للتعامل مع التكنولوجيا الرقمية، والبحث عن موارد بشرية أكثر كفاءة وتمنكنًا من توظيف التقانة، وهذا الأمر يتطلب حتمًا العمل على تشجيع العاملين كافة وأعضاء هيئة التدريس، خاصة للتحول الرقمي بالتركيز على فوائده على المستوى الفردي والمؤسسي، والعمل على تمكينهم في التعامل مع الأوعية الرقمية بِتدريبهم وتطوير مهاراتهم، وتقديم الدعم الفني اللازم بشكل مستمر، والدعوة إلى تفعيل مجتمعات التعلم المهنية لتبادل المعارف والخبرات بين العاملين أنفسهم في توظيف البرامج والمنصات في العملية التعليمية التعلّمية والعمليات الإدارية المرتبطة بها.
وعلى الرغم من تلك التحديات، فَالتحول الرقمي في إدارة مؤسسات التعليم العالي يسهم في تحسين مستوى الشفافية؛ باستعمال أنظمة الذكاء الاصطناعي في إدارة المعلومات والبيانات الرقمية، ومن ذلك إتاحة مساحة واسعة لمشاركة الجميع في الإدلاء بآرائهم ومقترحاتهم، والإسهام في صنع القرارات واتخاذها. كذلك فإن تعزيز مستوى الشفافية يحسن من فرص الوصول إلى الوثائق والتقارير المهمة عبر روابط رقمية تعتمدها الجامعة، متاحة لجميع منتسِبيها والمستفيدين من خدماتها، بما يمكنهم من متابعة القرارات والمستجدات في المؤسسة. كما يعزز التحول الرقمي في إدارة مؤسسات التعليم العالي من مستوى المحاسبية، من طريق أنظمة محوسبة تسهل عملية تتبّع العمليات الإدارية والمالية بدقة؛ مما يساعد على اتخاذ قرارات حكيمة استنادًا إلى معلومات وأدلة دقيقة وموثوقة.
ولِضمان تحقيق العوائد والمزايا من التحول الرقمي، وتحقيق التحول الرقمي بسهولة ويسر، لا بد لمؤسسات التعليم العالي أن تتبنى هذا الاتجاه؛ باعتماد خطة استراتيجية تطويرية شاملة، محددة الأهداف والإجراءات اللازمة، وكذلك الأدوار والمسؤوليات، وتوفير الموارد البشرية الملائمة، والموارد المالية الكافية، على أن تكون تلك الخطة الاستراتيجية من المرونة؛ بحيث تتيح للمؤسسة التكيّف مع التحديات والتغيرات المستمرة، والاستفادة من الفرص المستحدثة في مجال التعليم العالي.
ولتنفيذ التحول الرقمي، يجب توفير فرص التدريب وتوفير الدعم الفني اللازم الذي يساعد أعضاء هيئة التدريس على اكتساب المعارف والمهارات لِتكييف أساليب التدريس وطرق التواصل مع الطلبة في البيئة الرقمية، كذلك توفير الدعم الفني اللازم عبر فرق عمل ممكنة لحل المشكلات والتحديات المرتبطة بالتقانة وتفعيل المنصات الرقمية، مع ضرورة إنشاء منصات افتراضية لتعزيز التواصل والتعاون بين كافة المستفيدين؛ لتبادل التجارب والخبرات في استعمال الأدوات الرقمية في التعليم وتوظيفها.
وفي الختام، يُمثل التحول الرقمي في مؤسسات التعليم العالي فرصًا وتحديًّا في الوقت نفسه، يتطلب التكيّف من المستحدثات التكنولوجية، واستثمار الجهود والموارد المتاحة في تطوير البنية التحتية الرقمية، وتعزيز القدرات الرقمية للمؤسسة؛ لتطبيق الإدارة الاستراتيجية بكفاءة وفعالية، وذلك بالتحليل البيئي الرباعي الرقمي لنقاط القوة والضعف والفرص والتحديات، واتخاذ القرارات الاستراتيجية المناسبة للتحسين والتطوير المستمر. علاوة على ذلك تحقيق تعليم عالي الجودة، وتلبية احتياجات الطلبة وطموحاتهم المستقبلية، وتمكينهم من تحقيق القدرة التنافسية، والإسهام الفاعل في تحقيق التنمية المستدامة للمجتمع بكافة أبعادها ومجالاتها.