السنة 18 العدد 172
2023/10/01

نظرية (أنا هو نحن)


 

 

 

د. محفوظة بنت راشد المشيقرية 

أستاذ مساعد واستشارية بمركز الإرشاد الطلابي

 

ذات يوم، وقفت أراقب من النافذة وأتابع مجموعة من عمّال البناء يعملون لساعات وساعات في حركة دائبة كخلية نحل، بشكل آلي عجيب، والمجمع السكني يرتفع كل يوم طوابق جديدة، وتكتمل طوابقه من عمل الآخرين في كل طابق، فبعضهم متجاورون، وبعضهم فرادى، ولكن العمل يسير نحو الكمال في نظام جعلني أتأمله بِإعجاب. 

جعلني هذا أفكر كيف أن كلّا منهم يضيف إلى عمل الآخر بعمله هو، ونِتاج عمل الجميع ذلك البناء الذي تكتمل صورته حتى تأتي لحظة الختام، فنجد أنفسنا أمام تحفة معمارية جميلة كاملة تسلب الألباب وتسرّ العيون، وتخيلت لو أنه حدث تقصير من أحدهم ولم يقم بما طُلب منه، كيف سيكون الحال، وهل ستسير الأمور إلى الكمال المرغوب؟! وقفزت في ذهني جملة أعجبتني كثيرًا هي (أنا هو نحن).

جلست مع خواطري أتأمل هذه المنظومة الأساسية في الكون (أنا هو نحن)، وتعجبت كثيرًا من أنها اللبنة الأساس لحياة البشر، فلم يخلق الله أي شئ ليكون وحيدًا، أو ليكون بلا قيمة مضافة في الحياة أبدًا. إنّ الإنسان منذ أن خلق الله سيدنا آدم وإلى يوم القيامة، مجرد جزء من كيان كبير اسمه (الكون) هذا الكون وحدة واحدة، يتكون من جزيئات كثيرة، وكل جزء منها وحدة مستقلة، تتكون بدورها من جزيئات كثيرة. تساءلت: ماذا لو انصهرنا جميعًا في (أنا هو نحن) من طريق الحب والرضى والتعايش والسلام والعون؟ ألن تكون النتيجة دائمًا إبداعية؟

لو أن كل واحد فينا تمعن هذه النظرية بالطريقة الصحيحة التي يعمل على أساسها كياننا الروحي، ويتحرر من السجن الذي يحيط نفسه فيه، لو حاول كل إنسان توسيع دائرة الحب في حياته، لتشمل جميع المخلوقات والكائنات الحية والطبيعية بكل ما فيها من جمال، لعشنا في سعادة وحب وسلام مع أنفسنا ومع غيرنا، بعيدا عن الحروب البشرية التي تنعكس في تصرفاتنا في هذه الحياة.

عزيزي القارئ…

قبل أن أطلب منك تأمل ما حولك، أوصيك بتأمل ذاتك والتفكير فيها؛ لأنك ستجد أمورًا عجيبة تدل على نظرية (أنا هو نحن)، ستجد أن جفون عينيك تعيش فيها العديد من الكائنات الدقيقة التي تعمل في انسجام مع الجميع، وستعرف أن الجدار الداخلي لِأمعائنا الغليظة بها الملايين من مختلف الأنواع من الميكروبات الحية التي لها خصائص فريدة تميزها عن غيرها، وهي تمثل جزءًا من الإنسان ككل، وستجد أن جميع خلايا جسم الإنسان بدءًا من فروة الرأس، إلى القلب والكبد والبنكرياس والجلد والأظافر ... إلخ، جميعها مفعم بالحياة وتعمل في انسجام مع الكل الذي نسميه "أنا"، نعم في الحقيقة "أنت وأنا" شخص واحد هو "نحن".

عزيزي القارئ…

لو عدت بأفكارك إلى الوراء، ووجدت أن هناك جزءا مفقودا من كيان البشرية، ستجد أن هذا الفراغ يوضح مدى أهمية كل منا، فأنت وأنا نجعل كيان البشرية يكتمل.

أرى أن علينا جميعًا أن ننسجم مع الكيان الكلي حتى نحقق التوافق والتوازن في هذا الكون الواسع ... وقد تقول هنا عزيزي: إن ما أتحدث عنه يتناقض مع مبدأ التميز أو التفرد، ولكن دعني أطمئِنك بأن نجاح الكل من نجاح الفرد، وأنك تستطيع التميز والنجاح من طريق تميّز الآخرين معك.

إن واقع الحياة، يعكس حالات كثيرة قد تعوق اكتمال منظومة (أنا هو نحن) وتؤدي إلى خلله وعجزه، مثلاً: إن كان الموظف يحتكر المهام أو بعض اللجان أو السفرات لنفسه دون مبادرة منه بمشاركة زملائه أو انزعاجه من مشاركتهم فيها، فهذا يعني أن هذا الموظف الذي يبرز ذاته على حساب غيره، أو يعمل لأجل وحدته ناسيًا أنّه يمثل منظومة بأكملها، وأنه يدمر بذلك المنظومة كتلك الطريقة التي تدمر فيها الخلية المريضة كل شيء في طريقها، وهذا مثله مثل الأم التي توصي أبناءها بعدم مساعدة زملائهم في الدراسة، أو مثل الطالب الذي يدعي عدم المعرفة حتى لا يساعد أو يقدم المعلومات لغيره، وأيضًا مثل العديد من الطلبة الذين يشتكون على غيرهم بغية مقاصد شخصية، وحالهم حال الكثير من الأشخاص الذين يحتكرون التجارب لأنفسها بغية التميز المرضي.

 

ختامًا ...

أجد أنه بمقدورنا سبر أغوار الروعة الكامنة في رؤية (فكرة الكيان الواحد ككل كامل) دون تهديد فرديتنا، وهذا كله يتلخص في الحب، وسَأكمل معكم هذا المعنى حول الحب في مقال قادم بإذن الله.



إرسال تعليق عن هذه المقالة