مرضٌ جاهليٌّ
كتب: داؤد بن سليمان الظفري
خريج في جامعة نزوى
إن من الأمورِ العجيبة في حياة الكثير من المسلمين، أن ترا بعضا منهم متمسّكًا بالتشريعات الإسلامية ومتعصّبًا تجاه من يخالفها، إلا أنه عندما يصلُ إلى الأمرِ أو النهي الذي يجب أن يتمسك به ويتبعه، حسبما أرادته الشريعة الإسلامية والأوامر الإلهية، فإنه لا يفعلُ ذلك، وإنما يتّبِعُ هواه ونفسه الأمّارة بالسوء وقلبه الذي يحملُ كبراً وغرورا، وأخصُّ هنا بالذكرِ ما يتعلق بالعنصريِّة والتعصب القبلي، الذي يتميز بالتفضيل والتمييز لصالح قبيلة معينة أو مجموعة عرقية وتجاهل أو استبعاد الآخرين وتشويه سمعتهم وكرامتهم، وتقييمهم سلبيًا؛ بناءً على أمور خارجة عن إرادتهم، كلون البشرة والأصل والنسب.
ويُعدُّ هذا من الظواهر السلبية التي تؤثر على العديد من المجتمعات في العالم؛ فهو سببٌ في تفكيك الوحدة الوطنية، وتشجيع التوترات بين المجموعات القبلية المختلفة، وتعزيز العداوة والكراهية، وتشتت وحدة الأمم والمجتمعات، وله أبعادٌ خطيرة، فإنهم في كثيرٍ من المواقف الأسرية والاجتماعية والدوليةِ أيضًا، يقومون بتقسيم الناس إلى طبقاتٍ معدودة، وتصنيفهم إلى أصنافٍ مختلفة، ويرقّمونهم أرقامًا عجيبة، من أعلى طبقةٍ إلى أدنى طبقة، وكأنهم قد أُمِروا بذلك، وكأن الرب قد أعطاهم هذه التصنيفات التي ابتدعوها. ومن العجيب أن ترا حدوث ذلك حتى بين الجماعة أو القبيلة الواحدة، مع أنهم يعلمون علم اليقين بأنهم خُلِقوا من ترابٍ واحد، وأتوا من صُلبٍ واحد، وسيعودون إلى مكانٍ واحد، ثم يبعثهم الله جميعًا فينبئهم بما كانوا يعملون، ويقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، إلا أن هؤلاء قد اشتغلوا بسلامة العبادات الظاهرة، وغَفلوا وتَغَافلوا عن سلامة العبادات الباطنة التي لها أثر عظيم في كيفية تعامل الفرد مع العبادات الظاهرة، ولها كذلك أثر في تعامل الفرد مع الأفراد والجماعات.
وعند الحديث عن الزواج، أو المكانة الاجتماعية وما يتعلق بالجاه والمنصب ومن يُعتمد عليه في القبيلة، يأتون بأدلة من القرآن والسنة ويقومون بتأويلها وتفسيرها حتى تكون حُجّةً قويةً في كلامهم، بأن ينسبُوا المكانة العليا والنسب الأصيل والطاهر من العبودية وغيرها من الأفكار السلبية إلى من يرونه حسب المعايير والمقاييس التي اتخذوها من أهوائهم الضالة وأنفسهم المتعالية، نسوا وتغافلوا عن كل الأدلة التي تتحدث عن سلامة القلوب وعدم التفريق بين العربيِ والأعجمي، والأبيضِ والأسود، كقوله تعالى :{إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِيمࣲ} [الشعراء:89]، وقوله سحبانه: {... إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ..}[الحجرات:13]، نسوا أمر الرجل الذي بشره الرسول ﷺ في الجنة، وتعجّب الصحابة عن سبب هذه البشارة، وكان الرسول يعلم من طريق الوحي أن هذا الرجل ينام وقلبه سليمٌ مطهّرٌ من أمراض القلب كالكبر والحقد والحسد، نسوا وتناسوا أمر الصاحبي الجليل بلال الذي سَمِعَ الرسول ﷺ قرع نعليه في الجنة، وقد كان مؤذن الرسول ذا بشرة سوداء، وكان عبداً مملوكاً عند أحد مشركي قريش، وقصته مع أبي ذر حينما عيّره بأمه حين قال له: "يا بن السوداء"، فغضب الرسول من هذا الفعل، وقال: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، وذهب أبو ذر لبلال وهو يبكي ووضع رأسه في التراب حتى يُسامحه بلال. نسوا وتناسوا أمر سيد التابعين أويس القرني الذي تحدث عنه الرسول ﷺ وأخبر عمر بن الخطاب أن إذا استطعت أن يستغفر لك فافعل، وأويس رجل فقير ذو بشرة سوداء وبه برص ... هؤلاء وغيرهم الكثير ممن كانت لهم المكانة العليا والمنزلة القريبة من ربهم بسببِ سلامة صدورهم واتصافهم بالمعنى الحقيقي للتقوى، ولم يكن هناك أيُّ معيارٍ أو شرطٍ للنسب والمكانة ولون البشرة، فيا ليت هؤلاء الناس الذين تلوثت قلوبهم بهذه الأمراض الشيطانية، وتشتت عقولهم بالأفكار اللا عقلانية، أن يتفكّروا في أنفسهم، من هم؟ وما الفرقُ بينهم وبين أولئك الذين يستحّقِرونهم ويرونهم أُناسًا لا قيمة لهم في الحياة؟ وأن يرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه ويستغفرونه، ويعاملون الآخرين بعدلٍ وإنصافٍ كما أمرهم ربهم سبحانه وتعالى، حتى لا يأتي يوم القيامةِ ويجدون أنفسهم في فريق المنافقين والعصاة، ممن حسبوا أنهم كانوا يُحسنونَ صُنعا، وأنهم هم الأفضلُ إيماناً وتقوى، ويصدق فيهم قول ربهم عز وجل: { قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَـٰلًا(103)ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا}[الكهف:104].
إن الذي لديه هذا النوع من التعصُّب، يعيشُ دائمًا في دوامةٍ من الغضب والحقد والحسد، فهو دائمًا ما يُراقب حياة الناس الذين يُعامِلهم بتعصّبٍ عنصريٍّ أو قبليّ؛ لأنه لا يقبل أن يراهم في خيرٍ وسلامٍ ورفعة، بل يحب أن يكونوا في منزلة الذل والحاجة، ولا يكتفون بأنفسهم بل يلجأون إلى من هو أعلى منهم جاهًا ومنصبًا ومالا، وهذا ليس من الدين في شيء؛ بل هو جهل وابتعادٌ عن تعاليم الإسلام الحنيف الذي أمر بالعدل والإنصاف، وعدم اتخاذ القبائل أو الأعراق والأجناس والألوان مقياسًا للتفضيل والتكريم، وإنما اتصاف الإنسان بالمعنى الحقيقي للتقوى والإيمان الصادق هو المقياس الرباني الذي يميز مكانته في الحياة الدنيا والآخرة. فيجب على الإنسان المسلم أن يطهّر قلبه من مثل هذه الأمراض القلبية الشيطانية، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل، بل يجب على المجتمعات أن تعمل على تعزيز ثقافة التعايش والاحترام المتبادل بين الأفراد، دون النظر إلى خلفياتهم العرقية والقبلية، كما يجب أن تكون المؤسسات التعليمية والسياسية والإعلامية أدوات لنشر ثقافة التفهم والتسامح والعدل والمساواة والاحترام لجميع الأفراد دون تمييز، أما على المستوى الفردي فعلى الإنسان أن يعلم بحقيقته ونشأته الأولى وضعفه في جسده وقوته كسائر الخلق أمام قدرة خالقه المالك لكل شيء، أن يعلم بالمصير الأخير الذي سيؤول إليه، وهو الموت كسائر المخلوقات على هذه الحياة، أن يعلم بأن جميع الناس نسبهم وأصلهم يرجع إلى أبٍ واحد وأمٍ واحدة وهما آدم وحواء، أن يعلم بالنتائج السلبية التي ستؤثر على حياته الخاصة والاجتماعية في الدنيا والآخرة؛ نتيجة اتصافه بهذه الصفات المذمومة، وأما العمل فعليه أن يسعى جاهدًا على قطع كل ما هو أصلٌ في نشأة هذه الأمراض القلبية والابتعاد عن كل ما يُغذّيها ويجعلها موجودة وحاضرة في نفسه وتعامله مع الآخرين، أن يعمل على الإحسان إلى الآخرين من الفقراء والمساكين والمحتاجين، والتواضع في محادثتهم ومجالستهم حتى تنكسر النفس، ويتطهّر القلب، ويأتي يوم القيامة فيلقى ربه بقلبٍ سليم.