السنة 18 العدد 170
2023/07/01

التفكير الإبداعي (1): "مفهومه وتعريفاته"

مستل من أطروحة الدكتوراه الخاصة بالكاتب

 

 


 

 

د. محمد بن ناصر بن سيف الريامي

أستاذ مساعد مناهج الرياضيات وطرائق تدريسها 

كلية العلوم والآداب

قسم التربية والدراسات الإنسانية

 

      إن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع يتسم بالتطور السريع الهائل في جميع نواحي الحياة، فكل ما توصل إليه العلم من مكتشفات حديثة، ومخترعات متقدمة، ما هو إلا خلاصة أفكار قام بها أفراد مفكرون مبدعون، احتضنتهم المدرسة التي تعد بيئة خصبة لتنمية التفكير والسمو به بعد الأسرة، فالمدرسة والبيت يعملان بصورة تكاملية لبلورة تفكير الطفل وتوجيهه الوجهة الصحيحة، وما ذلك إلا لأهمية التفكير لكل شخص، حتى يصبح شخصا مفكرا منتجا يرفض التقليد ويسعى إلى التحديث والابتكار.

        ويبرز التفكير الإبداعي من بين أهم أنماط التفكير المطلوب توافرها لدى الأفراد، ويعد الإبداع أحد أهم الأهداف التربوية التي تسعى المجتمعات إلى تحقيقها لدى أفرادها. (زيتون، 1987 : 5).

     والأفراد المبدعون، الذين يجب أن تسعى المدرسة إلى تزويد المجتمع بهم، هم أفراد يتميزون بالانطلاق والحرية الفكرية، ولديهم القدرة على فعل أشياء جديدة ذات قيمة للمجتمع، ويشير تاريخ الجنس البشري إلى أن الإبداع له جذوره العميقة، ومن دلائل قدرة الإنسان على الإبداع تطور الحياة على الأرض منذ اكتشاف النار إلى اختراع الحاسب الآلي، وشبكة المعلومات العالمية، والتطورات الهائلة والمتجددة كل يوم. (المفتي، 1995).

  وقد أشار كل من العلماء المحدثون توارنس Torrance وجليفورد Guilfourd إلى أنه لا يوجد شيء يمكن أن يسهم في رفع مستوى رفاهية الشعوب والأمم، وتحقيق الرضا والصحة النفسية، أكثر من رفع الأداء الإبداعي لدى هذه الشعوب. (الطواب، 1986)

وبالنظر أولا إلى مفهوم التفكير، فقد تعددت تعريفاته، وتشعبت مفاهيمه وفقا لفكر من عرفه، ولِلمدرسة التي ينتمي إليها، فلو نظرنا إلى تعريف التفكير لغة، سنجد أن المعجم الوسيط يرى "أن التفكير من مصدر فكر أي فكر في الأمر، يفكر فكرا، أعمل العقل فيه، وأفكر في الأمر أي فكر فيه، فهو مفكر، وهو إعمال العقل في مشكلة بغية التوصل لحلها". (أنيس وآخرون، 1972). أما ابن منظور فيرى في كتابه لسان العرب، "الفكر هو الخاطر في الشيء، والتفكير هو التأمل". (ابن منظور، 1994). أما تعريفه في قاموس ويبستر (Webster) فهو "الفكر والتعرف والتأمل والحكم والتخيل، والعقل والنشاط العقلي، وهو ملكة الفكر القادر على تنظيم تسلسل الأفكار". (Webster, 1972)

 

        هذا وقد عرف باير (Beyer,2001) التفكير على أنه "عبارة عن عملية عقلية، يستطيع المتعلم من طريقها عمل شيء ذي معنى من خلال الخبرة التي يمر بها". في حين يرى ويلسون (Wilson , 2003) أنه "يمثل عملية عقلية يتم من طريقها معرفة الكثير من الأمور وتذكرها وفهمها وتقبلها". بينما اعتقدت هايمان وزميلها سلومياتكو(Heiman & Slomionko , 1987) أن التفكير عبارة عن "عملية نشطة تشتمل على أحداث كثيرة تتراوح ما بين الأحلام اليومية العادية والبسيطة إلى حل المشكلات الصعبة والمعقدة، وأنها تشكل حوارا داخليا مستمرا، ومصاحبًا لأفعال متعددة، مثل القيام بواجب معين أو ملاحظة منظر ما أو التعبير عن وجهة نظر محددة". 

      ويرى ديبونو (Debono,1985) أن التفكير هو "العملية التي يمارس الذكاء من خلالها نشاطه على الخبرة "، أما كوستا (Costa,1985) فيعرف التفكير على أنه "المعالجة العقلية للمدخلات الحسية بهدف تشكيل الأفكار من أجل إدراك المثيرات الحسية والحكم عليها". ويرى باريل (Barell,1991) أن التفكير بمعناه البسيط "يمثل سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عند تعرضه لمثير ما بعد استقباله من طريق إحدى الحواس الخمس"، أما بمعناه الواسع فهو "عملية بحث عن المعنى في الموقف أو الخبرة".

      أما قطامي (2001) فتعرف التفكير على أنه "عملية ذهنية يتطور فيها المتعلم من خلال عملية التفاعل الذهني بين الفرد وما يكتسبه من خبرات، بهدف تطوير الأبنية المعرفية والوصول إلى افتراضات وتوقعات جديدة".

      وقد عرفته موسوعة علم النفس التربوي أنه "كل نشاط ذهني أو عقلي يتضمن سيلا من الأفكار، تبعثه وتثيره مشكلة أو مسألة تحتاج إلى حل، فهو لا يحدث إلا إذا سبقته مشكلة تتحدى عقل الفرد، فَالتفكير مفهوم افتراضي يتضمن سيلا غير منظم من الأفكار والصور والذكريات والانطباعات العالقة في الذهن" (رزق، 1977).

     أما العتوم وآخرون فيرى أن التفكير هو "نشاط معرفي يعمل على إعطاء المثيرات البيئية معنى ودلالة من خلال البنية المعرفية، لتساعد الفرد على التكيف والتلاؤم مع ظروف البيئة" (العتوم وآخرون، 2007).

   ويرى سعادة أن التفكير عبارة عن "مفهوم معقد يتألف من ثلاثة عناصر تتمثل في العمليات المعرفية المعقدة، على رأسها حل المشكلات وَالأقل تعقيدا كَالفهم والتطبيق، بالإضافة إلى معرفة خاصة بمحتوى المادة أو الموضوع مع توفر الاستعدادات والعوامل الشخصية المختلفة، ولاسيما الاتجاهات والميول". (سعادة، 2003).

               هذا وبالنظر إلى التعريفات الواردة نجد أن معظم الذين تناولوا التفكير اعتبروه عمليات عقلية قائمة على المعلومات المعرفية المكتسبة من الخبرة مثل باير(Beyer,2001)، ويلسون(Wilson , 2003) وهايمان وزميلها سلومياتكو(Heiman & Slomionko , 1987) وقطامي(2001)، إذ إنهم يرون أن التفكير له علاقة قوية بالخبرة، فهو يستمد منها استجابته للمواقف المختلفة، ومنهم من ربطَه بِالتعلم، فَالتعلم قائم على التفكير، فالشخص إذا لم يفكر سيكون تعلمه ضعيفا إن لم يكن نادرا، وهذا التعلم الذي أساسه التفكير يهيئ الإنسان للتكيّف مع الظروف البيئية المحيطة مثل ما يفهم من تعريف العتوم وتعريف سعادة.

          ويرى الباحث أن التفكير هو عبارة عن عمليات عقلية تحدث في الدماغ، إثر مثيرات مكتسبة عدة من طريق الحواس، تظهر نتائج تلك العمليات في الاستجابة التي يقوم بها المفكر.

أما بالنسبة لمفهوم التفكير الإبداعي فقد تعددت تعريفاته أيضا من قبل التربويين والمتخصصين، فقد عرف جيلفورد (Guilford,1967) المشار إليه في (سعادة، 2003) التفكير الإبداعي على أنه تفكير في نسق مفتوح يتميز الإنتاج فيه بخاصية فريدة تتمثل في تنوع الإجابات المنتجة، التي لا تحددها المعلومات المعطاة. كما عرفه ليفين (Levin,1976) المذكور في (قطامي، 2001) على أنه القدرة على حل المشكلات في أي موقف يتعرض له الفرد، بحيث يكون سلوكه دون تصنع وإنما متوقع منه.

    أما هوينج (Honig, 2001) فيعرفه على أنه التفكير المتشعب الذي يتضمن تحطيم وتقسيم الأفكار القديمة، وعمل روابط جديدة، وتوسيع حدود المعرفة، وإدخال الأفكار العجيبة والمدهشة؛ أي توليد أفكار ونواتج جديدة من طريق التفاعل الذهني، وزيادة المسافة المفاهيمية بين الفرد وما يكتسبه من خبرات. ويعرفه أولسون (Olson,1999) بأنه عملية ذهنية يتم فيها توليد وتعديل الأفكار من خبرة معرفية سابقة، كما يشير إلى القدرة على تكوين أفكار جديدة، باستخدام عمليات عقلية أهمها التصور والتخيل.

         ويعرفه دينكا (Dinca,1997) على أنه عملية ذهنية تهدف إلى تجميع الحقائق ورؤية المواد والخبرات والمعلومات في أبنية وتراكيب جديدة؛ لإضافة الحل. أما تيرنر(Turner,1994) فيعرفه أنه محاولة البحث عن طرق غير مألوفة؛ لحل مشكلة جديدة أو قديمة، ويتطلب ذلك طلاقة الفكر ومرونته.

     أما نوريس وأنيس (Norris&Ennis,1989) فيرى أنه نمط تفكيري حساس للمعايير ومتجاوز للذات (مفعل للذات) ومحكوم بالسياق واستدلالي، وقد يكون تأمليا وغير تأملي. ويعرفه ليبمان (Lipman,1991) على أنه من مكونات (صيغ) عالي الرتبة؛ كونه يمثل مهارة التفكير عالية الرتبة، ويتطلب مصادر معرفية متعددة في حالة التعامل مع المهمة الصعبة، بحيث يكون هناك إمكانية عالية نحو الفشل. أما ميدر (Meader,1998) فيعتقد أن التفكير الإبداعي هو نمط تفكيري مكون من عنصرين هما: التفكير المتقارب (Convergent thinking) الذي يتضمن إنتاج معلومات صحيحة ومحددة تحديدا مسبقا أو متفق عليها، إذ تتدنى الحرية في هذا النشاط الذهني. أما التفكير التباعدي (Divergent thinking) فهو يستخدم لتوليد وإنتاج واستلهام الأفكار المختلفة والمعلومات الجديدة من معلومات أو مشاهدات معطاة؛ أي إنتاج أشياء جديدة اعتمادا على خبراتهم المعرفية.

    ويعرفه سوير وآخرون (Sawyer &et al 19190) على أنه عملية بين شخصية (Interpersonal) وضمن الشخصية (Intrapersonal) التي بواسطتها تتطور النواتج الأصيلة ذات النوعية المتميزة والمهمة.

     أما بير(Byer,1987) فيعرف التفكير الإبداعي على أنه تفكير متشعب (Divergent) يتصف بالأصالة وعادة ما ينتهك مبادئ موجودة ومقبولة، ولا يتحدد بالقواعد المطبقة. ولا يمكن التنبؤ بِنواتجه؛ لأن ما يتم اكتشافه في حال الاختراق الإبداعي شيء جديد وأصيل، ويتطلب وجود مجموعة من الميول والاستعدادات لدى الفرد.

     ويعرفه (جروان، 1999) على أنه نشاط عقلي مركب وهادف، توجهه رغبة قوية في البحث عن حلول أو التوصل إلى نواتج أصيلة لم تكن معروفة أو مطروحة من قبل.

     في حين عرفه (سعادة وزميله، 1996) على أنه عبارة عن عملية ذهنية يتفاعل فيها المتعلم مع الخبرات العديدة التي يواجهها بهدف استيعاب عناصر الموقف من أجل الوصول إلى فهم جديد أو إنتاج جديد يحقق حلا أصيلا لمشكلته، أو اكتشاف شيء جديد ذي قيمة بالنسبة له أو للمجتمع الذي يعيش فيه.  

    وبالنظر إلى التعريفات السابقة للتفكير الإبداعي، فإننا نجد أن هناك نظرات مختلفة لمفهومه:

•    فمنهم من يراه على أنه القدرة على حل المشكلات بطرق غير مألوفة. مثل ليقين وتيرنر.

•    ومنهم من يراه على أنه عملية ذهنية يهدف منها إلى التوصل إلى حلول ونَواتج أصيلة باستخدام الخبرات السابقة. مثل سوبر، وبير وجروان وسعادة وغيرهم.

•    وبعضهم يعرفه على أنه عبارة عن توليد أفكار متنوعة.  مثل جيلفورد وهوينج وأولسون وغيرهم.

•    ومنهم من يراه على أنه نوع من أنواع التفكير عالي الرتبة. مثل ليبمان وسيدر.

     ومن الآراء السابقة نجد أن التفكير الإبداعي يعتمد أكثر ما يكون على توليد الأفكار الأصيلة، لحل مواقف راهنة، مستفيدا من خبرات سابقة.

     ويرى الباحث أن التفكير الإبداعي: "نوع من أنواع التفكير، يسعى الفرد منه إلى إطلاق فكرة لِتوليد أفكار كثيرة ومتنوعة وأصيلة، تساعده في حل مشكلة، سواء كانت هذه المشكلة واقعية قائمة أم وهمية خيالية، مستفيدا من خبراته السابقة ومعلوماته المعرفية".

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة