بسبب الغربة … ارتمى في أحضان الكتب ليقرأ ويسبقَ جيله
له 87 بحثاً ودراسة علمية، وسبعة عشر كتاباً بعضها متعدد الأجزاء
في مسقط رأسه يجري الرافدان دجلة والفرات، وفي دمه ومؤلفاته ومشروعاته تأصّل علم الآثار ودراسة الحضارات واللغات القديمة
كانت نشأته في جنوب العراق، إذ وُلد في مدينة كميت التابعة لمحافظة ميسان العراقية. وكميت مدينة صغيرة تقوم على ضفاف نهر دجلة، ولكنه لم يستقر فيها طويلاً إذ تنقّل كثيراً بين بلدات محافظة ميسان بحكم وظيفة والده. وبلغ ذلك التنقل حداً جعله يمضي أعوام الدراسة الابتدائية الست في ست مدارس مختلفة، فكان الطالب (الجديد) في كل عام دراسيّ حتى منتصفها، والطالب (المودع) في نصفها الثاني.
لقد تشبّع بالغربة منذ عمره المبكر وتعايش معها، فارتمى في أحضان الكتب يقرأ كل ما يقع في يده منها، وتعلّق بالمكتبة العامة في كل بلدة وجد نفسه بها. يقول: "ولله الحمد أن هذا كان في ستينيات القرن العشرين حين لم تكن بلدة أو مدينة في العراق تخلو من مكتبة عامة مزدهرة زاخرة بالكتب. وكانت مصر حينذاك في عنفوان حركة التأليف والترجمة، وبيروت منبعاً للكتب والمجلات التي شدتنا إلى ما كان يحدث من حولنا في شتى أرجاء العالم". إنّه الأستاذ الدكتور نائل حنون، العالم والكاتب والمترجم والباحث في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية بجامعة نزوى، الذي تستضيفه "إشراقة" في حوار عددها؛ لنتعرّف أكثر على أول من ترجم النصوص السومرية والأكادية إلى اللغة العربية، المحبِّ النهم للقراءة والمطالعة.
وطن الغربة
لم يغادر الأستاذ الدكتور نائل جنوب العراق يوماً حتى بدء دراسته في جامعة بغداد عام 1968م، إذ يقول عن نفسه: "ويبدو أنني جئت إلى الجامعة وأنا مشبع بقيم الجنوب وفكره، وسمة مجتمع جنوب العراق المميزة كانت، قبل أن تتغير إلى ما هي عليه اليوم، عشق المعرفة والتعلق بالثقافة وحمل هموم العالم ومتابعتها". في جنوب العراق يجري الرافدان دجلة والفرات، وهما يدخلانِه بعد أن يكون كل منهما قد قطع مسافات طويلة عبر الأراضي التركية والسورية وشمالي العراق ووسطه، إلا أن كلاً منهما يظهر بخصائص مختلفة وشخصية متميزة مكوناً بيئة خاصة به. وبهذا اختلفت في جنوبي العراق بيئة وادي دجلة عن بيئة وادي الفرات، على الرغم من أنهما سيلتقيان بعد بضع مئات من الكيلومترات ليكوّنا شطَّ العرب الذي يصب في الخليج العربي.
ولم يقتصر اختلاف الواديين على بيئتيهِما فقط، إنما شمل تاريخيهِما أيضاً، ففي جنوب العراق سكن وادي الفرات أولاً منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وسرعان ما قامت فيه المدن الكبيرة والدول العظمى في عصورها وتوالت المنجزات الحضارية الرائدة. وتأخر السكن المكثف في وادي دجلة حتى الألف الأول قبل الميلاد، ولم تقم مدن كبرى حتى ما بعد عصور حضارة وادي الرافدين القديمة. يقول الدكتور حنون في سياق ذلك: "وأنا قُدِّر لي أن أمضي العقود الأولى من العمر في وادي دجلة وأتخصص، في العقود اللاحقة، بآثار حضارة وادي الرافدين، ومهدها ومركزها في وادي الفرات؛ لذا عشت ونقبت في مواقع الفرات الأثرية الجنوبية، ودرست في جامعات واديه؛ ولذلك فهمت ذلك العتب الذي وجهه إلي أحد أبناء محافظة ميسان على صفحات التواصل الاجتماعي؛ لأنني قمت بالتنقيب الثري في مواقع مناطق متعددة دونما القيام بذلك في منطقة المحافظة التي أنجبتني. وكأنني انتميت إلى الحضارة التي تخصصت بها على حساب انتمائي لمسقط رأسي".
الجلوس مع الأستاذ الدكتور نائل وذاكرته التي تكتظ بالكثير عن محافظة ميسان وبلداتها وأنهارها: دجلة، البتيرة، الطبر والمجر الكبير له متعته، إذ يشده الحنين إلى مكتباتها العامة التي كانت عامرة بالكتب والسمو والفخامة حتى أواخر ستينيات القرن العشرين، حين غادر ميسان لغير عودة للأسف الشديد. فمنذ ذلك التاريخ صار كل مكان يعمل فيه وطناً له. واليوم، بعد أن مضى من العمر ما مضى، يشعر بأسى لأن أبناءه الثلاثة لم يتعرفوا على منطقة نشأته الأولى؛ فابنه الكبير يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، وابنه الأوسط في كندا، وابنته الصغرى تعيش معه هو وزوجته، في سلطنة عُمان. أما حفيديه في الولايات المتحدة الأميركية فلا يعرفان عن وطنه الأم سوى ما يعرفه من عاش عمره كله في وطنه الآخر.
مسار امتياز
لقد التحق الأستاذ الدكتور نائل حنون بالجامعة في سنٍّ مبكرة، إذ كان أصغر بعامين من أصغر طالب في دورته. لا يعود الأمر إلى نظام "التسريع" للطلبة المتفوقين، فهذا النظام لم يكن موجوداً في أيامهم، فما حدث فهو أنّه أُدخل المدرسة قبل السن القانونية بسنة، إذ كان بعمر الخامسة، بينما السن القانونية لدخول المدرسة ستة أعوام. ومضى في الدراسة الابتدائية (ستة أعوام) والمتوسطة (ثلاثة أعوام)، وحين بقي أمامه عامان للدراسة الثانوية (البكالوريا) تغير نظام التعليم في العراق، إذ أضيفت سنة ثالثة في الدراسة الثانوية (الصف السادس الثانوي، أو ما يعادل الثاني عشر) ابتداء من الدورة التي أعقبَتنا، وهكذا أنهى الدراسة السابقة للجامعة بإحدى عشرة سنة وبعمر ستة عشر عاماً، في حين أن اقرانه أتموها في عمر ثمانية عشر عاماً.
إنّ من الجيد أن يكسب المرء عامين من التحصيل العلمي في عمره، ولكن أن تكون أصغر عمراً من زملائك يعني التعرض للكثير من التنمر. يقول حنون: "حين التحقت بالجامعة عشت الظروف نفسها، ولم يكن الفارق بيني وبين زملائي يقتصر على سنتين بل يتعدى ذلك، إذ إنه كان من المعتاد في ستينيات القرن العشرين أن يدخل الطلبة الجامعة بأعمار تتجاوز الأعمار المطلوبة لإنهاء مرحلة الدراسة الثانوية. ولم يكن لي خيار لتخطي هذه الثغرة العمرية التي تفصلني عن زملائي سوى التفوق، وبهذا أظنني تخطيتها".
وقد كانت الدراسات العليا في بداية استحداثها محدودة ولا يلتحق بها إلا من اكتسب خبرة أعوام بعد حصوله على البكالوريوس. وربما كان الدكتور حنون من أوائل من التحق مباشرة بدراسة الماجستير بعد تخرجه في الجامعة. وحين التحقَ بزملائه في أول محاضرة في الدراسات العليا فوجئ بإحدى زميلاته، التي أمضت ما يقرب من عشر سنوات في العمل الوظيفي في المتحف، وهي تسأل بصوت مرتفع تشوبه نبرة استغراب: من هذا الشاب الصغير؟! كنت في العشرين من عمري، ومرة أخرى كان علي أن أتفوق!
وفي السنة الأولى من الدراسات العليا التقى حنون لأول مرة بأستاذه الجليل طه باقر، وكان قد عاد إلى العراق قبل مدة وجيزة لم تسمح بأن يدرس على يديه في مرحلة البكالوريوس. وقد كان أن أشرف على دراسته وأنجز تحت إشرافه رسالته لِلماجستير. وكان أروع ما لمس منه أنه حين يلاحظ توجهَه لتبني رأي جديد يطلب منه سوقَ الحجج والبراهين له، ومتى ما شعر بمتانة موقفه يسمح له بأن يكتب رأيه حتى وإن اختلف مع رأيه. يعزز الأستاذ الدكتور نائل ذلك بقوله: "مثلما كتب في مقدمة أولى كتبي أنه قدر كثيراً توجهي للاستقلالية في البحث وعدم اتباعي ما عرف باللاتينية ipse dixit أي (تقليد الحجة)، وهو المبدأ القديم في البحث العلمي الذي رآه هو أنه (كثيراً ما أوقع المبتدئين في مزالق الزلل)".
تكوين بحثي وأكاديمي
كان إقبال الأستاذ الدكتور نائل حنون على المطالعة لا حدود له، يصف نفسه أنّه "يلتهم" الكتب التي تقع في يده بنهم كبير منذ أولى المراحل الدراسية، إذ لم يصدق تعلمه للقراءة حتى راح يغترف المعرفة من الكتب التي شغلته يوم لم يكن هناك ما يشغله عنها من شبكات تواصل وألعاب، بل إنه لم يرَ التلفزيون -لأول مرة في حياته- إلا بعد أن اجتاز الدراسة المتوسطة (الصف التاسع). وكان الراديو هو وسيلة الاطلاع الوحيدة لديه، فضلاً عن بعض المجلات الأسبوعية والشهرية التي يدين لها اليوم بمعرفة أحوال العالم والثقافة العربية والأجنبية. وما يزال يذكر أسماء تلك المجّلات، منها: (الأسبوع العربي) اللبنانية، (العربي) الكويتية، (الهلال) و (المختار) المصريتان وغيرها.
أما في مجال البحث العلمي، فقد كانت لقراءاته المكثفة المبكرة الحافز المحرك له كي يتوجّه إلى البحث، ربما بدافع بديهي أولاً للحصول على المزيد من المعرفة. يتذكر هنا بدهشة إقدامه على كتابة بحث بسيط عن "السببية في القانون" وهو في الدراسة الثانوية. اليوم لا يتذكر ما كتبه ولكنّه يتذكر جيداً أنه في تلك المرحلة المبكرة من العمر، فهم معنى السببية في القوانين العراقية والفرنسية والمصرية، وقبل كل شيء في الشريعة الإسلامية. وقد خال حينذاك أنه سيتوجه إلى دراسة القانون، ولكن علم الآثار جذبه كما لم يجذبه تخصص آخر. والعبرة التي وضحت أمامه من تلك المحاولات الأولى أن البحث العلمي هو أفضل وسيلة للتعلم، وكلما زادت معلوماتك عن موضوع زاد تعلقك به؛ ولذلك يتمنى أن يأتي التوجه إلى التعليم الأكاديمي لِمن حقق رصيداً من البحوث العلمية أولاً، فهذا يجعل من يقوم بالتدريس الجامعي مفعماً بالحيوية العلمية ومكتنزاً بِالمعلومات الوافرة التي تبني جسراً مكيناً يوصل ما بين علمه ومعارفه وبين طلبته. هذا بحد ذاته كفيل أن ينتقل بالتعليم العالي إلى عوالم رحبة زاخرة بالإبداع.
ثمار يانعة
يقول حنون: "لن أتحدث هنا عن الجامعات التي درست فيها، وإنما عن تلك التي عملت ودرّست فيها". هكذا أشار في مطلع حديثه عن أبرز الإنجازات والذكريات التي تحتفظ بها سيرته العلمية والعملية في الجامعات التي انتسب إليها، إذ قبل انتقاله إلى الجامعة كان منتسباً إلى المؤسسة العامة للآثار في العراق مدة أحد عشر عاما؛ بعد حصوله على شهادة الماجستير الأولى. كانت سنوات عمله تلك ثمينة جداً في اكتساب المعرفة وخوض التجربة العملية في التنقيب الأثري. لقد وجد في التنقيب عن الآثار تجربة فريدة ورائعة؛ وذلك على شرط أن يتكيف المرء فيها للعمل الحقلي بصعوباتِه وتحدياتِه.
يضيف: "هنا على المرء أن يبني تجربته الشخصية ويعمق خبرته ليبدع ويبرع. ويتوجب عليه أن يقبل على العمل بشغف شديد وإلا ستكون تجربته قاسية ليس بيده حيلة لمواجهتها سوى أن يعد الأيام لينتهي مما هو فيه. وبعد تلك التجربة، ومواجهة إدارات لا تؤمن أصلاً بعملها ولا تفهم مدى أهميته، انتقلت إلى العمل في جامعة القادسية، محطتي الجامعية الأولى، لأستمر فيها نحو اثني عشر عاما. بدأت بتدريس مادة التاريخ القديم في قسم الآثار، وأسست هيئة التنقيب الأثري في الجامعة بدعم رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور جواد مجيد العبيدي، رحمه الله، إذ اخترت موقعاً أثرياً قريباً من موقع الجامعة (تل الصدوم) الذي كنا نعرف أنه يضم بقايا مدينة مَرَد القديمة التي عاش فيها أسلاف حمورابي قبل أن تتولى أسرته الحكم في بابل. وفي وقت قياسي أمكننا أن نكشف عن بناية المعبد الرئيس في المدينة. لقد تخلل الموسم الأول من العمل في ذلك الموقع تدريب الزملاء الذين ما كانوا قد مروا بتجربة عملية في التنقيب، كما قمت بتدريب عمال محليين من سكنة القرى القريبة على ممارسة الحفريات الأثرية. توقف التنقيب بعد أن كلفت بمهام وكيل عميد كلية التربية، ودام عملي ذاك أربع سنوات قدمت في نهايتها طلباً بإعفائي من المهام في عمادة الكلية لغرض التفرغ والعودة إلى التنقيب في الموقع الأثري. حصلت الموافقة على طلبي، ولكن بعد مرور عشرين يوماً لا غير عينت عميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها. وحين اعتذرت لرئيس الجامعة، الأستاذ الدكتور محمد عبد العال النعيمي عن قبول منصب العميد أبلغني أن القرار لا رجعة فيه، ولكنه أضاف قائلاً ما جعلني أوافق على تسلم المنصب. فقد قال لي: "الكلية هي مديرية عامة بكل مقوماتها وصلاحياتها (بحسب نظام التعليم العالي العراقي) وأنت ملتزم بالتوجه العلمي، فخذ الكلية التي تمر بصعوبات عدة معك في هذا التوجه". وجدت في كلامه الكثير من المنطق والحكمة والبصيرة الإدارية، وبعد سنة دراسية واحدة سميت كلية الآداب (الكلية الأولى) في الجامعة".
بعد ستة أعوام من عمله عميداً لكلية الآداب في جامعة القادسية؛ كُلِّف نائل حنون بمهام عميد كلية التربية في جامعة واسط. وهناك كان أهم إنجاز له في استحداث الدراسات العليا في عامين من التحاقه بالمنصب. في عام 2004م كان في زيارة إلى دمشق، ولم يكن في قسم الآثار في جامعة دمشق أستاذ متخصص في اللغات القديمة. وكان رئيس قسم الآثار حينها عالم الآثار السوري الكبير الأستاذ الدكتور سلطان محيسن، الذي عرض عليه العمل في القسم، وبالفعل تعاقد مع جامعة دمشق ليستمر عمله فيها تسعة أعوام.
يقول الأستاذ الدكتور نائل عن تلك المرحلة: "كان عملي في جامعة دمشق مثمراً جداً، فهناك وجدت نفسي محاطاً بمجموعة رائعة من الطالبات والطلاب الذين تعلقوا بالتخصص وأبدعوا فيه، وأكمل عدد منهم دراستهم العليا وحصلوا على شهادة الدُكتوراة، وإلى اليوم أتابع بحوثهم وتتابع إنجازاتهم ويغمرني الفخر بهم. وفي تلك السنوات التسع التي أمضيتها في سورية صدرت لي تسعة كتب، موجودة نسخ منها اليوم في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي في جامعة نزوى. وفضلاً عن عملي في الجامعة، درّست في المعهد التقاني للآثار والمتاحف، ومقره في قلعة دمشق، وتوليت رئاسة قسم المتاحف فيه. ومما يبعث على السعادة أن إحدى طالباتي المجتهدات تتولى اليوم إدارة هذا المعهد، وهي الدكتورة مياسة ديب، ومن محاسن الصدف أنها تحل في هذه الأيام -وقت إجراء الحوار- ضيفة علينا في سلطنة عُمان، وزارت جامعة نزوى وحضرت الندوة الأخيرة التي أقامها مركز الفراهيدي عن الإسهامات العُمانية في الطب والعلوم. ومن المنجزات المهمة في أعوام إقامتي في سورية الدراسة التي أعددتها في المقترح بتأسيس الموسوعة المتخصصة بالآثار في سورية. وبعد إنجاز العمل في المجلدات الثلاثة الأولى عدت إلى العراق، ولكن الموسوعة مستمرة وقد بلغ مجموع المجلدات الصادرة منها حتى الآن سبعة".
موسوعة ومعجم … قادمان
بعد أن نشر حنون عدداً كبيراً من البحوث والدراسات في المجلات والدوريات العلمية المحكمة المتخصصة والمجلات الثقافية، توجّه إلى تأليف الكتب في تخصصي (علم الآثار واللغات القديمة)، وكذلك إلى الكتابة في "الموسوعة العربية" و "موسوعة الآثار في سورية". وميزة الكتب التخصصية -كما تحدّث عنها- أنها تنشر المعرفة بكل تخصص في وسط واسع من القراء بخلاف الدوريات العلمية المقتصرة على المتخصصين، ولكن يشترط أن يكون مؤلف الكتاب المتخصص قد نشر ما يكفي من بحوث في دوريات محكمة أولاً. ولا يجوز لمن لم ينشر بحوثاً في ظل التحكيم والتقييم أن يقدم على تقديم كتب في تخصص معين قد لا يكون درسه أصلاً. يضيف: "للأسف هذا ما يحصل الآن في الوطن العربي، إذ يتولى أشخاص لم يختصوا أو يدرسوا في أي جامعة علم الآثار والحضارات القديمة واللغات القديمة تأليف كتب تتحدث عن هذه المجالات ويقدموا "نظريات" وآراء عنها. هذا ما يحدث الآن ويسبب في تضليل القراء وعموم المثقفين، بل حتى مختصين أحياناً، ويجعلهم يتّبعون معلومات مزيفة وغير صحيحة. ولمواجهة هذه الموجة الهابطة، الورقية والرقمية، ينبغي أن يتحقق القارئ من اختصاص الكاتب وتحصيله العلمي وسيرته العلمية وبحوثه المحكمة التي أهلته لأن ينشر، فإذا لم يكن له رصيد من ذلك ينبغي عدم التعامل مع الزيف الذي ينشره".
لقد نشر الأستاذ الدكتور، حتى الآن، ما مجموعه 87 بحثاً ودراسة علمية في دوريات علمية محكمة ومجلات ثقافية وموسوعات مثبتة جميعها في سيرته الذاتية. أما الكتب التي نشرها في تخصصه فقد بلغ عددها سبعة عشر كتاباً، وبعضها متعدد الأجزاء. وهناك كتب أخرى سوف تصدر تباعاً. بحوثه نشرت في دوريات مثل "سومر"، "دراسات تاريخية"، "بين النهرين"، "مجلة القادسية"، "مهد الحضارات" فضلاً عن "الموسوعة العربية" و "موسوعة الآثار في سورية" وعدد من الإصدارات الخاصة بالندوات والمؤتمرات العلمية التي شارك فيها. أما الكتب التي نشرها فتشمل: "عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة"، "نظام التوثيق الأثري"، "عقائد الحياة والخصب في الحضارة العراقية القديمة"، "المعجم المسماري"، "شريعة حمورابي"، "الحياة والموت في حضارة وادي الرافدين القديمة"، "المدافن والمعابد"، "ملحمة جلجامش"، "مدن قديمة ومواقع أثرية"، "أسطورة الخليقة البابلية"، "حقيقة السومريين"، "دراسات في علم الآثار واللغات القديمة"، "نصوص مسمارية تاريخية وأدبية"، "اللغتان السومرية والأكدية" و "الاستكشاف الأثري من وادي الفرات إلى عُمان". ويعمل حالياً في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية في جامعة نزوى على إنجاز مشروعين جديدين، وهما: "موسوعة البلدان القديمة" و"المعجم العربي للّغتين الأكدية والسومرية".
مكانة المتخصصين
منذ تخرجه في جامعة بغداد قبل أكثر من خمسين عاماً وهو ملتزم بالحكمة القائلة: "لا تقل لي شيئاً، دعني أرى". لم تغب هذه المقولة عن ذهنه يوماً واحداً، وحتى عندما يكون لديه الكثير مما يقوله، فإنه يستند على الكثير مما كتبه ونشره أو سوف ينشره مستقبلاً. يقول الدكتور نائل عن رسالته التي يستعين بها في سبيل العلم والعمل: "الحقيقة هي مبتغاي والبحث العلمي وسيلتي للوصول إليها. وهدفي أن أوظف ما صرفت عمراً في بنائه؛ ليكون في متناول بني قومي وطوع بنان الباحثين الذين يواصلون الجهود لتقديم البحوث الرصينة ونشر المعرفة التي لا تقدم لبلادنا دونها".
فيما أجاب عن سؤال "إشراقة" في كيفية تعامله مع نقاط القوة ونقاط الضعف التي تُواجهه، قائلا: "لنحدد أولاً نقاط القوة ونقاط الضعف. أقوى نقاط القوة التي أشعر بها وتشد أزري دوماً هي إقبال الشباب، من المتخصصين وغير المتخصصين، على متابعة أعمالي وقراءة كُتبي ومُحاورتي حوار العارفين الطالبين للمعرفة والحقيقة والرصانة العلمية والكاشِفين لِلزيف والادعاء مما يطرحه كثيرون في يومنا هذا ممن لم يدرسوا أصلاً علم الآثار أو الّلغات القديمة، وعلى الرغم من ذلك أقدموا على الكتابة والنشر وطرح الآراء في مجال لا يفقهوا عنه سوى ما لا يؤهلهم للبحث فيه والكتابة عنه. ولا أبالغ إذا قلت أن بريدي الإلكتروني والهاتفي يزخر بما لا يقل عن سؤال واحد يومياً من باحث أو طالب علم أو مثقف عام عن الحضارة القديمة ونصوصها وآثارها. وأنا أمنح هذه الحوارات كل ما تستحقه من اهتمام واحترام ووقت ومعلومات. والأسئلة التي تطرح علي في هذه الحوارات تفرحني لأنني أرى فيها معرفة وشغف، ويصح عندي القول (وبعض من السؤال جواب)".
ويكمل: "أما نقاط الضعف فهي ليست فيما أبحث فيه أو أنشره، وإنما -للأسف الشديد- فيما ينتشر اليوم من معلومات مضللة وكاذبة في مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات المعلومات الإلكترونية، بل وفي الكثير من الكتب والمنشورات غير الخاضعة للتحكيم العلمي والتقويم المعرفي. وغالباً ما يكون الدافع من وراء هذا الزيف حب الشهرة وتحقيق شعبية بأرخص الطرق. إنه طوفان من تزييف المعلومات وتشويه المعرفة مشوبة بسهولة التوصيل ورخص الانتشار. طبعاً من غير اللائق ولا الممكن الرد على كل ما يطرح بهذه الطريقة، ولكن من الواجب تقديم العلم الصحيح والأطروحات العلمية المبرهنة والمحكمة حتى وإن كانت بحجم لا يقاس بالزخم الهابط الحالي. ولكن في الآخر لا يصح إلا الصحيح، وفي خاتمة المطاف العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة ولو بعد حين. المهم هو ألا توقفنا الادعاءات وأصوات التنمر والتهجم، وألا تبطئ مسيرتنا في البحث الجاد وتحصيل المزيد من العلم والمزيد من المعرفة. أن يكون هناك شيء غير صحيح في مواجهة الصحيح هو من سنن الحياة، ولو لم يكن الأخير موجوداً لما أمكن معرفة وجود الأول".
مِنهاج باحث
ما توجيهكم لنقل العملية التعليمية والبحثية نقلة نوعية كبيرة في مختلف المجالات ... خصوصاً في ظل الثورة الصناعية والتكنولوجية الحديثة؟ سؤال ختمنا به حوار العدد مع الباحث والعالم الأستاذ الدكتور نائل حنون، أجاب عنه قائلا: "في تخصصي، علم الآثار ودراسة الحضارات واللغات القديمة، توجد سمات وطرق عمل قد تكون مغايرة لبعض ما هو موجود في مجالات العلوم الأخرى. هذا التخصص يقوم على ركيزتين أساسيتين، وهما: التنقيب الأثري وقراءة النصوص القديمة؛ أي البحث في الدليلين المادي والكتابي. وهنا تأخذ معطيات التكنولوجيا الحديثة أبعاداً قد لا تطابق أبعادها في مجالات العلوم الأخرى. فعلى سبيل المثال سرعة العمل مطلوبة في تنفيذ الكثير من المشاريع، ولكن في التنقيب الأثري كلما كان العمل أبطأ وأكثر تدقيقاً كلما حقق نتائج أثرى. ولكن هذا لا يعني عدم توظيف ما طورته التقنيات الحديثة في استجلاء معالم الحضارات القديمة. أنا شخصياً وظفت ما تقدمه الحواسيب الآلية لإنشاء نظامين: أحدهما للتوثيق الأثري والآخر للتوثيق المتحفي؛ بما يختصر الكثير من الوقت والتدريب حتى يستفاد مما وفر في تطوير جوانب أخرى".
وأضاف: "استعمال المختبرات وتقنياتها الحديثة أمر واجب في أعمال التنقيب الأثري حتى مع أصغر الأشياء. وأسوق هنا مثالاً على ذلك: في إحدى عمليات التنقيب التي قمت بها اكتشفت حلقة نحاسية المظهر كانت جزءًا من عدة حيوان ركوب (حمار) لتثبيت اللجام؛ وذلك في طبقة أثرية يعود تاريخها إلى نحو 1900 قبل الميلاد. أخضعت القطعة لِفحص مختبري، فثبت أنها مصنوعة من سبيكة النحاس مع الخارصين ومكونات فلزية أخرى، وهذا يعني أنها ليست سبيكة من البرونز المستعمل حينذاك، بل هي من سبيكة البراص. وكانت معلوماتنا سابقاً تقول إنه لم يتم التوصل إلى صناعة البراص قبل عهد البطالسة في مصر. وبهذا أثبتت تقنيات المختبر أن صناعة البراص وجدت قبل قرابة ألفي عام من التاريخ المعروف عنها. وقد نشرت هذا الموضوع في أحد كتبي (حقيقة السومريين)".
وينهي: "كلمة أخيرة أضيفها هنا عن منهج أوجدته في تخصصي؛ وذلك بجمع التخصص في علم الآثار واللغات والنقوش القديمة بدلاً من الفصل السائد حالياً فيما بينهما. والباحث الذي يجمع التخصصين معاً يرى الماضي بصورة أكثر اكتمالاً ووضوحاً ويتوصل إلى ما لا يمكن التوصل إليه بفصلهما عن بعضهما".