السنة 18 العدد 168
2023/06/01

 

ذكريات الجامعة تُرجعنا إلى ما نَحنُّ إليه ... صعاب وجهد ومواقف وشخوص


 



إشراقة: ذكريات خريج



سمية بنت حمود بن سليمان الغافرية، خريجة كلية الهندسة والعمارة - تخصص هندسة معمارية، ولدت في إحدى مناطق ولاية الرستاق العريقة بمحافظة جنوب الباطنة، ونشأت في أسرة مُكافِحةً داعِمة، ضمن ستة إخوة وثلاث أخوات ترعرع جميعهم بين أيدي أمٍ عظيمة جاهدت على تربيتهم وتعليمهم وتكوينهم، تقول عنهم: "عشان يكبر أحد لازم يتعب أحد". لديها ثناء وامتنان عظيم لهم ولتضحياتهم؛ لذا عقدت سمية العزم على مواعدة أحلامها منذ التحاقها بجامِعة نزوى لتسابق لأجلهم الأيام؛ حرصًا منها على أن تشهد أسرتها لحظة التتويج لما بذلوه من جهدٍ وعطاء حتى كتب الله لها ذلك ونالت بصبرها ما ابتغته.



لحضة فارقة

 

التحقت سمية بجامعة نزوى لتدرس تخصص هندسة الحاسوب، لم يكن هذا التخصص اختيارًا يومًا ما ولم يتناسب مع ميولها، فبعدما أكملت عامًا دراسيا في ذات التخصص مع الكثير من التحديات. مرّت يومًا على معرضٍ للأعمال الفنية والهندسية داخل الجامعة، تمعّنت النظر في مشاريعٍ عملاقة ومجسمات لقسم الهندسة والعمارة، انتابها شعورٌ بالانتماء إلى أن هذه مساحتها وهذا شغفها، حينها هاتفت والدها رغبةً في تغيير التخصص، فكانَ رده "امنحيني الوقت لنرى ونتحرى في الأمر". وبعد سلسلة من المشورات والآراء الأسرية وصلوات الاستخارة، أقرّت أخيرًا أن الهندسة المعمارية هو التخصص الأنسب. فباشرت فورًا بإجراءات تغيير التخصص مع شروط الحصول على معدل امتياز في مادتين، وأن لا يقل المعدل الكلي عن ٢.٧ في تلك المرحلة الدراسية، وإلا سيُستعاد التخصص السابق، فما كان منها إلا المُضيُّ بيقين وتوكل على الله بأن سيكون لها ما تسعى إليه بإذنه".

 

غِيَرُ الأيام!

 

تعد رحلتها في الحياة الجامعية من أكثر مراحلِ الحياة أهمية، إذ هي أول خطواتها نحو المستقبل المهني، تضم لحظات ومواقف عديدة قيّمة، إذ للمرة الأولى ستكون مسؤولاً بشكلٍ كبير عن حياتها وقراراتها. هذا ديدن الطالب الجامعي: أن تعتمد على نفسك أكثر وأن تكون مضطرا إلى إيجاد حلول لمشاكلك، فالأمر أصبح جديًا وعليّك أن تحيا بعيدًا عن الاتكال الذي كان سابقًا في بيت الأسرة، وأن يُركن ذلك الدلال جانبًا لمواجهة الأحلام ومجريات الحياة والسعي من أجلها. سيكون عليك التأقلم على الضغط الدراسي الكبير الذي يُضاعف المسؤولية، ويُشعر الطالب بأنه ما بين الدراسة والمسؤولية، فلكلِ شيءٍ ضريبته وضريبة الحلم هُنا أن تصبح مسؤولاً عن نفسك، بمجرد أن ندخل إلى بوابة الجامعة ونصبح ضمن تلك المرحلة ومتطلباتها ومسؤولياتها نشعر وكأن الألوان تتلاشى والمكان يصبح أكثر برودة، ولكن لتصنع مجدا ينتسب إليك، سيكون عليك التأقلم، ولِتستوفي متطلبات هذه المرحلة لا بد من فهم طبيعتها ومتغيراتها، تحتاج من الطالب جهداً مناسباً وتخطيطا جيدا لأهدافه وتعرفاً دقيقاً لنفسه وللجامعة ولأنظمتها؛ للحصول على أكبر فائدة من الخدمات المقدمة فيها.

 

 

شغف كبير

 

تقول سمية: "مشروع التخرج هو حصيلة سنواتي الدراسية من معلوماتٍ ومهاراتٍ وتجارب، المشروع كان يتضمن طابعي الشخصي، وهو أول إنجازاتي العلمية، وانعكاس لجودة أفكاري؛ لذلك كنت أبحث عن شيءٍ مختلف ومميز في مجال أُحِبه لدي فيه الشغف الكبير منذ الصغر، إذ كنت وأنا في مرحلة الطفولة أُحب أن أقف على المرآة لساعاتٍ طويلة لأُجسِّدَ مشهدًا إعلاميا أو ألقي نشرةً إخبارية بأسلوب شائق".

بهذا الشغف كانت لدى الغافرية رسالة وهدف وتأثير عظيم، إذ كما نعلم أن استخدام وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال الجماهيري أصبح ضرورة في الحياة اليومية للإنسان؛ لما تقدمه من خدمات في مجالات اجتماعية أخرى. أصبحت وسائل الإعلام لغةً عالمية يمكن للجميع الوصول إليها في أي مكان في العالم، إذ تعد الأداة الأسرع والأكثر أهمية في هذا العالم، وهذه الحقائق تتطلّب من الإعلام تسليط الضوء عليها. من هذه النقطة، وصلت سمية إلى قضية حرجة يجب اختبارها في عُمان في محاولة لمنح وسائل الإعلام هنا بيئة خاصة للتدريس والبث منها ... مشروع بوجود مكان يُعلّم الجيل الجديد بفضل الله ثم  جودة تقنيات وسائل الإعلام، وفي نفس الوقت يكون مركزًا لتدريب الهواة والراغبين في الحصول على درجات عليا في مختلف تخصصات الإعلام، ومقرا لبث جميع التقارير الإعلامية المختلفة، فهذا النوع من البيئات غير موجود في عمان. كل هذه الحقائق جعلت سمية تفكر في أهمية الإعلام، الذي فتح لها باباً للتفكير في تقديم (أكاديمية إعلامية لسلطنة عُمان). 



نصيب مجتهد!

 

ما كان طريق الغافرية سهلا أبدًا، فقد مرّت بالعديد من التحديات والعقبات التي كانت تواجه فيها شحا بالبحث عن المعلومات، وكما نعلم عندما لا تتوفر المصادر الكافية تقل جودة المشروع وقربه من الواقع ويبدو غير معقول ولا مقبول. لا يوجد صرح أكاديمي متكامل يضم جميع مرافق ومتطلبات وتخصصات الإعلام الجديد في عمان ... على أثر ذلك تراجعت لمراتٍ عديدة عن إكماله وقدمت طلبا بتغير موضوع المشروع، وجاء رفض الطلب لأسباب كثيرة، وفي ذلك الوقت لم يكن لديها خيار للتوقف حينها، ولا يوجد خيار سوى الاستمرار رغم صعوبة الطريق؛ مما جعلها تسلك طرقا أخرى مثل البحث ليلا لساعات طويلة عبر شبكة الإنترنت عن المعلومة وتحليلها والتواصل مع جامعات عالمية وأخذ المصادر منها، فاشتغلت على عمل مقابلات هاتفية مع بعض أكاديميات الإعلام في دولتي الإمارات وقطر، لجمع المعايير العالمية والمحلية للأكاديمية المتكاملة، ودراسة الفكرة التصميمية للمشروع، فكانت مستوحاة من مراحل تطور (الإعلام والعمارة في آن واحد). 

 

ويجب أن نعلم أنّ وسائل الإعلام والاتصال والعمارة مرّت بثلاث مراحل تاريخية مختلفة، التي نشأت مع ظهور البشر على هذه الأرض، وحققت نقلة نوعية في حياتنا بصنع هذا العالم الضخم. قرية صغيرة يسهل التجول فيها ومعرفة كافة الأحداث التي تجري بها. انطلق الإعلام من الصحف، وكانت أول وسيلة إعلام بين البشر، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة ظهور وسائل الإعلام التقليدية المختلفة، مثل: الراديو والتلفزيون والهاتف والفاكس، وأخيراً الانفجار الأكبر مرحلة الإعلام الجديد وظهور الإنترنت والاتصالات الرقمية والوسائط المتعددة، وفي الجانب الآخر هناك ثلاث مراحل من عصور العمارة: بدأت من المنازل والملاجئ لأسلافنا القدامى إلى المباني الحديثة حتى المباني المليئة بالتكنولوجيا؛ لذلك كان المشروع يتضمن ثلاثة عصور مختلفة جوهرية: الماضي والحاضر والمستقبل في مجال الإعلام والعمارة.




رصيد ضخم

 

تقول سمية: "جامعة نزوى أكثر مكان صقل شخصيتي وعلمني الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية، إضافة إلى أساليب تحديد الأهداف ورسم مسارات واضحة أسعى لها دون خوف وكسر الجمود، علمتني كذلك أن النجاح يولد من رحم الألم، وأن لا بأس من السهر والتعب والجهد؛ لأن جميعها دلالات على أنني أعمل في بناء نفسي وأسعى إلى أن أكون مؤهلةً لشغلِ وظيفة كريمة وبمرتبٍ عالٍ يُمكنني منه خدمة نفسي وأسرتي بالمستوى المادي المرجو. علمتني أن الفشل ليس نهاية الطريق بل هو أول بدايات الإدراك والاتساع الفكري في استيعاب الحكمة الإلهية لوجود الإنسان، أن يتذوق الإنسان مرارة التعب والسعي ليستشعر بعد ذلك فرحة بلوغه فيما أراد، ولولا ذلك لما قدّر الإنسان تلك النعمة".

 

وتضيف: "من منطلق أن الجامعة تضمُّ مختلف أجناس الناس والثقافات والمهارات، أهدتني الفرصة في أن أُكوّن صداقات بأشخاصٍ رائعين فكانوا لي الإخوة والسند، حَظيتُ كذلك بثُلةٍ من المعلمين أيقونةً في الأمانة والحث على التفاؤل وخير مثالٍ في أن نأخذ منهم دروسًا في التعامل مع مختلف شخوص الطلبة وتقلّبات الظروف، علمتني أني قادرِة على أن أخلق أسرة أخرى من معلمات دؤوبات أمهات، ومعلمين إخوة، ورئيس جامعة أبٍ عظيم. علمتني أن الاتحاق بالأنشطة الجامعية تخلق روحا من التعاون وجعلتني أكثر انفتاحا إلى العالم، أن أتعرّف إلى جنسيات مختلفة بعاداتهم وثقافتهم، وأن نتشارك الأعمال والآمال معا، إذ كانت لدي الفرصة بأن أحضى بعلاقات متنوّعة في جامعة نزوى. أيضا المشاركة في الأنشطة التطوعية التي كانت دائما تجعلني سعيدة، فقد كنت أقدم المساعدة في الوقت الذي أكون فيه في أشدِّ الحاجة إليها، فيأتيني جبر الله سريعا. علمتني أن لا مستحيل في شيءٍ يحلم الإنسان لتحقيقه، فالمرءُ إن سعى بلغ، علمتني الصبر والصمود بروحٍ عالية ونفسٍ طيّبة، وأن طلب المساعدة ليس عيبًا في شدائد الأيام، وأن لا بأس بالوِحدة، فهي من تصنع منكَ شخصًا عظيمًا متفردً فكريًا".

 



ذكريات رقراقة

 

لِزوايا جامعة نزوى بصمة جميلة الوصف في قلب سمية، تكاد لا تختفي عن بالها أركان القاعات واللوح والمساطر والألوان والحقائب الثقيلة والورش وقطع المكعبات من الأوراق والمجسمات والمشاريع المعلقة على جدران الممرات والقاعات، والخطوات المتسارعة للوصول إلى المحاضرات. من ذكرياتها الجميلة -وهو أحب الأوقات لديها- وقت الفجر الجلوس بحدائق الجامعة لتنفس الطيف النظيف، وكان وقتها المفضل للمذاكرة واسترجاع المعلومات قبل الامتحان. أيضا عندما تحظى بكوب شاي في ممرات الجامعة، كان يلهمها النظر لمن حولها ممن يحملون الكتب ومنهم الخرائط ... كلٌّ يدل على وجهته. نعم تحب مراقبة التفاصيل، إذ هناك الكثير من الأركان تخفف عليها حدّة القلق والتوتر وتخلق لها ذكريات رقراقة. من ذكرياتها المضحكة تقول: "في إحدى المرات كنت في عجلة من أمري ونسيت مسطرة الرسم؛ وذلك أغضب أستاذ المقرر، فقام بطردي من المحاضرة بقسوة بحثا عن مسطرة لأن الرسم لا يكمل دونها". نعم لولا هذه المواقف لما تعلّم الطالب الحرص والانضباط، فقد خالط الاجتهاد والعمل بإتقان وحب التخصص والمقررات بما فيها من المتعة في العمل، كفاح وتحديات واجهت طلبة الهندسة، ذلك العمل من شروق الشمس حتى غروبها في الورش لإكمال جميع الرسومات؛ لأن طاولات السكن الجامعي لا تتسع للوحات الخرائط.

 

وتروي عن ذكرياتها أكثر: "من أكثر الأشياء الشاقة التي يوجهها طالب هندسة العمارة انفجار بطارية الحاسب بسبب ساعات العمل المستمرة عليه أو توقفه عن العمل. أيضا للوصول إلى جودة عمل رائعة يتطلب أجهزة وبرامج مكلفة ماديا، فعدم توفّر تلك المعايير يؤدي إلى تأخير إنجاز الأعمال وتراكم العديد من الصعاب. ولا أنس التنقل من مبنى إلى مبنى آخر؛ لتكملت العمل، وشراء أوراق شفافة لمتطلبات الخرائط من المكتبة، ومبنى 29 لطباعة المشاريع وقت تسليمها وما أدراك من وقت التسليم! فقد يتسابق الطلبة على موعد التقييم قبل انتهاء الوقت المقرر، إلا أنهم يخسرون ذلك السباق مع الوقت في بعض الأحيان ويتأخرون عن الموعد المحدد، ليعتذر الأستاذ المحاضِر بعد ذلك من عدم استلامه ... كل ذلك ورغم رهبة التقييم والتعب، كنت أستشعر انتصارات التميز من جوف التحديات، ومدى قوة الإنسان وصلابته، فمتى ما أراد الإنسان التميز كان له ذلك بسعيهِ وإصراره".

 

وتختم في هذا السياق حديثها: "كلُّ هذه الذكريات واللحظات التي عشتها في جامعة نزوى، أنا الآن أعيش الحنين إليها ... أحنُّ إلى كل لحظة كانت جميلة أو شاقة، أحن إلى كل تفاصيلها، أحمل حبًّا وامتنانا كبيرين لها، فأنا تلك النبتة الصغيرة التي نمت على جدرانها وتربتها".

 

تواصل بنّاء

 

تعد سمية الغافرية شخصية مرتبة ومنظمة من محبي التدقيق في أبسط التفاصيل في المشاريع والأعمال، تحب تقديم أعمالها في خطٍّ مرتب وبطريقة مميزة دائما، لذا كانت تستشعر جمال ذلك في ثناء أساتذتها على جهودها. ومما تسرد لنا ذاكرتها الجميلة موقفا مريحا جدا لديها؛ يتمثل في قربها من إحدى أستاذاتها في الجامعة، التي تعدها أم حنونا وأختا سندا وصديقة وقت الضيق، فعندما تذهب إليها تستقبلها بابتسامة جميلة فتشاركها الصعوبات والتحديات والمشكلات التي قد تواجهها؛ لتجد منها ما يعينها ويقوي عزيمتها.

 

كما أنّ علاقتها بجامعة نزوى ما تزال مستمرة في ذلك العلم وتلك الثقافة المتأصلين في داخلها. أيضا أساتذتها يسألون عن مسارها المهني بين الحين والآخر اطمئنانا منهم. وزملاؤها الطلبة الذين يدرسون في الجامعة يستشيرونها في المقررات والشروحات. وقد شاركت في (الملتقى الوطني الثاني عشر لمشاريع التخرج الهندسية) الذي أقيم مؤخرا في الحرم الجامعي؛ لتحصل -بحمدلله- على المركز الأول ضمن مشاريع العمارة والتصميم الداخلي. كما أنها تؤكد على أنها تتابع ما يخص الجامعة في الموقع والبريد الإلكتروني وقنوات التواصل الإعلامي والاجتماعي.



اصنع مستقبلك!

 

تقول سمية: "بعض الناس -إن لم يكن أكثرهم- لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون في الحياة، ولكن المرحلة الجامعية خير مكانٍ يعلمك أين يجب أن يتجه مسارك وخطوات الوصول وتحقيق الغايات التي تطمح إليها ... ولكن جُلُّ ذلك يبدأ من فهمك لنفسك وفهمك للمشكلات التي تواجهك، بداية من تحديد نقاط قوتك ونقاط ضعفك، حتى لا تكلفك المرحلة الدراسية الكثير من الخسارات في الوقت والجهد والعمر، فإن كنت تواجه صعوبة في إلمام المادة الدراسية عليك أن تعلم أسباب ذلك. اكسر حاجزي الرهبة وقلة المعرفة، واطلب المساعدة بالتوجيه والإرشاد الأكاديمي، واستثمر الخدمات المتاحة لطالب العلم بالجامعة. واكب التطور في مجال تخصصك، وتعلّم مجالا آخر لكسب أفق آخر، فمن أراد أن يصنع نهاية لها معنى، عليه أن يجتهد فيها ويبحث عن المفيد ويغتنم الفرص، وألا يضيع وقته في غير ما كان لأجله، بل يمنحه حقه الكامل، ويصنع لنفسه مستقبلاً يليق به، فمهما كانت الرحلة مكلفة ووعرة، لابد أن تكون لك رسالة وهدف حتى لا تشعر بضيق المكان عليك، فلا شيء يتحقق بالكسل، بل يسبقه تعب مكلل بعمل دؤوب ونيّة صادقة وأمانة ... أخيرا لا تنس أن توثّق تلك اللحظات التي تشعر أنها قريبة إلى قلبك".

إرسال تعليق عن هذه المقالة