السنة 18 العدد 168
2023/06/01

كيف غيّب الإعلام الجديد القراءة العميقة؟

 


 



محمد بن علي الإسماعيلي

 

كنت أستمع ذات مرة إلى برنامج تلفزيوني جذبني إلى كلماته عبارة نسبها المتكلم إلى قائلها، هي: "اللقاء لقاح، فَمن طاب لقاحه طابت ثمرتُه". هذا اللقاء الذي قد يكون وصلًا بين زوج وزوجه أو والد بولده أو تلميذ بأستاذه أو رائد عمل بمشروعه أو مشتغلا بمهامه أو قارئا بكتابه أو فنّان بريشته، أو غير ذلك من الوصل الذي لا ريب أن أجلّه وأعزّه لقاء العبد بربه.

 

إنّ صيف العام الدراسي لا يأتي عادة على كثير من طلبة العلم إلا محملًا على أكتافه فقر استثمار الأوقات ويبسَ تحصيل المنافع والمعارف بعد عام مليئ بالجد والتعب. وعندما نُطالع مؤشر تحولات القراءة -التي تعدّ عصب العلم- نجدها في انخفاض ملحوظ بين عموم الطلبة في هذه الفترة؛ ربما لغياب الوعي الذاتي بأهميتها خارج إطار الدرس والامتحان؛ بل لسوء حظهم لم يدركوا نعيم التكنولوجيا الرقمية الحديثة وفضلها في إعادة تشكيل عادات القراءة والتعلّم وصناعة الكتاب مطبوعًا توفره مكتبات كثيرة للقراءة أو الإعارة أو البيع، أو مشفوعا بنسخة رقمية تتيحها شبكات الاتصال والتواصل والإنترنت عبر أجهزة ذكية.

 

لقد عانت الأجيال السابقة من صعوبة في الوصول إلى المعلومة واقتناء مصادرها؛ حتى قفز جوتنبرج بالقراءة نقلة نوعية كبيرة أسست لحضور المطبعة وطباعة الكتب؛ إلا أنها كانت مرحلة مرهقة ماديًا ومعنويا لأولئك الذين لم يستطيعوا مواكبة رفاهية الطبقات العليا التي تمكنت من تحصيل المطبوع الذي لم يُتَحْ للعامة؛ لذا برزت في تلك المجتمعات نخب فكرية وعلمية اقتصر عليه ما في بطون المصادر والمراجع والدوريات … بكل تأكيد حقبة ندرت فيها المعلومة وقلّ فيها التحصيل المعرفي، إلا أنه لم يكن هنالك بُدٌّ منها، فمع العسر يسر، إذ بعدها انتشرت المطابع ودور النشر إلى أن وضعت التكنولوجيا الحديثة حدّا لذلك التقشف، فما عُذر طالب العلم بعد هذا المجال الفسيح الخصب دون التمسّك بالقراءة.

 

ومن محاسن القراءة في ظل الثورة الرقمية الهائلة أنها اكتسبت ثراء أتاح فرص انتقاء القراءة في فنون ومجالات كلٌ حسب تخصصه ومجاله؛ فأولئك الذين برعوا في فنهم امتلكوا أداة القراءة المتعمّقة، هذه المهارة امتازوا بها في صنع فارق استثمرُوه في مواصلة تطوير مشروعاتهم والرقي بها إلى مستويات رفيعة ذات جودة ونوعية كبيرتين أيّاً كان سياقها. كما أنّ منصات القراءة تعددت وتطورت لِتصاحبها تقنيات التفاعل مع النص، مثل: الصورة والصوت. لكن ما يُؤسف عليه ضياع الأوقات بقضائها في ساعات طوال في مواقع التواصل الاجتماعي وتصفّح شبكات الإنترنت في اللهو واللعب وما ارتبط بهما من عادات الإشباع الفوري بِتحقيق المتعة في التعامل مع الشاشات والنقر على الروابط وتقليب المقاطع والصور وما شابه ذلك؛ ما نتج عنه غياب البحث عن المعلومة وتحليلها والتفكير الناقد والمستقل والإنتاج الذهني لدى عموم القرّاء، وهو ما يعرف مفهومه بالقراءة لأغراض التسلية أو القراءة السطحية … هذا النمط من القراءة قلّل كثيرا من ملكات الفهم والإدراك والتخصصية العميقة؛ ربما بسبب التدفق المعلوماتي الهائل والتصفح السريع وعدم انتقاء القارئ للقيّم من المعلومات والمعرفة الرصينة.

 

يبقى أن نشير إلى تساؤلات تدور في الذهن: كيف يصل طالب العلم نفسه بالقراءة وصلا حقيقيا، في وقتٍ وجدت فيه الأجيال الجديدة نفسها مشتتة في تحصيل العلوم النافعة في ظل سهولة الوصول إلى الكتاب والمصادر وكثرتها غثّها وسمينها؟ وما مدى جدوى تلك الدعوات التي تنصح بلزوم الكتاب الورقي إذا كان العالم كله قطع مسافات في التحوّل الرقمي والثورة الصناعية في شتى مجالات الحياة؟ ومن المسؤول الأول في المجتمعات عن تعزيز الجيل الجديد بأهمية القراءة المتعمقة والناقدة وجعلها أولوية تشبه الاستعداد لامتحان مهم … بعيدا عن إشعارات الهواتف الذكية المزعجة في مختلف قنوات التواصل الاجتماعي؟ فَـمتى يصل العِطاشُ من هؤلاء إلى ارتواءٍ والماء العذب الزلال يحيط بهم من كل جانب؟!



إرسال تعليق عن هذه المقالة