التحول الرقمي في التعليم العالي: التخطيط لمستقبل التعلم
د. محمود الوائلي
عمادة التعليم الإلكتروني
في عام 2015 تبنت جميع الدول الأعضاء مجموعة من الأهداف يبلغ عددها سبعة عشر هدفا للتنمية المستدامة (SDGs) ، وهي عبارة عن مجموعة من الأهداف والغايات التي تم تصميما لتوجيه الجهود العالمية نحو القضاء على الفقر وحماية الكوكب وضمان أن الجميع يتمتع بالسلام والازدهار. ويتجه الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة على وجه التحديد إلى "ضمان تعليم جيد شامل ومنصف، وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع". ويعد تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة أمرًا مهما وجوهريا؛ لأن التعليم الوسيلة الأهم لإطلاق الإمكانات البشرية واستغلالها بالشكل الأمثل، وكذلك الحد من عدم المساواة.
لقد كانت الجائحة، التي أثرت على مختلف مناحي الحياة عالميا، سببا رئيسا لإعادة التفكير في كثير من الجوانب، وخصوصا تلك المتعلقة بالتعليم، إذ أظهرت الجائحة الحاجة إلى التحول الرقمي في التعليم أكثر من أي وقت مضى، فقد أجبرت الجائحة العديد من المؤسسات التعليمية على التحول لتوظيف التقنيات الرقمية لمواصلة توفير التعليم لطلبتها، وتسارعت وتيرة التحول نحو الرقمنة نتيجة للوباء، وأصبح من الضروري للمؤسسات التعليمية أن تتبنى التحول الرقمي لتوفير تعليم جيد لطلبتها. لكن التحول الطارئ للتعلم الإلكتروني بسبب الجائحة ليس كافيا أن يعد أنموذجا ناجحا لأنه حدث بشكل مفاجئ وطارئ وغير مخطط له؛ ولذلك يجب أن يتضمن التحول الرقمي في التعليم العالي الاستخدام الاستراتيجي للتقنيات الرقمية لتحويل النظام التعليمي بأكمله بشكل مدروس يبدأ من المراحل الأولى ويأخذ كافة الأبعاد والأهداف المرجو تحقيقها. لا يتعلق الأمر فقط برقمنة العمليات الحالية أو بأتمتة بعض العمليات المتفرقة، بل بوضع سياسة مدروسة تحقق أهدافا يمكن قياساه ضمن إطار زمني محدد.
هناك أهداف سامية عدة يمكن أن تتحقق بوضع سياسة واضحة مكتوبة للتحول الرقمي لأي مؤسسة تعليمية. من المؤمل أن أي تحول رقمي ناجح يمكن أن يؤدي إلى تعزيز القدرة التنافسية بين المؤسسات محليا وعالميا، إذ يكسبها ذلك سرعة في الأداء ودقة في الإنجاز والمتابعة والمراقبة بمجهود أقل، كما سيمكنها أيضا من التحكم في التكاليف؛ وذلك عبر استخدام الأنظمة الرقمية والمؤتمتة كليا لتخفيض الكلفة غير الضرورية. إن أي خطة تحول رقمي ستهدف أيضا إلى توفير تجربة أفضل وأكثر مرونة للمستفيدين وأصحاب المصلحة، وهو ما تطمح إليه كل مؤسسة تعليمية. يمكن للمؤسسات التعليمية التي تتبنى التحول الرقمي أن تظل في الصدارة وتجذب إليها أفضل وألمع الطلبة وأعضاء هيئة التدريس إذا ما شعروا أن انتماءهم لتلك المؤسسة يوفر لهم بيئة داعمة وجاذبة.
في الجانب التعليمي، يمكن للمؤسسات التعليمية تقديم تجربة تعليمية شخصية مخصصة للطالب حسب مهاراته وإمكانياته وقدراته، وتوفر له مستوى أعلى من التفاعل. يمكن أيضا أن يساعد استخدام أنظمة التعلم القائمة على الذكاء الاصطناعي في تحديد نقاط القوة والضعف لدى الطلبة، وإنشاء مسارات تعلم مخصصة لهم، كما يمكن لتقنيات الواقع المعزز والواقع الافتراضي أن تخلق تجارب تعليمية ينغمس فيها الطالب بمختلف حواسه لتنتج عن ذلك تجربة تعلم أكثر جاذبية وأطول أثرا.
تلعب الكلية والمؤسسة دورًا مهمًا في هذا التحول، إذ يجب أن تكون الكلية مجهزة بالمهارات اللازمة لرقمنة العمليات وأتمتتها. على سبيل المثال يحتاجون إلى التدريب على استخدام أنظمة إدارة التعلم وإنشاء المحتوى الرقمي وأدوات التقييم عبر الإنترنت. وتحتاج المؤسسة إلى وضع سياسات للتحول الرقمي، وهذا يتطلب تخطيطًا وتنفيذًا دقيقين.
تتمثل المرحلة الأولى من وضع سياسة للتحول الرقمي في تقييم الوضع الحالي للرقمنة في المؤسسة. ما العمليات الرقمية الموجودة حاليا؟ ما وضع الكادر من حيث القدرات والإمكانيات والمهارات؟ يتضمن ذلك أيضا تحديد المجالات التي تتطلب التحسين والموارد اللازمة لتحقيق التحول الرقمي. المرحلة الثانية هي تطوير رؤية واستراتيجية للتحول الرقمي. يتضمن ذلك وضع أهداف محددة، وتحديد التقنيات اللازمة التي ينبغي توفرها، وتحديد الميزانية المطلوبة للتنفيذ. المرحلة الثالثة هي تنفيذ السياسة على أرض الواقع بعد اعتمادها، يتبعها التقييم والمتابعة المستمران.
يجب أن يتزامن وضع سياسة التحول الرقمي مع بعض الإجراءات الضرورية والمهمة لضمان نجاحها، وعلى رأس القائمة تدريب وتطوير مهارات أعضاء هيئة التدريس والموظفين من طريق إجراء مسح للاحتياجات التدريبية، ثم توفير تدريب مهني مخصص لهم، وتحديث البنية التحتية للتكنولوجيا، وتطوير طرق التدريس الذكية التي تتناسب ومقتضيات الثورة الصناعية الرابعة والتغييرات في طريقة تفكير طالب القرن الواحد والعشرين، وتعزيز مشاركة الطلبة، وضمان خصوصية البيانات وأمنها، وتعزيز الشراكات مع الصناعة والمؤسسات الأخرى.
يعد التحول الرقمي في التعليم العالي خطوة أساسية نحو تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة. لا يتعلق الأمر فقط بالرقمنة، بل يتعلق بتحويل المؤسسة بأكملها من طريق الاستخدام الاستراتيجي والهادف للتقنيات الرقمية. ويلعب أعضاء هيئة التدريس والمؤسسة دورًا حاسمًا في وضع سياسة التحول الرقمي المناسبة، وأيضا تحقيقها على أرض الواقع بنجاح، ويمكن لسياسة عالية التخطيط أن تجعل هذا التحول ناجحًا من أجل أن نقدم تعليمًا جيدًا يلبي احتياجات المتعلمين ويعدّهم للعصر الرقمي.