ذللن الصعاب ونلن شرف التفوق
ريهام الحضرمية
نتعجب أحيانا من القدرة التي يمتلكها بعضهم، كيف يقضون يومهم وسط الزحام الشديد بكل قوة وثبات، ونتساءل عن مصدر الطاقة المتوقدة المنبعثة من أعماقهم. كل ذلك وجدته في فاطمة، فتاة خلقت من المستحيل كما يدرك كل من دنا منها وسمعها وهي تسرد تفاصيلها؛ فهي تسابق الفجر في بداية كل يوم يشرق على روزنامة حائطها المرصع بدوائر جمة، وبداخل كل دائرة إنجاز متأهب لاختراق حدودها، والتحرر نحو الحياة.
تتغير الفصول وتبقى فاطمة شعلة حامية، تفارق دفء سريرها مع نسائم صباح شتوي ساقع، وتنجز مهامها المنزلية بكل تفانٍ، ثم تعد الإفطار لتبدأ بعد أداء صلاة الفجر بإيقاظ طفلها؛ لتجهزه للمدرسة، ثم تودعه بقبلة ناعمة، وتلوح له بعد أن استودعته الله. وهكذا تودع فاطمة أفراد أسرتها فردًا فردًا؛ لتبدأ عالمها الخاص. قد يبدو ما أنجزته فاطمة كفيلا بسلب قوة جسدها النحيل؛ ولكن من يدركه الشغف يفارق جغرافية راحته ولا يعود إليها إلا وحلمه في قبضة يديه.
فاطمة طالبة جامعية وأم لطفلين، التقيت بها في أحد فصول الدراسة. طالبة متميزة تدير وقتها في أثناء وجودها في الجامعة بكل دقة، تلصق على غلاف مذكرتها جدولَا يكاد أن يكون مقسمًا بالثواني لا الدقائق أو الساعات. ومنه كانت بداية تعارفنا. سألتها ممازحة: يبدو أن ثقافتك يابانية الصنع؟ فأجابتني: وإن لم تكن كذلك لكانت حياتي "صنع في الصين". ضحكنا وجرت الأحاديث الواحد يتبع الآخر، لتكشف لي عن سيدة عملاقة تسكن بداخل هذه الفتاة المفعمة بالحياة. فعلى الرغم من المسؤوليات الكثيرة التي تشغل فاطمة؛ إلا إنها لم تثنها يومًا عن إكمال طريقها نحو التميز، وهي الآن في فصلها الدراسي الأخير. وبينما يقضى أقرانها أوقات الراحة بين الاستراحة الطلابية والمطعم، تجد فاطمة راحتها بين رفوف مكتبة الجامعة؛ لأن إنجازها الدراسي مقرون بمدة بقائها في الجامعة. لقد أخبرتني بأنها تنجز جميع مهامها الدراسية وتراجع دروسها في الجامعة فقط، لعدم تمكنها من الدراسة حين عودتها إلى المنزل، فالجزء المتبقي من يومها سخرته لأطفالها وعائلتها، وربما هذه المحدودية من الزمن منحت فاطمة الجودة في إدارة واجباتها كأمٍ وطالبة وإنجازها في ذات الوقت.
قرأَت مواضيع عدة تدور في فكرة تجويد الوقت، وأن كفاءة العمل المقدم من أشخاص مقيدين بفترات زمنية معينة يكون أكثر جودة من العمل المنجز بواسطة شخص لديه وقت مفتوح. ففي الجامعة لا يمكنها إلا أن تُخرِج أقصى مهارات الطالب الجامعي، تراجع دروسها، وتنجز واجباتها، وتساعد زملاءها، نعم تساعد زملاءها وإن كان يتراءى لبعضكم أنها هي التي تحتاج للمساعدة؛ ولكن لتفوق فاطمة الدراسي يلجأ إليها زملاؤها دائما لتكون عونَأ لهم على فهم بعض الدروس، ولم تكن لتتردد أبدا في تقديم المساعدة لمن يسألها.
وجدْتُ فاطمة في إحدى المرات منطفئة على غير عادتها، وكان الإنهاك والتعب واضحا على وجهها. سألتها فأخبرتني أنها خسرت درجتين في إحدى نتائج امتحاناتها، فضحكت وقلت: "إنها درجتان فقط، العوض في القادم"، فأجابتني بكلمات لا زالت محفورة على ذاكرتي وتنشط كلما داهمني الكسل أو الخمول عن الدراسة، قالت: "هاتان الدرجتان اللتان ضاعتا لم تكونا لي فقط، الدرجتان هما وقت أطفالي الذي قضيته في الاستعداد لهذا الامتحان، وهي جهد أمي التي بذلته وهي تحضن رضيعتي لاشتغالي عنها، وهي حلمي، وهل هناك ما يعادل الأحلام؟"
آه يا فاطمة، كم من الأوقات التي أضعناها؟ وكم من الدرجات التي خسرنا ولم نُلقِ لها بالًا؟ من أين لك هذا الطموح العظيم؟ وكيف للمرء أن يداري أحلامه كطفل يكبر أمام عينيه؟ لماذا لم تكتفِ فاطمة الأم والطالبة بدرجة تدفعها لإنهاء هذا العبء الثقيل مثلما يعتقد الآخرون؟ هي لا ترضى إلا أن تُشبِع ذاتها بالثقة المطلقة، ولا ترى نفسها إلا أُمًّا ناجحة، وطالبة متفوقةُ، وإنسانة محققة لطموحها.
ما فاطمة إلا نموذج واحد لفاطمات كثيرة في جامعة نزوى، تلك اللواتي تُرفَع لهن قبعات الاحترام؛ سواء كانت فاطمة الطالبة، أم حتى فاطمة الموظفة، فكلتاهما قدوة ومثال للمرأة الطموحة. تهذيب الصعاب وتذليلها في رحلة النجاح جسر يمد نفسه نحو التقدم والإنجاز؛ بينما الاستسلام ومحاولة إسقاط تهم الفشل على الظروف والآخرين ماهي إلا جمود وذبول. فلنكن مثل ما قال الكاتب الأمريكي ديل كارنيجي: "أنا مصمم على بلوغ الهدف، فإما أن أنجح وإما أن أنجح".