السنة 18 العدد 165
2023/03/01

مرفأ الذكريات... شخصية طبعت رقائقها من ذهب

 


 

 

إشراقة: شخصية العدد

 

لقد كانت في قاعة الشهباء بجامعة نزوى، أصبوحة أدبية رائقة نظمها قسم اللغة العربية محتفيا بمشاركته في الموسم الثقافي الثامن عشر لجامعة نزوى (إبداع وابتكار) 2023م ... وعلى صغر حجم النقاش وقلة عدد دقائقه ضمن جدول أعمال فعالية القسم في يومه المفتوح ذاك؛ إلا أنّ إنصاتنا لاستماع رقائقه متعة ما بعدها متعة. قادتنا تلك التجربة الموحية بإنسانية الشاعر وجمال روحه إلى قراءة مختارة لأعذب السير الذاتية التي أسهمت في تكوين ثقافة جيلٍ من المشتغلين بالعمل الفكري والنقدي والثقافي واللغوي في شتى المجالات والمعارف الرصينة؛ بل أتاح لهم مراجع ومصادر تُعدُّ من ثوابت الحركة العلمية؛ خصوصا في دراسات القرآن الكريم واللغة العربية وفنونها.

إنّها سطور ترافقنا مع تجارب شخصية عالم جليل وشاعر نبيل؛ الأستاذ الدكتور سعيد جاسم الزبيدي، أحد علماء اللغة العربية المعاصرين وأستاذ النحو العربي في قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، استحق أن يكون شخصية العدد لإشراقة في شهر تحتفل فيه الجامعة بموسمها الثقافي السنوي؛ لذا نضع بين أيديكم هذه الثمار اليانعة من بساتين ما حصدته أقلامنا.

 

لغة العلماء

يقول الزبيدي متحدثا عن تجربة رسّخت ارتباطه بالشعر وعلوم العربية: "لعلَّ خروجي من البلد جعلني أحنُّ إلى كل ذرة رمل فيه، وكما يقول الجواهري: "وإلى أتفه ما فيه نَحِنُّ"، كنا نَحِنُّ إلى بيوت الطين وإلى جذوع النخل التي كانت تشكل سقفا تسافر فيه العيون إلى أبعد من الليل، وإلى وراء الأفق. أتاحت لي عُمان بشكل خاص فرصةً لأعود إلى الشعر وأنفثُ ما في صدري من شوق ومن ذكريات مَرَّة عليّ مع أسرتي وأصدقائي وأترابي، وإلى المقاهي التي كنت أرتادها، ومنحتي عُمان فرصة لأجل أن أستجدي هذه الصور التي كانت كامنة عندي، فتجسدت في مجموعات سبع؛ ولكنني ما زلت أزعم أنني لست شاعرا؛ فالشعر منبته أن ينصرف إليه الإنسان ولا يشاركه فيه فن آخر؛ لكن النحو استبدَّ بي؛ ولاسيّما في مجال الدراسات القرآنية، فكان انصرافي إلى مهنتي التي أحبها أولا، إذ إنني أفخر وأتشرف أن أكون معلما للعربية".

 

 

 

طرائق

ثمة علاقة شائكة بين الأستاذ الدكتور سعيد الزبيدي والشعر، ازدادت وثوقا واعتضادا في فترات زمنية متعددة جرّاء عوامل أبرزت قيمه الشعرية وتعبيراته وأثره في النفس؛ بيد أنّ هناك ثلاث قصائد لفتت النظر إليه شاعراً، قرأ شيئا من مطالعهن، فالقصيدة الأولى كانت موجهة إلى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، قال له:

"أطلق لسان القوافي أيها الغَرِدُ         فما يشنِّفُ آذانَ الورى أحدُ"

 

والقصيدة الثانية موجهة إلى الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردّوني، قال له:

"القلبُ يبصرُ لا تحزنْ على البصرِ    فقيمةُ المرءِ تبدو في دجا الفكرِ 

أضاءَ دربَك لُبٌّ شاءَ خالقُه              ألّا يوريك حثالةٍ من البشرِ"

 

والقصيدة الثالثة كانت موجهة إلى أستاذه الذي أشرف عليه في دراسة الماجستير، العلم الجليل الدكتور محمد مهدي المخزومي، قال له بعد وفاته:

 "علمتني أن أُمسك القلمَ     وأنَّ لِي ملئَ الحرفِ هذا فما" 

فهذه القصائد جعلت الأنظار تتجه إليه أنه يكتب الشعر.

 

تأثّر وتأثير

الشعر نص إبداعي يطوي دلالات تقدّم فكر الشاعر وعمق اشتغاله الفني. إلا أنّ جوانب النص تكشف عن تجربة الشاعر منذ أول شطرٍ كتبه وبادئ وجهة تولّاها. يتحدث الزبيدي عن ثلاثة معتركات أساسية تقفّى أثرها شاعراً أديبا برع في نقش القوافي، هي: من الشاعران اللذان تأثرت بهما؟ وما سرُّ الجواهري وقصته في كتابة القصيدة؟ وهل يصل الشاعر إلى القافية وهو يلهث؟

 

يجيب عنه: "الأول نزار القباني والثاني محمد مهدي الجواهري، وهذان فتحا لي أمرين، نزار فتح لي المفردة العاطفية الشفافة التي تلامس القلب، وقد تخرج رومنسيتها إلى أبعد من ذلك، والشاعر الجواهري رسَّخ فيَّ احترام المفردة اللغوية التي يعني بها ما توحيه، إذ قال لي يوما ما: "يا سعيد إنني أول ما أكتب القصيدة أستحضر القوافي وأنطلق من القافية في بناء البيت"، وقد رأيت هذا بأم عيني حين رافقته في طريقه من بغداد إلى الموصل حين استضفناه في الموسم الثقافي بجامعة الموصل ... وفي السيارة كنت أرقبه وفي يده ورقة وقلم، ويكتب كلمة أولى في أول السطر وكلمة أخيرة في آخر السطر، فاستغربت ... وحينما نزلنا طلبت منه أن أرى هذه الورقة لكي أنظر ما فيها، فإذا فيها كلمة يبدأ بها الشطر الأول والقافية، فقال لي: "إنني أبني القصيدة على القافية". أقول هذا للنقاد الذين ينظرون إلى أن القافية ثُقلٌ على الشعر أو أنها مسألة قد يصل إليها الشاعر وهو يلهث، وهذا عند الشاعر المصطنع وليس الشاعر الحقيقي الذي لديه الصورة فيستحضر أدوات بنائها، وهذا هو الشعر الحقيقي الذي علّمني الجواهري إياه وكان موفقا أيَما توفيق". 

 

 

 

الصورة الشعرية!

لعل الجدل الدائر في العصر الحديث في التحول الشعري في المعاني والأشكال، يعكس مدى دافعية الشعراء  في تقبّل مدارس الشعر أو رفضها. وقد عبّر الدكتور الزبيدي عن ذلك بقوله: "شعر التفعيلة أصعب مَرْكَبا من الشعر العمودي؛ بسبب هذه المساحة المفتوحة للتفعيلة التي تتحرك طولا وعرضا في استيعاب الصورة الشعرية. أما الشعر العمودي، فيكْمن نجاحه في الفكرة التي يعرض إليها، وفي الصورة الجديدة التي يَصوغها، وليس العمودي محصورا بهذه الأوزان والقوافي، إنّما كيف يستطيع الشاعر أن يطوّع هذه الأمور لصالح الصورة الشعرية".

 

إلذاذ وإفهام

المواقف الإنسانية مثل ما قد تفجّر الشاعرية قد تبلّد الشاعر! هكذا ردّ الزبيدي متفاجئا بسؤال عن المشاعر التي تقوده إلى نظم الشعر، يقول: "لكنني في موافق كثيرة لا أستطيع أن أكتب سطرا، حينما يهزني الموقف، سواء أكان في خارطة العالم العربي أم خارطة الإنسان عموما، فأقف مذهولا أمام مشهد طفل مشرد، يعيش في خيم اللاجئين، فلم أستطع أن أكتب حرفا في هذا الأمر، فالمواقف الإنسانية مثلما قد تفجر الشاعرية قد تبلد الشاعر، فلا يستطيع أن يرقى إلى ذلك المشهد ببيت شعر واحد".  

وإذا كان الكلام وظيفته الإبلاغ والإبانة والإفهام، فإنّ الشعر لصيقًا بهذا التراث اللساني الفصيح. وقد وقفنا على تجربة الشاعر الزبيدي في ذلك لمّا طُلب منه في الختام إلقاء أجمل قصيدة يستحضرها، فقال أكتفي بشطر واحد: "الشعر أن تبكي بلا دمع" ... نقطة على السطر.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة