اللغة العربيّة وإشكالية فهم القضيّة
فهد بن سيف بن علي المنذري
من نافلة القول التأكيدُ على دور اللغة العربية في الإسهام والتفاعُل البنّاء مع الحضارات والثقافات الإنسانية، فذلكَ لا ينكرهُ عاقل، ولا يجهلُ من له أدنى معرفة بعلم اللغات، دورَها الكبير في قضايا التعريب ومظاهر الاشتقاق، التي كانت -وما زالت- سِمةً تمتاز بها عن غيرها من لُغات العالم، التي فتحت نوافذ مشرقة في إطار التبادل المعرفي والثقافي أوصلتها إلى درجة العالميّة، ومصَافِّ اللغات المؤثّرة والفاعلة في العصر الحديث.
ولعلّ أبرز التحديات التي تُواجهُ لغتنا العربية هي تلك العلاقة المتوترة والمهزوزة بينها وبين أبنائها، التي تزدادُ هُوَّتُها مع الأيامُ اتِّساعًا، ومن شواهد ذلك، الجُنُوح إلى استعمال المصطلحات الأجنبيّة في العديد من المعاملات الرسمية ومؤسسات القطاع الخاص، بل قد تنحدر بعضها إلى استعمال اللهجة اليوميّة الدارجة، ومكمن الخطورة في بثِّها وتوظيفها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة؛ مما يخلق التَّساهُل والتّفريط بها لَدى أجيال المستقبل، خُصوصًا بعدما أصبحت تلك المواقع كَلأً مُباحًا أمام الناس على اختلاف فئاتِهم العمرية، هذا بالرَّغم أنّ لغتنا العربية قادرة على تطويع مفرداتها لتتناسب مع حاجة العصر ومتطلباته، نظرًا إلى سعة ألفاظِها وتنوِّعِها، ومُرونتِها في الاشتقاق والتّوليد حسبما يقتضيه الموقف وتُمليه ثقافةُ العصر، فلا يُعقل أنْ تُوصَمَ هذه اللغة التي ملأت العالَم شرقًا وغربًا، وامتلأتْ بها حناجر الفاتحين، واستطاعت أن تفرض وجودها بجدارة واستِحقاق في حركات الترجمة منذ العصور الأولى، بالعجز والهَوان والتراجُع والتّقهقُر عن تلبية معطيات الحاضر والتعايُش مع أساليبه الحديثة.
من هنا يمكن القول إن جانبا من جوانب التطوُّر اللُّغوي الكامن في كينونة لُغتِنا العربية ما يزال غير مكتشف حتى الآن؛ ولكي نعِيَهُ ونكتشفَه لا بُدَّ أن نخلع عباءة الانهزاميّة الفكريّة وتمجيد اللغات الأخرى على حسابِها؛ و ذلك بإرساء خُطَّة تمكين شاملة، تُعيد للغتنا العربية بريقَها وتَوَهُّجِها في الحياة العامة، ومجالسنا اليوميّة، وسهراتِنا وسمَرِنا ونوادي قهوتِنا، ومن هذا الوعيِ المأمول نصبح مؤثَّرين في مُحيطِنا، وبقدر اعتزازِنا بهُويّتنا اللُّغوية نتحوَّلُ إلى قادةٍ مُلْهِمين، وعلينا أن ندرك أن من أولويَّات السيطرة والاستعباد وسلب الحريَّات تحقير اللغة في عيون الشعوب، وهذا ما نشطت إلى تحقيقه قُوى التّفَوُّق الاستعماري، من طريق تشجيع دعوات الكتابة بالحرف اللاتيني، ورفع شعار الرأي والرأي الآخر، ليسْهُلَ عليها بعد ذلك مشاركة العالم العربي أدقَّ تفاصيلِه الثقافية، وبثِّ الأفكار المُعادية للغة العربية بأدوات عربية تحمل ختما أجنبيًّا، وقد يقول قائل إنَّها سُنّة الحياة، وكل ما يحدث الآن نتيجة طبيعية على تفاعُل الأزمنة وتبادُل مواقِعها، ولكنَّ الفكر لا يُجابَهُ إلاّ بالفكر، ولعل محاولة تطبيق خُطة التّمكين الآنفة الذكر، من أبرز البرامج التي تهدفُ إلى إحياء الرُّوح المعنويّة في نمط التّفكير العربي المُثقل بالأعباء السياسية والاقتصادية.
ولا تفوتُنا الإشارة إلى بعض الأدوار الإيجابيّة التي تنهض بها المؤسسات الحكومية و الجامعية، سواء من طريق إقامة المسابقات أم عقد المؤتمرات والندوات والبرامج والورش التدريبية، لا سيما وزارة التربية والتعليم، فجهودها واضحة في هذا المجال، بتطبيق برامج التَّحدُّث بالفُصحى؛ ولكنها حالات تستهدف شريحة معينة ولا تعم جدواها على سائر طبقات المجتمع الأخرى، من هنا ينبغي على الجهات المعينة وضع حلول نوعيّة لترميم العلاقة بين المواطن العربي والقراءة، فالقراءة في مؤلفات الكتَّاب العرب والإبحار في فكرهم يُؤدِّي إلى تقويم اللسان العربي، ولا بأس من تعلُّم اللغات الأخرى، وهو منهج عربي قديم لا كما يحسب بعضهم من أنّ تعليم اللغات الأجنبية جاء وليد الحركات والتيارات المعاصرة، وهنا نعود بأبيات خطّها شاعر عربي في القرن الثامن الهجري تدعو إلى نفي الانغلاق في وجه العقل الغربي، لنستمع إلى صفيّ الدين الحلي (ت 752هـ) وهو يقول:
بقدر لُغـاتِ المرء يكــــثُر نفعُهُ فتلك لهُ عند الملِـــمَّاتِ أعـوانُ
تهافت على حفظ اللُّغاتِ مُجاهِدًا فكُلُّ لســـانٍ في الحقيــقةِ إنسانُ
لذلك أرى أنه من المنطق الانفتاح على أفكار الأمم الأخرى، ولكن ليس بالقدر الذي يجعلننا ننسلخُ عن هويّتنا العربية، و أصالة جُذورها الضّاربة في عُمق التّاريخ.
يبقى القول إنَّنا نتعاملُ مع قضيّة قوميّة حسَّاسة جدًا، فيجب ألَّا نشتغِلَ إزاءَها بقضايا فرعية وهامشيّة، فنحن اليوم مُطالبون قبل أي وقتِ مضى، بتعزيز لغتنا العربية في نفوس أبنائها، قبل الكلام عن شيوع الأخطاء العاميّة فيها، أو تمجيد تاريخها المُشرِّف، أو مظاهر صِلتِها بالثقافة الإنسانية.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف يجب علينا استِغلال وسائل التكنولوجيا الحديثة، وتوظيفها بشكل خاص في إعادة هيبة اللغة العربيّة وثقلها الحضاري، وإقصاء الصورة النمطيّة السلبية المُترَسِّبة في نفوس أبنائها، بفِعل فاعل أو بجهل قيمتِها وأهميتها المركزيّة في حياتِنا المعاصِرة.