الشموع التي تحْلُمُ لا تنطفئ ... "إشراقة" في ضيافة الشعرية العمانية
المبدع الخلاق يستعمل الأساليب البلاغية عفو الخاطر، من وحي ثقافته وقراءاته وتأملاته وعاطفته
لا بأس من الاستفادة من التيارات الأدبية الحديثة في ترجمة النصوص الشعرية ... ولكن!
إشراقة: حوار العدد
حينما يكتب الشعر ينظمه بعيدا عن الضجيج، إذ لا يمكن أن يهدأ له بالٌ أو يستريح، بل يهرب النوم عن مقلتيه، ويتقلب ساعات في فراشه جرّاء تلك المشاعر التي تعتلج خافقه وتضطرم ضلوعه؛ حتى ميلاد قصيدته في هدأة الليل. يقول: "تشرفت أن نهل من معين هذه الجامعة المنيفة -جامعة نزوى- في مرحلة الماجستير، وتخرجت فيها بمرتبة الشرف الأولى في لائحة رئيس الجامعة، ودرَّستُ فيها محاضرا زائرا". في حوار العدد هذا من صحيفة "إشراقة"، نندس قليلا في بوتقة شعره وخصائصه؛ لنتعرف على قصيدته ومآثرها، ونناقش بعض جدليات هذا المحيط وخباياه؛ تزامنا مع احتفاء سلطنة عُمان باليوم العالمي للغة العربية والعالم أجمع.
الدكتور هلال بن محمود بن عامر البريدي، محاضر أول لغة عربية في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى، وأستاذ مساعد زائر في كلية الآداب بجامعة الشرقية، عضو في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، وعضو في اللجنة العلمية الثقافية بولاية نزوى، له بعض الكتب المنشورة، أبرزها: كتاب (مجموع البيان لحسن مكارم الأخلاق على مر الزمان، دراسة وتحقيق) وهو من إصدارات وزارة التراث والثقافة سنة 2013م، وكتاب (الشعرية العربية، وتجلياتها في الحركة الشعرية العمانية) وهو من إصدارات الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ودار مسعى بكندا سنة 2019، وكتاب (سموط الثناء، دراسة وتحقيق) من منشورات دار الغشام سنة 2020م، وكتاب (شعر الشيخ محمد بن مداد الناعبي، دراسة موضوعية فنية) من إصدارات النادي الثقافي بالتعاون مع وزارة الإعلام.
فاز بحثه (ظاهرة الغموض في الشعر، من الاستهجان إلى الظاهرة) بالمركز الأول لسنة 2011 لمسابقة الدراسات والبحوث الأدبية من المنتدى الأدبي، وبحثه: (المنهج التاريخي في النقد، من الأصول وحتى التطبيق) فاز بالمركز الثاني في ذات المسابقة سنة 2009م. له مشاركات في الفعاليات الأدبية والشعرية، والندوات العلمية والملتقيات الثقافية داخليا وخارجيا، وشارك في مناقشة عدد من رسائل الدراسات العليا، وقدّم لبعض المجموعات الشعرية، وله قراءات شعرية عديدة، كما أن له مجموعة شعرية لم تطبع حتى الآن.
س/ كيف يدرك الشاعر مرحلة الوعي بخطورة قضية الانتساب الصادق إلى قصيدته؟
يستطيع الشاعر الوصول إلى هذه المرحلة إذا لم يكن يكتب نصا -لحظة ميلاد النص- ليخاطب به الجمهور، بل يكتب نصا لأنه لم يجد في لحظتها من يسمعه، يكتُبَ نفسَه، ويعبر عنها في أعمق تجليات الانهيار مع الذات، دون أن يضع في الاعتبار المؤثرات الخارجية التي قد تحرف عاطفته ومشاعره وخيالاته عن مسارها، بحيث لا يستنسخ الآخرين في ذاته، حينها نقول إن النص الشعري بات يمثله، ويعبر عما يعتلج في صدره من مشاعر ملتهبة، وأحاسيس مرهفة، ويجيش في خافقه من مكنونات وآلام وآمال وانتشاء وأوجاع.
س/ في لحظة كتابة النص ... من الذي يكون ضيفًا على الآخر القصيدة أم الشاعر؟
كلاهما ضيف على الآخر، فالقصيدة تسكنه، وهو يتسلل إليها شيئا فشيئا، ويحل جزء من روحه في حماها، يكرمها بالرفادة الأدبية عندما تطرق بابه، يرفدها عاطفة صادقة، ويخلي لها من وقته، ويهذب لها المفردات التي تناسب اللحظة الوجدانية، ويتخير لها الموسيقى التي تنغرس فيها بقية المكونات الأدبية، من عاطفة، وفكرة، وخيال، كما لا يخفى أن الشاعر ضيف على القصيدة، لأنه يأوي إليها، ويسكن فيها.
س/ قالوا إنّ الشعر لا يولد من عدم، ولا شعر دون فكرة. أين تكمن قدسية إنصات الشاعر إلى عالمه الداخلي المشبّع بالمعتركات والتطلعات؟
هذا الذي تنبه إليه القدامى شعراء ونقاد، وهي قضية ما يسمى "دواعي قول الشعري"، أو "البواعث الشعرية"، التي هي إما أن تكون شخصية، أو بيئية، أو تأملية كونية، وكلها تؤثر في العاطفة والمشاعر والأحاسيس؛ لتنبثق من ذلك كله ثلاث لحظات عاطفية: عاطفة تسكن الشاعر؛ تحركه لقول الشعر، وعاطفة تسكن النص الشعري، وعاطفة تسري منهما إلى المتلقي؛ وذلك للمشترك الوجداني بين المرسل والمتصل، فإذا لم ينصت الشاعر إلى عالمه الداخلي الخاص به فلن يتمكن المتلقي من سماعه، إنما سيُسمِعَه نسخة أخرى مزيفة منه، إذ فاقد الشيء لا يعطيه.
س/ لغة الشعر تلعب على إيقاع النغم العروضي؛ لذا نجد للقصيدة شكلاً ذا مذاق ولون ورائحة تمتزج في هيئة الإبداع. كيف يفكر الشاعر الدكتور هلال البريدي في القارئ وثقافته البصرية؟
هنا ننتبه إلى طبيعة النص الشعري، هل هو نص موجَّهٌ، أم هو نصٌّ يستسلم للذات، فإن كان للنص رسالة لمتلقٍ ماثل أمام الشاعر، واضح المعالم قبل ميلاد القصيدة، فالشاعر حينها سيضع في الاعتبار النغم الموسيقي الذي يحمل المضمون إليه، بكل ما في ذلك المضمون من عاطفة وخيال وأفكار؛ لأنه من المؤكد أن يكون على اطلاع -قل ذلك أو كثر- على ثقافة المتلقي، وبيئته، وزمانه، أما إذا كان الشاعر يكتب شعرا وجدانيا لا يستهدف به الجمهور في المقام الأول، فحينها عليه أن يغفل كل ذلك؛ لأنه إن لم يفعل ذلك فهو يكتب -إلى حد ما- غيره.
س/ أين تجد الفارق الجوهري بين اللغة الشعرية وفنون الكتابة الأخرى عند دراسة المتن الشعري المعاصر وأدواته ورؤاه الحديثة؟
أنا مؤمن بضرورة فصل الأجناس الأدبية عن بعضها، مع إيماني بأن "الشعرية" واللغة الشعرية هي التي تجعل من الكتابة الأدبية أدبا، سواء كانت خاطرة أم رواية أم قصة قصيرة، أم حتى مقالا أدبيا، والشعر يتمايز عنها ببنيته الخاصة، وفق النظام الذي تواضع عليه الشعراء والمتلقون لأمة من الأمم، وهو -كما نعلم- تيارات كثيرة، منها ما يغلِّب عنصرا من عناصر العمل الشعري على غيره، حتى أن بقية العناصر تكاد أن تمَّحي، ومنهم من يؤمن بتماهي العناصر الشعرية وتعاضدها وائتلافها، وأنا أميل إلى ذلك في شاعريتي، متلقيا كنت أم قائلا للشعر.
س/ هل أعطتك القصيدة فرصة حقيقية للتأمل في ذاتك الشاعرية ونقل مكنوناتها؟ انقل لنا تجربتك في هذا السياق.
نعم؛ فكل نص شعري يقوله الشاعر هو لحظة تأمل وصفاء روحي، وهو من جهة لحظةٌ من لحظات الاعتراف، ولا يكون الأمر كذلك إلا من قوة في الشاعر تتجلى في نفسه أو لحظة ضعف تتشظى في روحه، وهذه هي أزمة الشاعر بينه وبين المتلقي؛ لأن القصيدة تفضحه، ولا تعود بعد أن تصل إلى المتلقي ملكه وحده، بل هنالك من يتقاسمه إنتاج دلالاتها.
س/ كيف تتجلّى صورة اللغة العربية وأساليبها البليغة في قصائدك، خصوصا عندما توظفها في قوة الإنشاء وخدمة الخيال؟
لا أظن هنالك أمة من الأمم اعتنت بمفهوم البلاغة ومصطلحاتها وأساليبها وأصولها وفروعها وتمثلوها في آدابهم كما فعل العرب، والسبب الأول في ذلك ذو منزع ديني... ومع هذا فالمبدع الخلاق يستعمل تلكم الأساليب عفو الخاطر، من وحي ثقافته وقراءاته وتأملاته وبما تقتضيه لحظته العاطفية، والعاطفة هي أكثر العوامل خلقا للخيال، فكلما كانت عميقة مركبة كان الخيال كذلك، وعندما تكون سهلة بسيطة في إزاء الفكرة كان الشعر أقرب حينها إلى الخطابية والمباشرة والوضوح، أما علوم الآلة والبلاغة فهي في مرحلة أخيرة، إذ هي تفيد المبدع في تهذيب نصه الشعري، وتكثيف دلالاته بما هو متاح لديه من أساليب، وهنالك عتب على بعض الحداثيين ممن هجروا أساليب القدماء كلية، وكان الأجدر بهم دراستها وفهمها والبناء عليها بما يتفق مع اللحظة الزمنية التي يعيشون فيها.
س/ ما رأيك في قضية ترجمة الشعر (نقل النص الأصلي للشعر إلى لغة أخرى)؟ هل للشعر لغة واحدة؟
كان الجاحظ قديما يؤمن باستحالة ترجمة الشعر، فقد ذكر في كتابه (الحيوان): "وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يُستطاع أن يُترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب لا كالكلام المنثور" وهو يعني بالشعر هنا الشعر العربي، ليس لأنه يجد الشعر مجرد وزن ونظم، بل لأنه لا يقبل بالشعر العربي إلا حزمة واحدة لا يمكن لها أن تتجزأ، والوزن الشعري الذي يوافق اللسان العربي هو الأرضية التي تنغرس عليها بقية العناصر الشعرية، فلن يبقَ للشعر العربي كيان إذا ما خُرِّبت تلكم التربة وعبث بها العابثون، أما الاتجاه الحديث -وأنا أميل إليه- فلا بأس من الاستفادة من اللغة الشعرية، والتيارات الأدبية الحديثة، بل وحتى النصوص الشعرية المترجمة على يد حصيف أديب خبير بكلا اللغتين، فالشعر هو ذلك الحديث الإنساني ذو المنزع الوجداني الذي لا يمكن قوله إلا شعرا، ولا يعني ذلك بحال استنساخ تجارب الآخرين، بل الاستفادة منهم في تجاربنا الوجدانية الخاصة باللغة الشعرية.
س/ هل النقد ضرورة للشعر؟ وكيف ترى العلاقة بينهما؟
هي علاقة النحلة بالزهور... الشعر الذي يضج بالحياة والعاطفة والإبداع -بلا شك- مقدَّم على النقد، فإن كان الشعر حدائقَ ذات بهجة، بألوانها الزاهية، وأفانينها الوارفة، وأزاهيرها الحلوة الندية، فالناقد هو البستاني الذي نذر حياته عناية بها، وتهذيبا لها. وإن كان الشعر امرأة حسناء تأسر القلوب، فالناقد هو حبيبها الذي شغفته حبا، وأخذت منه لبه وقلبه، وفتنت عقله، وعاهدها أن يمد لها اليد؛ فيسندها إن تعثرت -على حين غرة- بين متاهات الحياة... والعاشق الولهان ليس له -بل لا يمكنه- أن يفرض إرادته على محبوبته؛ لأنه مأسور بمفاتنها، مأخوذ بجمالها.
س/ ما طقوس كتابة الشعر لديك زمانيا ومكانيا؟ اذكر لنا قصيدة عذّبتك تجربتها قبل أن ترى النور ... ولماذا؟
عندما أكتب... فأنا أبتعد عن الضجيج بالقدر الذي يمكن لذاتي أن تتحدث إلي، فلا عجب أن يهرب عن مقلتيَّ النوم، وأتقلب في فراشي ساعات طويلة؛ لأن هنالك مشاعر تعتلج في خافقي، وتضطرم بين أضلاعي، ولا يمكن لها أن تهدأ فأستريح إلا بالبوح ... والبوح هو لحظة ميلاد القصيدة، وكثيرا ما يكون ذلك في هدأة الليل. والشطر الثاني من السؤال هو في حقيقة الأمر أزمة الشاعر أمام المتلقي، ما سبب هذا النص؟ وما الذي قصدته بهذا المعنى؟ وهنا أنصح الشاعر أن يكون حذرا فلا يقع في الكمين، وإنما يترك للمتلقي أن يحرر دلالات النص الكامنة تحت الظلال، التي لربما انبثقت من اللاوعي، لحظة انهزام الشاعر أمام ذاته، ومن ذلك نصي الذي بعنوان: "جموحٌ شَرُود".
كأنَّ النُّورَ في شَفَتِي قَصِيدَة
وهذا البوحُ أغنيةٌ وَليدة
أهيمُ بها فيعصِفُ بي جُنونٌ
ليرحلَ بي إلى لغَةٍ بعيدة
وكمْ داعبتُ عينيها كنجمٍ
أضاءَ بليلِ بسمَتها العنيدة
يشقُّ النبضُ جلمودًا بصدري
كماءِ القطر إذْ يتلو نشيدَه
ألا هلْ تعلمينَ فدتكِ رُوحي
بأنَّ العشقَ أسكنَكمْ وريدَه
أطالعُ في مرايا ذكرياتي
بقايا مِن دفاترِها الوئيدَةْ
وألثُمُ بوحَها شغَفًا شَرُودًا
أُعَتِّقُهُ لأزمانٍ مديدةْ
زرعتُ مِنَ الجَمَالِ رياضَ حُبٍّ
وعاطفةً مُجَنَّحَةً فريدة
كبَّحارٍ... إذا عَشِقَ الأمَانِي
فمَن يقوَى هنالكَ أنْ يُعيدَه
جعلتُكِ فِي أناجيلي صلاةً
وفي دينِي محبَّتكمْ عقيدة
ألا انسكبِي كطُوفانٍ بدرْبي
وكونِيْ وَسْطَ أحلامِي وَحِيدَة
س/ الآن ... ماذا يعني لك أن تكون شاعرا؟ وكيف تنظر إلى ذكرياتك مع أولى القصائد التي كتبتها؟
البدايات هي الطفولة، وللطفولة ذكريات تضج في أنفاسنا حتى الممات، لا يمكن لنا أن ننكرها؛ لأنها تطاردنا كالظلال، وقد شاركت قبل أيام في أمسية شعرية بجامعة الشرقية، فما كان مني إلا أن أتخير القصائد التي قلتها قبل نحو 20 سنة، وأنا لا زلت حينها طالبًا في مرحلة البكالوريوس... وقد كانت البدايات الأولى بمشاركتي في مهرجان الشعر العماني الثالث المنعقد في صلالة سنة 2003م.
أما فيما يتعلق بالشطر الأول من السؤال، فأنا ممن لا يهتمُّ كثيرا بالأضواء، وأرتاح أن أعيش في الظلال، أن أكون شاعرا؛ فذلك يعني أن أكون إنسانا نقيًّا بسيطا يواجه تشظيات الحياة بالبوح الشفاف، أن أكون شمعةً حالمة؛ فالشموع التي تحْلُمُ... لا تنطفئ.