التوأمان في فندق رتان أرجان ببيروت
بقلم: حمود بن عامر الصوافي
على هامش المؤتمر العلمي الدولي الثالث، الذي تنظمه: (مؤسسة منارة للتنمية والتعليم) بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث- الجامعة العراقية، المنعقد في العاصمة اللبنانية بيروت. نزلت بالمصعد من الطابق الحادي عشر إلى الأول برفقة الأستاذ الدكتور فليح السامرائي والدكتور يعقوب أولاد ثاني، إلا أن اثنين من رواد الفندق ضغطا على زر المصعد في الطابق العاشر، فسلما علينا والابتسامة العريضة لا تفارق وجنتيهما.
كان هندامهما يوحي بشيء، ونظراتهما مملوءة بالأسئلة، فشدني الموقف، وبهرتني تلك الحيرة التي لاحت على محياهما. كانا يلبسان لباسا بنيا فاتحا، وكأنهما توأمان، قلت لأصحابي: من هؤلاء التوأمان؟ لم يكونا يعرفانهما. فخلت أنهم من المشاركين في المؤتمر، وأن جل المشاركين العراقيين في المؤتمر لبسهم موحد.
فلما نزلنا إلى الطابق السفلي، وجدت الألبسة مختلفة، والثياب متنوعة، والوجوه متباينة، فقلت في نفسي: يوجد سر في لباس التوأمين. كان التوأمان في مخيلتي طوال تلك الساعات، أنتظر مجيئها؛ لأسألهما أو أستفسر عنهما، إلا أن الظروف حالت دون ذلك؛ فقد ذهبت في حاجة أول الصباح ولم ألتحق بالمؤتمر إلا قرب انتهاء الجلسة الأولى. وتفاجأت وأنا أتقدم إلى الصف الأول بمنادٍ ينادي على الرئيس والمقرر للجلسة الثانية من المؤتمر، فولجت إلى المنصة برفقة الرئيس: الأستاذ الدكتور عماد جاسم حسين.
كان الدكتور عماد يدير الجلسة بهدوء وسكينة، وأريحية وثقة نفس؛ وكنت أستمع إلى حديثه بإنصات، وإلى كلماته بإصغاء، وقد بدا لي أني أعرفه منذ زمن، وأنه يتوافق معي في كثير من الأمور؛ فقد كان يملك -فيما يبدو- حسا أخويا، وذكاء اجتماعيا في تعامله مع الآخر. وربما لا يكون هذا الأمر غريبا على العراقيين، وإنما المدهش وجود ازدواجية بين أعمال الرئيس والمقرر، ولم تكن هناك معرفة أو دراية في اختصاص كل منهما، وقد تحتّم البيئات الاختلاف في مثل هذه الأمور، والتباين في وجهات النظر إلا أن إدارة الرئيس والمقرر لهذه الجلسة قد تماهيتا معا، وتوافقتا في لمح البصر.
ولم يكن هذا الاتفاق تقليدا للجلسة الأولى، أو تمردا على إدارة المؤتمر، وإنما يمكن أن يقال: (تكتيك) محكم، وخطة ألمعية إلا أنها اصطدمت مع الأستاذ الدكتور أحمد عبد الستار، إذ قال لي: سأتمرد على قرارك في الالتزام بسؤال واحد! لم أرغب أن أرد عليه، أو أمنع تمرده (كما زعم) بل ابتسمت في وجهه ابتسامة ماكرة! وإذا عُرف السبب بطَل العجبُ؛ إذ إن الباحثين في الجلسة الثانية قد أعطونا دقائق ثمينة لم يستنزفوها، إلا أننا لم نرد أن نهديها مباشرة إلى المناقشين؛ لكي لا يطمعوا بالمزيد، أو يغالوا في الأسئلة، ولكننا أنقصنا إلى الحد الأدنى؛ لتوقعنا زيادتهم. وهذا مسلك معروف ومجرب، يوظفه من يعمل في القضاء، أو يتعامل مع الطلبة؛ فقد يطلب شيئا كثيرا منهم؛ ليحصل على القليل؛ لذلك لم تكن ابتسامتنا ضعفا أو تهاونا في الإدارة، وإنما هي خطة محكمة لتلافي أي عيب أو نقصان في عرض الأبحاث.
ولما اعتليت المنبر في الجلسة المسائية الثانية لإلقاء ورقتي، أثنيت على المؤتمر وقائده الأستاذ الدكتور حذيفة السامرائي (التوأم الأول)، ووقعت في أثناء ذلك عيني على الأستاذ الدكتور أحمد عبد الستار، الذي لم أكن أدري أنه توأم آخر في إدارة مؤسسة منارة المشرفة على المؤتمر، إلا أن تلك العيون أشعرتني بشيء غير طبيعي، وقد قيل في شأنها: وإذا العيون تكلمت بلغاتها *** قالت مقالا لم يقله خطيبُ
فما هي إلا لحظات حتى تيقنت أنه الرجل الثاني في المؤسسة، وأن سر التوأمين قد تكشف لي أخيرا. فلما نزلت من منبري اعتذرت إليه؛ لكوني لم أتفهم تلك العيون التي كلمتني، والنظرات التي حدجتني؛ ولكنه هون من أمري متواضعا، قائلا: "حذيفة قائدنا؛ فلا تعلو العين على الحاجب".