كل يوم ولو خط واحد
للكاتب: جارانس كوجينج
ترجمة: سامية أحمد السليماني، موظفة في كلية العلوم والآداب
ابتداءً من الرسام الإغريقي أبيلي إلى التشكيلية المعاصرة فابيان فيردييه، هناك حكمة في الرسم كل يوم ولو خطًا واحدًا.
يقول الرسام البريطاني المعاصر رالف ستيديمان في كتابه "حياة من حبر": "أرسم كل يوم تقريبا دون أدنى فكرة أين سيأخذني ذلك ... آخذ ورقة فارغة وتكون البداية. قليل من يصدق أنني أرسم كل يوم بانتظام كما يفعل أي موظف في أي مكتب. أحضر في الوقت المحدد وأبدأ يوم عملي كأي موظف آخر".
يعكس وصف الفنان رالف ستيديمان (ولد في 1936) روتين عمله شعار "كل يوم ولو خط"، الذي اقتبس من الرسام الإغريقي أبيلي (الألف الرابع قبل الميلاد)، الذي كان من أشهر الفنانين في عصره، ورغم أن أعماله لم تبق حتى عصرنا، إلا أن القصص والأساطير المرتبطة بفنه كانت متناسخة عبر العصور.
قال الفيلسوف الروماني بيلينيوس الأكبر متحدثا عن أبيلي وروتين الرسم اليومي الذي تم اختزاله في عبارة واحدة: "علاوة على ذلك، كان شأن أبيلي أنه لا يترك يوم عمل مهما كان مشغولا دون أن يمارس فنه ولو خط، وانتقل هذا عنه كمثل شعبي".
ومنذ ذلك الوقت استخدم الكتاب والرسامون على حد سواء هذا الشعار تعبيرا عن التزامهم تجاه فنهم. فكتبه إيميل زولا فوق مدخنته، ورسمه بول كلي على إحدى رسوماته عام 1938. وكانت الترجمة الألمانية للشعار عنوان المعرض الذي ضم جميع أعماله في 2006.
واقتبس جون بول سارتر في كتابه "الكلمات" مقولة الفنان الإسباني المعاصر أنتونيو سورا (1930-1998) "في هذا العام، سأرسم كل يوم رسمة، قد تكون صورة في خبر في الصحيفة أو أي صورة أخرى. سأجعل هذه الفكرة شغلي الشاغل".
يا ترى ما الذي قد يجعل هذا الشعار صالحا على مر القرون؟ ما القوة التي يعد بها من لديه مساع إبداعية؟
في رأيي الذي استلهمته من القصص التي قرأتها وممن أنا على اتصال بهم، ومن نيتي الشخصية كي أواصل الرسم كل يوم هذه السنة، بأن العمل بهذا الشعار يمكن الشخص من بناء علاقته المتفردة بالإبداع بتدرج وتقويتها. في النقطة التي يتقاطع فيها فن العادات (فعل شيء بانتظام - في هذه الحالة كل يوم)، وعادات الفن (رسم أو كتابة الخطوط) أجد هذا الشعار معززا لجوانب أساسية في ممارسة الرسم، منها:
-
عقد صداقة مع الإبداع بالتركيز على العملية عوضا عن النتائج.
-
تطوير الحرفة بالتركيز على الكم عوضا عن النوع.
-
صنع فن شخصي خاص عبر دمج التجربة الحياتية بالفن.
-
الوصول إلى جوهر التعبير برسم خط واحد.
-
جلب الإبداع إلى حياتنا – طقوس عقد صداقة مع الثعلب.
عندما ننوي البدء في روتين إبداعي، قد يشعرنا ذلك بالخوف. من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ في حياة تحفها المشاغل، إذ بالكاد نجد الوقت لعمل الأشياء التي يجب علينا القيام بها، كيف نجد مكانا للاكتشاف الماتع وغير المقيد لإبداعنا؟
في الفصل الشهير من قصة سانت إكزوبيري، يصادف الأمير الصغير ثعلبا بريا، ويبدآن في الحديث. طلب الصبي من الثعلب أن يلعب معه. فيجيبه الثعلب أنه لا يمكنه ذلك بما أنه غير مروض.
فاعتذر الأمير الصغير من الثعلب سائلا إياه عن معنى "مروض". ماذا تعني؟
قال الثعلب: "هو فعل غالبا ما يتم تجاهله، ويعني أن تكون روابط".
"وكيف يتم ذلك؟" سأل الصبي متعجبا. فقال الثعلب موضحا أن ذلك يأخذ وقتا، ويحتاج إلى الصبر والانضباط، وأن هذه القيم هي الطريق لبناء الصداقات.
أجاب الثعلب: "يجب أن تتحلى بالصبر". " أولا ستجلس على مسافة بعيدة مني، هكذا في العشب. وسأنظر إليك بزاوية جانبية، ولن تقول شيئا. فالكلمات هي أصل سوء الفهم. لكنك ستجلس على مسافة أقرب مني كل يوم...".
قد نشعر تجاه أي عمل إبداعي كهذا الكائن البري، فقبل أن يكون جزءا من حياتنا يبدو ككائن غريب لا نعرفه، جميلا من بعيد لكنه لا يرغب بالتعاطي معنا. فيكمن دورنا بإظهار الصبر تجاهه، والتقرب منه شيئا فشيئا، يوما بعد يوم، خطا كل مرة.
الانتظام والتوقعات المنخفضة – بناء الثقة بالنفس
رؤيتنا للذي نطمح لتحقيقه، الأهداف بعيدة المدى قد تكون مصدر إلهام، وقد تكون من جهة أخرى مصدر إحباط. فنحن نضع لأنفسنا في بعض الأحيان أهدافا لا تتكافأ ومهاراتنا الحالية وأسلوب حياتنا. ونتيجة لذلك عندما نخفق في تحقيقها ندمر ثقتنا بأنفسنا، التي نبنيها من قدرتنا على تقدير الوعود التي نعقدها مع أنفسنا.
في المقابل الشعار محور الحديث يعكس هدفا صغيرا. لابد من التزام فالممارسة يومية، لكن لا مجال للفشل حرفيا على الأغلب. بإمكاننا رسم خط واحد مستقيما كان أم متعرجا ونكون بذلك قد وفينا بوعدنا.
من كتاب "حياة وآراء تريسترام شاندي" للكاتب لورنس ستيرن
ويسهم الالتزام بتحقيق أهدافنا في بناء ثقتنا بأنفسنا تدريجيا، الأمر الذي نحتاجه عند الوفاء بالتزامات أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، فبينما نحن جالسون ونفكر في رسم ذلك الخط نكتشف أننا نريد أن نرسم مدة أطول، فقط خطا واحدا آخر، ثم نعيد الكرّة. فينتهي بنا المطاف بفعل ما لم نتوقع في مقدورنا عمله.
هذه النية هي بمثابة لكزة لنا لنبدأ، ببساطة عبر إحضار ورقة وقلم، إذ لا يتضمن الأمر نتائج بتوقعات عالية. فهو لا يعدو كونه نشاطا تأمليا يوميا نثق بأن له قيمة جوهرية بغض النظر عن الهدف.
فنحن عندما نضع أهدافنا بعيدة المدى جانبا ونبدأ بالتركيز بالعملية نفسها، يمنحنا ذلك الاسترخاء واكتشاف أبواب مغلقة والفضول تجاه ما يستجد. كما يقول رالف ستديمان: "أرسم كل يوم تقريبا دون أدنى فكرة أين يمكن أن يأخذني ذلك...".
عندما لا نركز على الرؤية الشاملة لطموحنا، نحن نكوّن علاقة مع العمل الفني نفسه، ونبني ثقتنا من طريقه. شيئا فشيئا كتكوين صداقة مع أحدهم. يذكرنا ذلك بالعلاقة التي كونها الرسام الكرتوني أوزفالدو كافندولي مع الشخصية التي يرسمها بخط واحد في مسلسله الكرتوني "الخط" La Linea.
تطوير الحرفة بالتركيز على الكم عوضا عن النوع – التخلي عن المثالية
بعد أن نكون هذه الصداقة مع الإبداع، هذا الاتصال اليومي، ماذا بعد؟ على ماذا نركز؟ وكيف يمكننا أن نطور مهارتنا؟
خلافا للمتوقع، تطوير حرفة ما يكون من طريق التركيز على الكم وليس على الكيف. ففي كتابه "الفن والخوف" يشاركنا ديفيد بايلس قصة أستاذ الفخاريات: "أخبر أستاذ الفخاريات الطلبة في اليوم الأول أنه سيقسم الفصل إلى مجموعتين. سيتم تقييم الطلبة الجالسين في الجانب الأيسر من الأستوديو بناء على كمية الأعمال التي سينتجوها، بينما الجالسين في الجانب الأيمن سيقيمون بناء على جودة العمل الذي سينتجوه. وفي آخر يوم للفصل سيحضر الأستاذ الميزان ليزن أعمال المجموعة الأولى، بينما يحتاج طلبة المجموعة الثانية أن يقدموا عملا فخاريا واحدا مثاليا ليحصلوا على نتيجة عالية".
وحين حان وقت التقييم ظهر ما أثار الفضول، أنتجت المجموعة التي تم تقييمها بناء على الكمية أفضل الأعمال جودة. فاتضح أنه بينما كانت المجموعة الأولى مشتغلين في صنع كميات من الفخار ويتعلمون من الأخطاء، عكف طلبة المجموعة الثانية ينظرون عوضاً عن إنتاج عمل متقن فانتهى بهم المطاف بتقديم كم من النظريات وكتلة من الطين الميت.
بالرغم من عدم قدرتي على إيجاد مصدر هذه القصة الأصلي، إلا أنني أجدها تعكس حقيقة فطرية، فعندما يكون الهدف طموحا جدا، يصبح البحث عن الكمال عائقا بعد فترة وجيزة.
في الجانب الآخر، التركيز على الإنتاج بغض النظر عن جودته يمكننا من أن نتحسن رويدا رويدا تدريجيا وباستمرار.
دمج التجربة الحيوية بالفن
النقطة الثالثة التي بسببها أرى هذا الشعار جميلا هو أنه يمثل نقطة التقاء الحياة بالفن. فالعمل الإبداعي وإن لم يكن بحد ذاته تجربة حياتية، فهو ينمو بغنى الحياة اليومية، كما يغنيها أيضا بالمقابل.
وضح نيل جيمان ذلك في نصيحة صريحة في كلمة التخرج التي ألقاها في 2012: (اصنع فناً) ... "عندما تمر بوضع صعب، هذا ما يجب عليك فعله، أن تصنع فناً. سيختفي ألمك بمرور الوقت. اصنع فناً في الأيام الصعبة، وفي الأوقات السعيدة أيضا".
الفن، ورسم الخطوط، وكتابة السطور كل يوم، يمكّن للفن أن يمتزج بتجاربك اليومية وبفنك الخاص. يقول نيل جايمن مكملا حديثه: "عندما تبدأ، اصنع فناً أصيلاً. افعل ما ليس بمقدور أحد سواك فعله. فالشيء الوحيد الذي تملكه ولا يملكه غيرك هو أنت. صوتك، عقلك، قصتك ورؤيتك. فاكتب، وارسم، وابنِ والعب وارقص بطريقتك أنت".
الغوص في عمق الممارسة، القوة الكامنة في رسم خط واحد فقط.
رسم الخطوط يبرز الأسلوب
وقد يتساءل بعضهم، هل بالفعل يمكن للشخص أن يكون له ملكة إبداعية وحسا فنيا برسم خط فقط؟ هل يمكن لأحد أن يضع بصمة متفردة برسم خط؟
بإمكان كل من يحاول أن يرسم أن يشعر بأن الأثر الذي تتركه يد كل منا، وقلمه أو فرشاته بالسطح المرسوم فيه فيها نوع من التفرد. لكل منا طريقته في تتبع الخطوط بغض النظر عن مدى مهارته. فيستطيع أي منا التعرف على أسلوب الفنان من الخطوط التي يرسمها، فمن طريقها يمكن تلمس طاقة مميزة، تركيزا وإحساسا وسرعة مختلفة.
يقول مارك فالي وآنا إبارا في كتابهما: "فن الرسم: كن محايدا": "يفعل الرسم ما لا يمكن لأي برنامج معالجة أن يفعله، أن يقرأ أفكارك. فيعد الخط المرسوم الرابط المباشر بين الحس الفني للفنان وبين العالم المحسوس: الطريق المختصر بين المادي والمعنوي".
وقد يزعم بعضهم أنه أكثر من ذلك، فالخط المرسوم هو الطريق المختصر بين إحساس الفنان ومشاعره وفكره وبين العالم المادي".
التدريب بلمسة الفرشاة
يعد مفهوم لمسة الفرشاة الواحدة أو الخط الأساسي في صميم فن الرسام والخطاط والشاعر والراهب الصيني شيتاو.
عرفت عن التركيز على الخط في الفن الصيني لأول مرة، من طريق السيرة الذاتية للفنانة التشكيلية الفرنسية المعاصرة فابيان فيردييه.
في كتابها "فرشاة التنين: رحلة إلى الصين بحثا عن معلم" تحكي فيردييه عن مساعيها لتعلم الفن التشكيلي التقليدي. وكونها طالبة للفنون في فرنسا في الثمانينيات، تمكنت من الحصول على فرصة للتبادل الطلابي في كلية للفنون في الصين. وبالرغم من تلقيها للمفاهيم والتقنيات، لم تدرس تقنيات الفن التقليدي، إذ إن مدرسيه ممنوعون من التدريس في الجامعات.
وتمكنت بعد أشهر من الالتقاء بأحد المعلمين القلة المتبقين من الممارسين لهذا الفن. وقبل المعلم بتعليمها بعد ستة أشهر من إرسالها لأعمالها له.
وكان أول درس لها عن قوة الخط. يقول موضحا لها القوة الكامنة في لمسة فرشاة واحدة وخط واحد: "ستبدأين برسم لمسات بالفرشاة فقط ومدة أشهر. في الرسم الصيني لمسة الفرشاة هي اللبنة لبناء كل شيء، هي الحجر التي نبني بها بيتا. يجب أن يكون لديك أساس قوي، ولمسة الفرشاة الأفقية هي الأساس. ولن ننتقل إلى الأنواع الأخرى حتى تنجحين في بث الحياة في اللمسة الأفقية".
أرى جمالا منقطع النظير في تلك الإشارة للقوة المعبرة للمسة الفرشاة أو الخط.
وبذلك فإنه بخط واحد أو بألف خط يمكننا تبنّي ممارسة مثالية تمكننا من عقد صداقة مع الإبداع، وتكوين علاقة متفردة وطويلة المدى معه. فهذا الخليط من الخفة، والاستمرارية، والبساطة والجوهرية هو ما يشدني تجاه هذا الشعار الإغريقي النبيل "كل يوم ولو خط".
المصدر: